يمر الطفل في نموه اللغوي بمراحل عدة قبل أن يصل إلى مرحلة اكتساب اللغة (عبد العظيم: 1992: 18). فمن خلال التفاعل مع البيئة، وعبر مسار النمو الذاتي يمر عقل الطفل بحالات متتابعة تتمثل فيها البنى المعرفية، بالإضافة إلى أن هناك تغيرات سريعة تحدث للغة الطفل. وفيما يأتي عرض سريع لأهم المراحل التي يمر بها نمو الطفل اللغوي، والتي يمكن إجمالها في مرحلتين كبيرتين (كرم الدين: 1990: 18):
1- المرحلة الأولى- مرحلة ما قبل الكلام:
وتشمل هذه المرحلة الكبيرة مراحل عدة صغيرة، هي:
أ- صيحة الميلاد:
وهي التي تبدأ بها مظاهر الحياة عند الطفل، وتنتج عن اندفاع الهواء بقوة عبر الحنجرة في طريقه إلى الرئة، فتهتز الأحبال الصوتية لأول مرة، وتصدر عن الطفل صيحة تسمَّى "صيحة الميلاد"، وتختلف هذه الصيحة من طفل لآخر، وذلك حسب حالته الصحية، أو نوع الولادة، فصيحة القوي حادة وصيحة الضعيف خافتة ومتقطعة.
ب- مرحلة الأصوات الوجدانية (الصراخ):
تتطور صرخة الميلاد فتصبح صراخاً معبراً عن حالة الطفل الانفعالية أو الوجدانية، وعن رغباته النفسية، فالصرخة الرتيبة المتقطعة تدل على الضيق، والصرخة الحادة تدل على الألم، والصرخة الطويلة تدل على الغيظ والغضب.
ويرى كثير من العلماء أن للصراخ أثراً واضحاً في تقوية الجهاز الصوتي عند الطفل، ويجعله مؤهلاً للانتقال إلى المرحلة التالية (لابرجير: 1987: 14-15).
جـ- مرحلة الأصوات العشوائية:
وهي أصوات غامضة، وعشوائية، وغير منظمة، ولكنها متكررة، وتعتبر هذه الأصوات اللبنة الأولى للحروف والكلمات.
د- مرحلة المناغاة:
وتبدأ من بداية الشهر الثالث من عمر الطفل، وتستمر حتى نهاية العام الأول بداية نطق الكلمة الأولى. وتكون المناغاة في صورة تكرار مقاطع متشابهة، ثم تتطور إلى أنغام يرددها الطفل في لعب صوتي، ثم يستطرد في تنغيمه حتى يكتشف بنفسه جميع الدعائم الصوتية لأية لغة يتحدث بها النوع الإنساني، وهكذا حتى يستطيع النطق بالأصوات اللغوية، فيبدأ أولاً بأصوات الحلق المرنة مثل: (ع، غ)، ثم يتطور به النمو إلى حروف سقف الفم، ويستمر هذا التطور حتى ينتهي إلى الحروف الشفوية مثل (ب، م).
هـ- مرحلة التقليد والاستجابة:
حيث يستجيب الطفل أولاً لحالاته النفسية، وانفعالاته الداخلية، ثم يستجيب للأصوات البشرية المحيطة به فيما بين الشهر الثاني والشهر الثامن من بدء ميلاده، فيصيح معبراً عن سروره أو عن رضاه، ثم يتطور به الأمر فيقلد الأصوات التي يسمعها؛ مما يضطره إلى إجادة الاستماع، والإصغاء، والانتباه إلى كل صوت يصل إلى مسامعه.
