1099- 1164م
هو أبو عبد الله محمد الشريف الإدريسي، يرتفع نسبة إلى إدريس بن عبد الله، مؤسس دولة الأدارسة في المغرب في عهد هارون الرشيد. ولد في سبتة بالمغرب سنة 493 للهجرة حيث نشأ نشأة علم وتربية عالية. ولعلّه أتمّ دراسته بقرطبة، التي كانت مركزًا من مراكز العلم يومها. وقد أجمع عليه الباحثون أن ثقافته وتعليمه اشتملا على العلوم الرياضية والجغرافية والفلكية والطبية وما يتبع هذه من اهتمام بالنباتات ومنافعها.
أحد كبار الجغرافيين في التاريخ ومؤسسين علم الجغرافيا، كما أنه كتب في التاريخ، والأدب، والشعر، والنبات ودرس الفلسفة، والطب، والنجوم، في قرطبة.
أخذ الإدريسي نفسه بالتنقل والرحلة وهو بعد في شرخ الشباب، فزار الشمال الإفريقي والأندلس وجزءاً من فرنسا. واتجه شرقا، فزار آسيا الصّغرى ومصر والشام، وقضى في الشرق بعضًا من الوقت، ثم ظهر في بلاط روجار صاحب صقلية حيث انتهي سنة 548 هـ (1154 م) من وضع كتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”.
استخدمت مصوراته و خرائطه في سائر كشوف عصر النهضة الأوربية . حيث لجأ إلى تحديد اتجاهات الأنهار والمرتفعات والبحيرات، وضمنها أيضًا معلومات عن المدن الرئيسية بالإضافة إلى حدود الدول.
اختار الإدريسي الانتقال إلى صقلية بعد سقوط الحكومة الإسلامية، لأن الملك النورماني في ذلك الوقت “روجر الثاني” كان محباً للمعرفة . شرح الإدريسي لروجر موقع الأرض في الفضاء مستخدمًا في ذلك البيضة لتمثيل الأرض، شبه الإدريسي الأرض بصفار البيضة المحاط ببياضها تماما كما تهيم الأرض في السماء محاطة بالمجرَّات .
كما حدد الادريسي مصدر نهر النيل، ففي موقع معين وضع نقطة تقاطع نهر النيل تحت خط الاستواء، وهذا هو موقعه الصحيح . قبل دخول مصر تلتقي روافد نهر النيل في الخرطوم عاصمة السودان، يتشكَّل نهر النيل من نهرين هما النيل الأبيض والنيل الأزرق، يجري هذان النهران عبر أراضي السودان ويلتقيان في الخرطوم التي تقع تحت خط الاستواء . إن تحديد موقع نهر النيل يُلغي نظرية بطليموس أن مصدر نهر النيل هو تلة في القمر.
كان لعمل الإدريسي مظاهر ثلاثة هي: أولاً، رسم مناطق العالم وأماكنه على أسس مواقعها من خطوط العرض والطول على دائرة عظيمة صُنعت من الفضة الخالصة. وقد قُدرت مساحتها بثلاثة أمتار ونصف المتر طولاً، ومترا ونصف عرضًا. ثانياً، كان ينقل عن هذه الدائرة الفضية الصور نفسها على الورق بحيث تتجمع لديه خارطة كبيرة للعالم. وثالثاً، كان يصف هذا كله في كتاب.
