باب الناسك والضيف

 

قال الملك للفيلسوف: قد سمعت ما ذكرت من امرئ كف عن ضر غيره لضر يصيبه أو بلية تدخل عليه، فأخبرني إن رأيت عن من يدع عمله الذي يليق به ويشاكله ويطلب سواه فلا يدركه فراجع الذي كان في يده فلا يقدر عليه فيبقى حيران متردداً.

قال الفيلسوف: زعموا أنه كان في أرض الكرخ ناسك مجتهد فنزل به ضيف ذات يوم فدعا بتمر ليطرفه به فأكلا منه جميعاً. ثم إن الضيف قال: ما أحلى هذا الثمر وأطيبه وليس في بلادي التي أسكنها نخل وبودي أن آخذ منه فأغرسه في أرضنا. قال الناسك: ليس لك في ذلك كبير منفعة، ولعل النخل لا يوافق أرضكم. وبلادكم كثيرة الأثمار مع وخامة التمر وقلة موافقته للجسد. ثم قال له الناسك: إنه لا يعد سعيداً من احتاج إلى ما لا يجد وليس بمعذور عليه فتشره لذلك نفسه ويقل عنه صبره ويصل إليه من ثقل ذلك واغتنامه ما يضرّه ويدله على المشقة عليه. وإنك أنت لعظيم الجد وجزيل الحظ لو قنعت بما رزقت وزهدت فيما لا تظفر به ولا تدرك طلبتك منه. فقال الضيف: وفقت ورشدت وقد سمعت منك كلاماً غريباً أعجبني واستحسنته. فلو علمتنيه فإن لي فيه رغبة وفي علمه حرصاً. فقال الناسك: ما أخلقك أن تقع بما تركت من كلامك وتكلفت من كلام العربانية في مثل ما أصاب الغراب.

قال الضيف: وكيف كان ذلك؟

قال الناسك: زعموا أن غراباً رأى مرة حجلة تمشي فأعجبته مشيتها وطمع في تعلّمها وراض نفسه عليها فلم يقدر على إحكامها. فانصرف إلى مشيته التي كان عليها فإذا هو قد نسيها فصار حيران مترددا لم يردك ما طلب ولم يحسن لما كان في يديه فصار أقبح الطير مشياً.

وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أنك خليق إذ تركت لسانك الذي طبعت عليه وتكلفت عليه وتكلفت علم ما لا يشاكلك من كلام العبرانية ألا تدركه وتنسى الذي كان في يديك من غيره. فإنه قد قيل: "يعد جاهلاً من حاول من الأمور ما لا يشبهه وليس من أهله ولم يدركه آباؤه ولا أجداده من قبله ولم يعرفوا به قبلاً".

قال الفيلسوف للملك: إن الولاة في قلة تعاهدهم الرعية في هذا وأشباهه اليوم أسوأ تدبيراً لانتقال الناس من بعض المنازل إلى بعض وتركهم منها ما قد لزموه وجرت لهم المعايش فيه من قبل الملوك، والتماس أهل الطبقة السفلى مراتب الطبقة العليا وانتشار الأمور وفساد الأدب ومنازعة اللئيم للكريم. ثم الأشياء تجري على مثال ذلك حتى تنتهي إلى الخطر العظيم الجسيم من مزاحمة الملك في ملكه ومضادّته فيه.




المراجع

al-hakawati.net

التصانيف

تصنيف :قصص   مجتمع   قصة