2- مرحلة الكلام الحقيقي وفهم اللغة:
حيث يتمكن الطفل في هذه المرحلة من فهم الكلام الحقيقي واستخدامه بطريقة سليمة، ولكن ذلك لا يعني أن الطفل اكتسب جميع المهارات اللغوية التي يتقنها الكبار، فذلك يحتاج إلى زمن طويل. ويمكن تقسيم مرحلة الكلام الحقيقي وفهم اللغة إلى مراحل عدة هي:
أ- فهم حديث الآخرين دون القدرة على استخدام لغة الحديث: إذ يستطيع الطفل في هذه المرحلة فهم لغة من حوله قبل أن يتمكن من استخدام اللغة بفترة طويلة. كما يستطيع أن يفهم ما يُطلَبُ منه، ويطيع الأوامر التي تُوجَّه إليه، وأن يقوم بأشياء محددة تطلب منه.
ب- الكلمة الأولى: تظهر الكلمة الأولى -غالباً- عن الأطفال العاديين في الشهر الحادي عشر من عمره، وقد تكون قبل ذلك أو تتأخر إلى أكثر من ذلك، ومن هنا يقدِّر العلماء لظهور الكلمة الأولى من تسعة شهور إلى خمسة عشر شهراً من عمر الطفل.
وتجب الإشارة هنا إلى أن الكلمة الأولى تكون محددة الدلالة، مثل: (ماما) وتعني الأم، و(بابا) وتعني الأب … وهكذا.
جـ- تطور المهارات والمكتسبات اللغوية: حيث تزيد في هذه المرحلة عدد المفردات التي ينطقها الطفل، وتستمر هذه المرحلة حتى الشهر الثامن عشر أو السنتين، وقد تصل عدد المفردات في عمر السنتين (50) كلمة، ثم يدخل الطفل مرحلة جديدة.
د- مرحلة الكلمة الجملة ( كلام التلغراف): يكون ذلك في السنة الثانية من عمر الطفل، حيث يُعبِّر الطفل عن الجملـة بكلمـة أو كلمتين، وهي ما تعرف بلغة البرقية، ولكن المعنى المقصود لا يفهم إلاّ من خلال السياق، وقد يستعين الطفل في هذه المرحلة بالإشارة لتعويض النقص في الكلمات. ثم يتدرج الطفل حتى يصل إلى مرحلة التراكيب، ثم إلى التحدث السليم باللغة الصحيحة.
هـ- مرحلة السؤال: وهي ما بين سنتين إلى ست سنوات (2-6)، وتكثر فيها أسئلة الطفل لرغبته في معرفة كل ما يثير انتباهه، وفهم كل ما يمر به من خبرات. ويلاحظ في هذه المرحلة سرعة النمو اللغوي للطفل، وكثرة تحصِّله على المفردات اللغوية، كما يلاحظ قدرة الطفل –في هذه المرحلة- على التعبير عن ذاته، بالإضافة إلى التوافق النفسي، والشخصي، والاجتماعي. ويهتم علم اللغة النفسي بهذه المرحلة من عمر الطفل لأهميتها في تكوين شخصية الطفل.
العوامل التي تؤثر في نمو الطفل اللغوي:
يتأثر النمو اللغوي للطفل بعوامل مختلفة، يتصل بعضها بالطفل نفسه، وبعضها الآخر بالبيئة التي يعيش فيها (عبد العظيم: 1992: 45).
فبالنسبة للعوامل التي تتعلق بالطفل نفسه فهناك نسبة الذكاء، وسلامة الجهاز العصبي، وسلامة الأجهزة البصرية والسمعية والنطقية، وطبيعة الجنس (ذكر أو أنثى)، فالأنثى تسبق الذكر في بدء نطقها بالكلمة الأولى.
أما العوامل التي تتعلق ببيئة الطفل فقد دلت التجارب والبحوث على أن الأطفال الذين يعيشون في بيئة اجتماعية، واقتصادية جيدة أسرع، وأدق، وأقوى في بداية نطقهم من أطفال البيئة الاجتماعية، والاقتصادية الدنيا.
