قال الملك للفيلسوف: قد سمعت حديثك في محال العدو المحتال كيف أفسد اليقين بالشبهة حتى أزال المودة وأدخل العداوة، فحدثني إن رأيت كيف اطلع الأسد على ذنب دمنة حتى قتله وكيف كانت معاذيره ومدفعه عن نفسه.
قال بيدبا الفيلسوف: إنا وجدنا في كتب خبر دمنة أن الأسد لما قتل شتربة ندم على معالجته بالقتل وتذكر حرمته. وكان من جنود الأسد وقرابته نمر كان من أكرم أصحابه عليه، وأخصّم عنده منزلة، وأطولهم به خلوة بالليل والنهار. وكان الأسد بعد قتله شتربة يطيل مسامرة أصحابه ليقطع عنه بحديثهم بعض ما قد داخله من الكآبة والحزن بقتله الثور. وإن النمر لبث في سمره ذات ليلة حتى مضت هدأةٌ من الليل. ثم خرج من عنده منصرفا إلى منزله. وقد كان منزل كليلة ودمنة قرب منزل الأسد فدنا النمر من منزلهما ليصيب قبساً يستضيء به وكانا مترافقين.
فسمع النمر محاورتهما ونصت لهما حتى سمع كلامهما كله، ووجد كليلة قد أقبل على دمنة يعذله ويقبّح له رأيه وفعله ويعظّم له جرمه ويوبّخه بغدره. وكان فيما أنبه به أن قال: إن الذي هيجت بين الأسد والثور من العداوة بعد المودة والفرقة بعد الألفة والشحناء بعد السلامة بسخافة عقلك وقلة وفائك لمظهر أمرك ومطلع طلعه، ولازمك من بغيه ما تستوبل عاقبته وتستمر مذاقته. فإن الغدر وإن لان عاجلُه واستحليت فروعه مرّ العاقبة بعيد المهواة وخيم المزلقة، وإني باجتنابك وترك مقارنتك والاقتداء بك لحقيق، فلست بآمن على نفسي من معرّتك وشرهك وغدرك. وقد قالت العلماء: اجتنب أهل الريبة لئلا تكون مريباً. فإني تارك مقارنتك ومتباعد منك ومغترب عنك لسوء أخلاقك التي بها أنشبت العداوة بين الملك ووزيره الناصح المأمون، فلم تزل بتشبيهك وتمويهك بالباطل حتى حملته على القسوة وأورطته الورطة فقتله مظلوماً بريئاً.
قال دمنة: قد وقع من الأمر ما لا مردّ له فدع تضييق الأمور عليّ وعلى نفسك فإني سأعمل في التغييب عن موقع الأمر في نفس الأسد. فقد كرهت ما مضى مني. والحسد والحرص حملاني على ما صنعت.
فلما سمع النمر ذلك من كلامهما انصرف خفيّاً مسرعاً حتى دخل على اللبوءة أم الأسد فأخذ عليها عهداّ ألا تفشي سرّه إلى الأسد ولا إلى غيره. فعاهدته على ذلك فأخبرها بالقصة على وجهها من قول كليلة وإقرار دمنة.
فلما أصبحت أم الأسد أقبلت حتى دخلت على الأسد فوجدته مكتئباً حزيناً لقتله شتربة فقالت: إن حزنك غير رادّ عليك مدبراً ولا سائق إليك نفعاً، وأنت غنيّ عن أن تجعله للبلاء عوناً عليك فتضعف به فؤادك وتنهك به جسمك وتحمل به المضرة على نفسك، وأنت بحمد الله بتحصيل الأمور رفيق بصير بصادرها وواردها. فإن علمت أن لك في الحزن فرجاً فحمّلنا منه مثلما أنت فيه. وإنت علمت أن لك في الحزن فرجاً فحمّلنا منه مثلما أنت فيه. وإنت علمت أنك لا تُرجع به مدبراً ولا تسوق به إليك نفعاً فارغب عنه وانظر فيما يعود عليك نفعه. وإن اعتبار ما بلغك عن شتربة حتى يصحّ لك حقيق ذلك من باطله ليسير.