كان الإدريسي يعتقد بكروية الأرض، وهي فكرة انقسم الناس بشأنها منذ أن بدأ الفلاسفة اليونان بالتفكير بشكل الأرض في القرن السادس ق.م. واستمر الإنقسام عبر العصور بين الفلكيين والجغرافيين. وكان الإدريسي يقبل الفكرة بأن المعمور من الأرض هو نصفها الشمالي فقط، وأن الجنوب لا حياة فيه. وكان يرى أن خطّ الاستواء يقسم سطح الكرة إلى قسمين متساويين. لكن الإدريسي لما أراد أن يضع منابع النيل على دائرته، اضطر أن يصل إلى درجة 16 جنوبي خط الإستواء. فالخارطة الإدريسية التي رسمها الجغرافي الكبير على الدائرة الفضية تشمل الجزء المعمور من الأرض المعروف يومها في آسيا وإفريقيا وأوروبا. وقد قسّم هذا القسم المعمور إلى سبعة أقاليم موازية لخط الإستواء، كان أولها ينتهي بخط 23 شمالاً، والأقاليم الخمسة التالية يشغل كل منها ست درجات، والأقاليم السبعة تشغل تسع درجات بحيث ينتهي عند الخط 63 شمالا. ثم قسّم كل إقليم عشرة أقسام جزئية من الغرب إلى الشرق. وهذا التقسيم قام عنده مقام خطوط الطول.
على الدائرة الفضية أثبت الإدريسي درجات العرض بقياس هندسي دقيق، وعيّن على هذه الدائرة الأقطار المختلفة، بحيث أن الفرق بين ما فعله الإدريسي وبين تعيين هذه الأقطار بالنسبة لخطوط العرض الآن، لا يختلف إلا في أجزاء صغيرة من الدرجة الواحدة. ولم يقتصر عمله على نقش الأقطار على الدائرة الفضية فحسب، بل إنه نقش الخلجان والأنهار والمدن الكبرى. ورغبة منه في أن تكون الأخبار التي حصل عليها دقيقة، طلب إلى روجار أن يُمكّنه من استقصاء المعلومات من الرحّالة المتجوّلين والتجار وأهل البحر. وقام برسم خارطةٍ لكل جزء من الأجزاء السبعين التي ظهرت على الدائرة الفضية، بحيث أعطى العالم أول خارطة عالمية دقيقة منتظمة.
إلا أن هذه الدائرة الفضية قد أُتلِفَت بعد الفراغ منها بمدة قصيرة أثناء ثورةٍ وقعت في بَالِرْمُو.
يعتبر نزهة المشتاق أضخم وأفضل مشروع جغرافي أنتجته أوروبا في العصور الوسيطة. وقد اكتسب أهمية خاصة لأوصافه التي قدمها عن منطقة البحر المتوسط وشبه جزيرة البلقان. كما أثار الإدريسي في كتابه هذا القضية الجدلية الكبيرة في عصره حيث أكد أن الأرض كروية. ورد على الاعتراضات التي وجهت إلى نظريته هذه بالقول: البعض يحتج بالقول أن السوائل (البحار) لا يمكن أن تتماسك مع محيط مدور، غير أن الحقيقة هي أنها يمكن أن تتماسك حيث تحتويها حالة من التوازن المتواصل.
وما يؤسف له هو أن كرة الإدريسي الفضية قد ضاعت مع الوقت ولا نعرف عنها إلا من المخطوطات التي ذكرتها. أما فيما يتعلق بخرائطه التي وضعها للعالم فإن النسخ الأقدم عنها فهي خريطة الجزيرة العربية التي نشرها باحث ألماني في القرن الماضي (1931) واستمدها من أطلس يعود إلى تلك الحقبة. ثم نشرت نسخة معدلة عنها بعدها بعشرين عاماً في العراق عام (1951).
إلى جانب الجغرافيا، كان الإدريسي مهتماً أيضاً بالطب والمنهج الطبي. فقد وضع جهوده العلمية في هذا المجال في كتاب أسماه “كتاب الأدوية المفردة” الذي وصف فيه الأدوية وخواصها مستخدماً اثني عشرة لغة. لكن العالم في العموم يتذكر الإدريسي لإنجازاته الجغرافية في العصور الوسطى. ولا يعرف الكثير عن السنوات الأخيرة من حياته. ربما يكون وقع ضحية الاكتئاب حين عرف بأن كوكبه الفضي قد سُرق خلال شغب قام به رعاع نورمانديون عام 1161. وتوفي الإدريسي بعدها بخمس سنوات في صقلية عام 1166. غير أن تركته وأثره العلميين عاشا طويلاً بعدها. فقد كان الإدريسي أشهر جغرافي عربي ومسلم عرفه الأوروبيون وربما كان هذا يعود في وجه منه إلى وجوده في صقلية واتصال الجزيرة الدائم مع البحارة والتجار القادمين من إقليم المتوسط وسواحل الأطلسي وبحور الشمال.
