مثل الأسود وملك الضفادع

قال الغراب: زعموا أن أسودَ كبر وهرم فلم يستطع صيداً ولم يقدر على طعام فدبّ يلتمس المعيشة لنفسه حتى انتهى إلى غدير ماء كثير الضفادع قد كان يأتيه ويصيد من ضفادعه، فوقع قريباً من الغدير شبيهاً بالحزين الكئيب. فقال له ضفدع. ما شأنك أراك كئيباً حزيناً؟ قال: ما لي لا أكون حزيناً إنما كان أكثر معيشتي مما كنت أصيد من الضفادع، فابتليت ببلاء حرّمت عليّ الضفادع حتى لو لقيت بعضها على بعض لم أجترئ على أكله. فانطلق الضفدع فبشر ملكه بما سمع من الأسود، فدنا الملك من الأسدو فقال له: كيف كان أمرك هذا؟ فقال الأسود: لا أستطيع أن آخذ من الضفادع شيئاً إلى ما يتصدق به علي الملك. قال: ولم؟ قال: إني سعيت في أثر ضفدع منذ ليال لأخذها فطردتها إلى بيت مظلم لرجل من النساك فدخلته ودخلت في إثرها. وفي البيت مدّ ابنُ الناسك إصبعه فظننتها الضفدع فلسعتها فمات فخرجت هارباً وتبعني الناسك ودعا عليّ وقال: كما قتلت ابني البريء ظلماً أدعو عليك أن تذلّ وتخزى وتصير مركباً لملك الضفادع وتحرم عليك الضفادع، فلا تستطيع أكلها إلى ما تصدق به عليك ملكها. فأقبلت إليك لتركبني مقراّ بذلك راضياً. فرغب ملك الضفادع في ركوب الأسود، وظن أن ذلك له شرف ورفعة. فركب الأسود أياماً ثم قال له الأسود: قد علمت أني ملعون محروم لا أقدر على التصيّد. إلا ما تصدقت به عليّ فاجعل لي رزقاً أعيش به. قال الملك: لعمري لا بد لك وأنت لي مركب من رزق تعيش به. فأمر له كل يوم بضفدعتين يؤخذان فيدفعان إليه، فعاش بذلك. ولم يضرّه خضوعه للعدو الذليل، بال انتفع بذلك وصار له معيشة ورزقاً.

وكذلك كان صبري على ما صبرت عليه التماس هذا النفع العظيم الذي جعل لنا فيه بوار العدو والراحة منه.

قال الملك: وجدت ضراعة اللين والمكر أشد استئصالاً للعدو من صرعة المكابرة والعناد، فإن النار الخفيفة تقوى بحرّها وحدّتها على أن تحرق ما فوق الأرض من الشجر الكبار. والماء بلينه ونفوذه يقتلعها من أصلها تحت الأرض، وكان يقال: في أربعة لا يستقلّ منها القليل: النار والمرض والعدو والدّين.

قال الغراب: ما كان من ذلك فبسعادة جدّ الملك ورأيه فإنه قد كان يقال: إذا طلب اثنان حظاذ ظفر به أفضلهما مروءة. فإن استويا في المروءة فأمضاهما رأيا، فإذا استويا في ذلك فأفضلهما أعواناً، فإن استويا في ذلك فأسعدهما جدا. وقد كان يقال: من غالب الملك الحازم الأريب الذي لا تبطره السرّاء ولا تدهشه الضرّاء كان هو الداعي الحتف لنفسه. ثم لا سيما إذا كان مثلك أيها الملك العالم بالأمور وفرص الأعمال ومواضع الشدة واللين والغضب والرضا والمعالجة والأناة، الناظر في يومه وعواقب أعماله.

قال الملك: بر برأيك وعقلك كان هذا. فإن رأي الرجل الواحد أبلغ في إهلاك العدو من الجنود الكثيرة من ذوي البأس والنجدة والعدد والعدة. وإن من أعجب أمرك عندي طول لبثك عند البوم، وأنت تسمع الغلظ من كلامهم دون أن تسقط عندهم بكلمة.