وهناك عوامل أخرى كثيرة تؤثر في نمو الطفل اللغوي، منها: تعدد خبراته، واتساع نطاق بيئته، ومدى اختلاطه بالبالغين الراشدين، والمكان الذي ينشأ فيه، فهل هو بين أهله وذويه؟، أو يتيم الأب أو الأبوين معاً؟، أو يعيش في ملجأ؟، أو غير ذلك من الأمور الأخرى؟.
أهمية دراسة النمو اللغوي للطفل في خدمة المجتمع:
لم يأتِ اهتمام العلماء والدارسين بالنمو اللغوي للطفل، واكتسابه اللغة من قبيل الترف العلمي، وإنما جاء لأغراض سامية تفيدنا في مجالات عدّة، منها:
1- معرفة حقيقة النمو الحركي للطفل:
فقد أثبتت الدراسات التي أجراها علماء النمو أن هناك علاقة وثيقة بين النمو الحركـي، والنمو اللغوي للطفل، فالأطفال الطبيعيون يبدأون المشي قبل أن يبدأوا الكلام، فقد لاحظ العلماء حالات كثيرة توقف فيها النمو اللغوي حتى تمت السيطرة على المهارات الحركية، كما لاحظوا حالات أخرى انخفض فيها معدل التقدم في النمـو اللغـوي لصالـح المهارات الحركية (زهران: 1990: 135). وقد حاول بعض العلماء وضع جدول يجمع بين مراحل النمو اللغوي ومراحل النمو الحركي. فمثلاً يرون أن الطفل بعد اثني عشر أسبوعاً يبتسم للحديث، ويصدر صوت القرقرة، ويرفع رأسه عند النوم على بطنه. وفي الأسبوع السادس عشر يلتفت نحو من يتكلم، ويلعب بلعبة إذا أمسكها. وبعد ستة شهور يصدر مناغاة تشبه المقاطع اللغوية، ويمد يده ليأخذ شيئاً، وهكذا يربطون بين النمو اللغوي والنمو الحركي.
ولذلك يرى العلماء إمكانية اكتشاف الإعاقة الحركية، أو الجسدية من خلال النمو اللغوي عند الطفل بعد مقارنته بالنمو الحركي (راتب: 1994: 119).
2- الاكتشاف المبكر لمشكلات اللغة عند الطفل، وعلاجها:
ومن ذلك التأخر الناتج عن نقص في القدرة السمعية عند الطفل، فالسماع هو أول خطوات تعلم اللغة واكتسابها، ويختلف التأخر اللغوي باختلاف طبيعة الضعف في السمع، ويساعد اكتشاف ضعف السمع عند الطفل مبكراً في معالجة التأخر اللغوي في الوقت المناسب قبل استفحال المشكلة، وذلك من خلال معالجة ضعف السمع أولاً.
3- الاكتشاف المبكر لمشكلات النطق والكلام، والمساعدة في علاجها:
مثل التأتأة، واللجلجة، وعسر الكلام، وغير ذلك من مشكلات النطق والكلام. فإن الاكتشاف المبكر لهذه المشكلات يتيح لنا سرعة علاجها، وعدم تفاقمها، وأحياناً القضاء عليها تماماً (فهمي: بدون: 50).
المصادر والمراجع:
1- راتب، أسامة: 1994، النمو الحركي، الطبعة الثانية، دار الفكر العربي، القاهرة- مصر.
2- زهران، حامد: 1990، علم نفس النمو "الطفولة والمراهقة "، عالم الكتب، القاهرة- مصر.
3- عبد العظيم، شاكر: 1992، لغة الطفل، طبعة سلسلة سفير التربوية، القاهرة- مصر.
4- كرم الدين، ليلي: 1990، اللغة عند الطفل – تطورها ومشكلاتها، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة- مصر.
5- فهمي، مصطفى: بدون، أمراض الكلام، الطبعة الخامسة، دار مصر للطباعة، القاهرة.
6- لابرجير، إميه: 1987، مساعدة النشء المعوقين في اكتساب القدرة على الاتصال ومهارات الكلام، طبعة اليونسكو.
بقلم حمدان رضوان أبو عاصي