فقال الأسد: فكيف لي بذلك؟
قال أم الأسد: إن العلماء قد قالوا من أراد أن يعرف محبه من مبغضه وعدوه من صديقه فليعتبر ذلك من نفسه. فإن الناس على مثل ذلك له كما هو عليه لهم وإن أقنع ما شهد على امرئ نفسه. فلنا من قولك دليل على أن قلبك يشهد عليك بأنك عملت ما عملت بغير علم ولا يقين. وذلك فاعلم أنه رأس الخطأ. ولو كنت حين بلغك عن الثور ما بلغك كففت نفسك وملكت غيظك ثم عرضت ما بلغك عنه على قلبك بحسن النظر لاكتفيت بقلبك دليلاً على تكذيب ما أتاك عنه، لأن القلوب تتكافأ فيما يتلاقى بعضها من بعض في سرّها وعلانيتها. فقس أمرك وأمر الثور بموقع أمر كان في نفسك جنايته وموقعه اليوم بعد موته.
فقال الأسد: لقد أكثرت الفكر وحرصت على التجني على الثور بعد قتلي إياه لعلي آخذه في ذنب واحد كان فيما بيني وبينه أقوّي به تهمتي فما يزداد ظني به إلا حسناً وله وداً. ولست أتذكّر منه شرارة خلق أقول هي حملته على أن ابتدأني بالحسد ولا نقص رأي أتهمه به على طلب مغالبتي، ولا أتذكر مني إليه أمراً سيئاً أرى أنه دعاه إلى عداوتي. فإني أحب أن أفحص عن أمره وأبالغ في البحث عنه وإن كنت أعرف أن ذلك غير مصلح ما فرط مني. ولكني أحب أن أعرف موقعي الذي أنا عليه فيما صنعت من الخطأ أو الصواب. فأخبريني هل سمعت من أمره شيئاً تذكرينه لي.
قالت أم الأسد: نع قد بلغني أمر استكتمنيه بعض أهلك. ولولا ما قالت العلماء في إذاعة السر والتضييع للأمانات وأنت تترك ما لا نفع فيه وما منجى لأخبرتك بما علمت.
قال الأسد: إن العلماء لأقاويلهم وجوه كثيرة ومعان مختلفة وأحوال متصرفة، وليس في كل الوجوه أمر بالكتمان ولكل أمر موضع وخبر. فإذا كان في موضعه صلح العمل به ونفع، وإن كان في غير موضعه ضر وأفسد. فمما تعظم مضرّته ولا يرضى استقالته كتمان ما ينبغي له أن يعلن عذراً في إسراره ولا سعة في السكوت عنه. فإني أرى أن مطلعك عليه قد ألقى على نفسك وزره وحمّلك خيره وشرّه وأنت حقيقة بإظهاره، وحمله الوجل على نفسه من كتمانه، فألقي ما استودعت منه عنك بإفشائه إليّ وإظهاره.
قالت أم الأسد: قد عرفت الذي قلت وإنه كما قلت وإن كان في ما ذكرت ما يحملن يعلى كثير من الكلام لعلمي بموقع هذا الأمر في نفسك. فلا أراك إن كنت على ما أرى من الرأي أن يمنعك من العزم والمبالغة في نكال أهل الجريمة والغدر في اعتقاد الألفة والثقة والتصديق. فحدثني إن كان في نفسك مني حرج.
قال الأسد: ما في نفسي حرج ولا أنتِ عندي نمّامة ولا أنا في نصحك مرتاب ولا أرى عليك في ذلك من ضرر في إفشاء ذلك الأمر إليّ.
قالت أم الأسد: بل ضرر منه عليّ في خلال ثلاث: أما واحدة فانقطاع ما بين وبين صاحب هذا السر من المودة لإباحتي بسره، وأما الأخرى فخيانتي لما استُحفظت من الأمانة، وأما الثالثة فوجل من كانوا يسترسلون إلي قبل اليوم مني وقطعهم أسرارهم عني.