وجاء في كتاب “الجامع لمفردات الأدوية والأغذية” لابن البيطار، قول الادريسي: النار هي جوهر منفرد فاعل في الأجسام نافع من الأمراض المزمنة وهي دواء لا يعدله شيء في ذلك وهي حارة يابسة في آخر الرابعة والكي بها ينفع من كل مزاج يكون من مادة أو من غير مادة إلا ما كان من ذلك حاراً من غير مادّة ويابساً من غير مادة، والكي بالنار أفضل من الكي بالدواء المحرق لأن النار لا يتعدى فعلها العضو الذي يتصل بها ولا يضر ما اتصل به من الأعضاء إلا ضرراً لا يؤبه له، والكي بالدواء المحرق ربما أضر بالعضو وربما أضر بما اتصل به من الأعضاء وأحدث أمراضاً مميتة والنار لا تفعل ذلك لشرف عنصرها وكرم جوهرها ما لم يفرط بها، وإذا كوي الرأس بها نفعت من البرودة والرطوبة المزمنة والشقيقة المزمنة وغير المزمنة، وإذا نقط بها حول الأذن من خارج نفع من بردها وينفع من اللقوّة والسكتة المزمنة والنسيان البلغمي والفالج والصرع والماليخوليا وينفع الكي بها من الماء النازل في العين والدموع المزمنة ووجع الأنف واسترخاء الجفن وناصورها وينفع من شقاق الشقة وناصور الفم والأضراس واللثات المسترخية ومن الخنازير وضيق النفس وبحوحة الصوت والسعال الرطب وينفع الكي بها من خلع رأس العضد ومن برد المعدة ورطوبتها وبرد الكبد ورطوبتها وورمها وورم الطحال والكلى والإستسقاء الزقي والساقين والقدمين والإسهال المزمن البارد وبواسير المقعدة والثآليل وخلع الورك وعرق النسا ووجع الظهر والفتوق وأرياح الحدبة، وينفع من الوثي والجذام والدبيلة والبرص والأكلة والبواسير المعكوسة والنزف العارض بغتة عن الشريان وغيره.
ألف الإدريسي كتابه المشهور (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) والمسمى أيضاً (كتاب رجار) أو (الكتاب الرجاري) وذلك لأن الملك رجار ملك صقلية هو الذي طلب منه تأليفه كما طلب منه صنع كرة من الفضة منقوش عليها صورة الأقاليم السبعة، ويقال أن الدائرة الفضية تحطمت في ثورة كانت في صقلية، بعد الفراغ منها بمدة قصيرة، وأما الكتاب فقد غدا من أشهر الآثار الجغرافية العربية، أفاد منه الأوروبيون معلومات جمة عن بلاد المشرق، كما أفاد منه الشرقيون، فأخذ عنه الفريقان ونقلوا خرائطه، وترجموا بعض أقسامه إلى مختلف لغاتهم.
في السنة التي وضع فيها الإدريسي كتابه المعروف، توفي الملك رجار فخلفه غليام أو غليوم الأول، وظل الإدريسي على مركزه في البلاط، فألف للملك كتاباً آخر في الجغرافيا سمّاه (روض الأنس ونزهة النفس) أو (كتاب الممالك والمسالك)، لم يعرف منه إلا مختصر مخطوط موجود في مكتبة حكيم أوغلو علي باشا باسطنبول. وذكر للإدريسي كذلك كتاب في المفردات سماه (الجامع لصفات أشتات النبات)، كما ذكر له كتاب آخر بعنوان (انس المهج وروض الفرج).