قال الغراب: لم أزل متمسكاً بأدبك أيها الملك، فأصحب القريب والبعيد بالرفق واللين والمتابعة والموافقة، وأخضع لهم. وقد قيل: إذا كنت بين أعداء تخافهم ولا تقدر على ضرّهم فخذهم باللطف والتؤدة والخضوع، وإياك والغلظة فإنك لا تصيب بذلك ظفراً. وإنت سمعت منهم غليظ الكلام فغض عنه النظر. وقد قيل إن الرجل الكامل المشاور أهل النبل في الرأي والعقل إن رأى في بدء أمره وسمع من بشاعة اللفظ ومخالفة الهوى ما يكره وصبر على ذلك فإن ذلك يعقب منفعة وراحة وسروراً. وإنّ مشاورة من يتبع هوى المستشير ولم ينظر في عاقبة أمره وإن نال من العاجل فرحاً وروحاً فإن عاقبة أمره تصير إلى ضرر وخسران.

قال الملك: وجدتك صاحب العمل ووجدت غيرك من الوزراء أصحاب أقاويل ليست لها عاقبة حميدة. فقد منّ الله علينا بك منّة عظيمة لم نكن نجد قبلها لذة الطعام ولا النوم.

قال الغراب: إنه يقال: لا يجد السقيم لذة النوم ولا الطعام حتى يبرأ. ولا الرجل الشره الذي قد أطمعه السلطان في مال أو عمل حتى ينجزه له. ولا الرجل الذي قد ألحّ عليه عدوه، فهو يخافه صباحاً ومساءً حتى يستريح منه. وقد كان يقال: من أقلعت عنه الحمّى أراح قلبه. ومن وضع الحمل الثقيل أرح متنه. ومن أمن عدوّه ثلج صدره. فأسأل الله الذي أهلك عدوّك أن يمتعك بسلطانك وأن يجعل لك بعد ذلك صلاح رعيّتك ويشركهم في قرّة العين بملكك. فإن الملك إذا لم يكن في مملكته قرّة عيون رعيّته فمثله مثل زنمة العنز التي يمصّها الجدي فلا يصادف فيها خيراً.

قال الملك: كيف كانت سيرة ملك البوم في جنده؟

قال: سيرة بطر وأشر وختل وعجز وضعف رأي. وكل أصحابه ووزرائه كان شبيهاً به إلا الذي كان يشير بقتلي. فإنه كان حكيماً أريباً فيلسوفاً حازماً قلّما يرى مثله في علوّ الهمة وكمال العقل وجودة الرأي.

قال: وأيّ خلّة رأيت كانت أدلّ لك على عقله؟

قال الغراب: خلّتان، الواحدة رأيه في قتلي والأخرى أنه لم يكن يكتم صاحبه نصيحة وإن استقلّها، ولم يكن كلامه مع هاتين كلام خرق ولا مكابرة، ولكن كلام رف ولين حتى ربما أخبره بعيبه وهو لا يغضبه، وإنما يضرب له الأمثال ويحدّثه عن عيب غيره فيعضر به عيب نفسه، ولا يجد للغضب عليه سبيلاً.

وكان مما سمعته يقول للملك أن قال: لا ينبغي للملك أن يغفل عن أمره فإنه أمر جسيم لا يظفر به إلا القليل، ولا تقابله إلا بالحزم. وهو إذا فات لم يدرك. فينبغي للملك أن يكون متفقداً لأموره ذا حزم فيها. فإن لم يحسن ولايته ورعايته قلّت راحته وهدوّه، كالقرد الذي يُرى لأدنى حركة قلقاً. والملك عزيز عزوف، فمن ظفر به فليحسن حفظه وتحصينه. فإنه قد قيل: إنه في قلة بقائه مثل قلة بقاء الظل على ورق النيلوفر، وفي قلة ثباته كاللبيب مع اللئيم، وفي مراقبته كالتنين. وهو في سرعة الإقبال والإدبار كالريح، وفي الثقل كصحبة البغيض، وفيما يخاف من مفاجأة عطبة كالحية، وفي سرعة الذهاب كحباب الماء من وقع المطر. وفي قلة ما يستمع به وينال منه كحاكم يغنى في رقدته، فلما هبّ لم يجد عليه حلمه. فأهلك الله أعداء الملك وأدال منهم ولا زال في عليا وصنع وتوفيق.

فهذا مثل أهل العداوة الذين ينبغي العاقل أن لا يغترّ بهم وإن هم أظفروا تودداً وضراعةً.

 
<-- -->

المراجع

al-hakawati.la.utexas.edu

التصانيف

تصنيف :قصص    الآداب