قال الأسد: الأمر على ما قلت وما أنا عمّا كرهت بالمفتش، وما يختلج في صدري الارتياب بنصحك، فأخبرني بجملة الأمر إن كرهت أن تخبريني باسم صاحب السر ما أسرّ إليك منه.
فأخبرته بجملة ذلك الحديث ولم تسمّ من ذكره لها. وكان فيما قالت أن قالت: إنه لا ينبغي للولاة والرؤساء استبقاء الخونة الفجرة أهل الغدر والنميمة والمحال والإفساد بين الناس بفساد صلاحهم. وأول من نفى عن الناس من يفسدهم وساق إليهم من يصلحهم القادة المتولّون لأمورهم. وأنت بقتل دمنة حقيق، فإنه قد كان يقال: إن إفساد أجلّ الأشياء من قبل خصلتين: إذاعة السر وائتمان أهل الغدر. وإن الذي أنشب العداوة بينك وبين شتربة أنصح الوزراء وخير الإخوان حتى قتلته غدر دمنة وجهالته ومكره وخيانته. وقد اطلعت على مكنونه وبدا لي ما كان يُخفي عليك وعلمته نحو ما كان يذكر من حديثه إياك قبل اليوم. فالراحة لك ولجندك وإن ظهر منه ما كان يكتم وعلن منه ما كان يبطن بقتله، فاقتله عقوبة لجريمته وإبقاءً على جندك فيما يُستقبل من شرّه. فإنه ليس على مثلها إن انتعش بمأمون. ولعلك أيها الملك أن ترْكن إلى ما أُمر به الملوك من العفو عن أهل الجريمة. فإن رأيت ذلك فاعلم أنه ليس في من بلغ جرمه جرم دمنة لأنه لا ذنب له أكثر مما جنى دمنة علانية وسراً بخلابته ومكره وتحميل الملك على البريء من وزرائه السليم صدره الناصح جيبه، حتى انطوى منه على حسده وقتله على شبهة.
ثم قالت: إني لست أجهل قول العلماء لتعظيم الفضل في العفو عن أهل الجرائم. ولكن الفضل في ذلك إنما هو دون النفوس أو جناية العامة التي يقع فيها الشين وتحتج بها السفهاء عندما يكون من أعمالهم السيئة واستعد بها الملك بالأمر الذي يضل خطره فيه إن كان إلى العامة.
فأمر الأسد أمه بالانصراف عنه وبعث حين أصبح إلى جنوده فأُدخل عليه وجوههم. فأرسل إلى أمه فحضرت المجلس ثم دعا بدمنة فأُتي به. فلما أقام بين يديه قلب الأسد يده بالتميثل به. فلما رأى دمنة ذلك أيقن بالهلكة فالتفت إلى بعض من يليه فقال له بصوت خفيّ: هل حدث من حديث أحزن الملك أو هل كان شيء جمعكم له كما أرى؟
قال دمنة: ما أرى الأول ترك للأخير مقالاً في شيء من معاريض الأمور. وقد جرى في بعض ما يقال أنّ أشدّ الناس اجتهاداً في توقي الشر أكثرهم فيه وقوعاً، ولا يكون للملك وجنوده المثل السوء. وقد علمت أن ذلك إنما قيل في صحبة الأشرار. إنه من صحبهم وهو يعلم عملهم لم ينجّه من شرورهم توقيه إياها. ولذلك انقطعت النساك بأنفسها واختارت الوحدة في الجبال على مخالطة الناس وآثرت العمل لله على العمل لخلقه لأنه ليس أحد يجزي بالخير خيراً إلى الله. فأما من دونه فقد تجري أمورهم على فنون شتى يكون مع ذلك في أكثرها الخطأ. وما أحد بأحق بإصابة الصواب من الملك الموفّق الذيا لا يصانع أحداً لحاجة به إليه ولا لعاقبة يتخوّفها منه. وإن كان أحق من ذلك من عظمت فيه رغبة الملوك من محاسن الصواب فمكافأة أهل البلاء الحسن عندهم. وما بلاء أبين حسناً من نصيحة. ولقد علم وعلمت وعلم جميع من حضر أنه لم يكن بيني وبين الثور أمر أضطغين عليه فيه حقداً ولا أبغي له غائلة، وما كان بذلك من ضرّ ولا نفع. ولكني نصحت الملك فيه وأعلمته ما اطلعت عليه من أمره حتى أبصر مصداق ما ذكرت له وكان فيه أفضل رأياً وأشد حزماً وعزماً. ولقد أعرف أنه قد تخوّف مثلها مني غير واحد من أهل الغش والعداوة فنصبوا نصبي وأجمعوا على طلب هلاكي. وما كنت أتخوّف أن يكون جزائي على النصيحة وحسن البلاء أن يحزن الملك على تركه إياي حيّاً.
فلما سمع الأسد قول دمنة قال: أخرجوه عني وادفعوه إلى القضاء، فليفتشوا عن أمره، فإني لست أحبّ أن أحكم على محسن ولا مسيء إلا بظهور وجه الحق والعدل.
فسجد دمنة للأسد ثم قال: أيها الملك إنه ليس أكشف للعمى ولا أوضح للشبهة ولا أشد استخراجاً لغامضات الأشياء من الاجتهاد والمبادرة فيما يصاب به ذلك. وقد علمت أيها الملك أن النار تكون مستكنّة في الشجر والحجارة فلا تخرج ولا تصاب منفعتها إلا بالعمل والطلب. ولو كنت مجرماً لتخوّفت التكشّف عن جرمي كما قد أصبحت لعلمي ببراءتي، أرجو أن يخرج الفحص والتكشف صحة أمري. وكذلك كل شيء طابت رائحته أو نتنت فاليوم يزيده فووحاً وظهوراً. ولو كنت أعرف مع ذلك لنفسي ذنباً أو جرماً لوجدت في الأرض مذهباً ولما لزمت باب الملك أنتظر ثواب عملي. ولكني أحب أن يأمر الملك من يلي الفحص عن أمري أن يرفع إليه في كل يوم ما يكشف من عذري وبراءتي ليرى فيّ رأيه ويعارض بعض أمري ببعض ولا يعمل في أمري بشبهات أهل البغي والعداوة، فإن الذي رأى الملك من تشبيههم عليه ما قد استبان من عداوة الثور لجدير أن يمنعه من الإقدام على قتلي بعد الذي علم من نصيحتي وحوطتي عليه ومن رأيه الذي قد علمه الملك من منزلتي في نفسي من خساسة الحال وصغر الخطر. وإني لست أستطيع أن أدفع نفسي عن نسبة العبودية ولا أطمع فيما يطمع فيه من فوقي. فإني وإن كنت عبد الملك فإن لي من عدله نصيباً أعرف أن الملك معطينيه من نفسي في حياتي وبعد موتي. فإن كان الملك أجمع على دفعي إلى من يبحث عن أمري وينظر في براءتي فإني أرغب إلى عدله ولا يغفل أمري وأن يأمر برفع معاذيري إليه يوماً بيوم. فإن كان الملك للبلاء المقدور عليّ وقلة استطاعتي لامتناع من القدر غير متروّ في أمري ولا متبحّث عن شأني ولا صارف العقوبة عني لقول أهل الشرارة والمحال على غير ذنب سلف مني، فلم يبق لي ناصرٌ ألجأ إليه إلا الله فإنه كاشف الكرب. وقد قالت العلماء: إنه من صدّق فيما يشبّه عليه بما ينبغي الشك فيه وكذّب بما ينبغي أن يصدّق فيه أصابه ما أصاب المرأة التي بذلت بمالها لعبدها بتشبيهه عليها.
قال الأسد: وكيف كان ذلك؟