تكاد لاتمر ساعة من ساعات تلك الأيام المريرة إلا ويعلن عن استشهاد أحد الناس ، أو وفاة آخر متأثرا بجراحه ، وتكاد الخيام المنصوبة للمعزين تملأ ساحات أحياء تلك المدينة المنكوبة . ولا ترى رجلا وقد خرج من مكان العزاء إلا وهو يحوقل بتأثر بادٍ على وجهه ، وبصوته الرخيم بكلمات حوقلته : ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) . دموع الناس رجالا ونساء تفيض من أعينهم بصمت ، ومشاعر الأسى تلتهب في أحنائهم التي أوجعتها الفواجع ، فنالت من سعادتها التي مرَّت ذات يوم على الناس
عاد الشيخ أبو الخير : ( هكذا يسميه جيرانُه وأصحابُه ) على غير عادته إلى البيت ، وليس في الوقت المحدد لعودته مثل كل الأيام ، فهو يغلق حانوته قبيل الأذان لصلاة الظهر ، ليجدد وضوءَه في البيت ، ويذهب إلى مسجد الحي القريب من بيتنا لأداء الفريضة . بادرته زوجتُه بالقول : ألم تذهب إلى دار أبي ربعي للعزاء ، فقد استُشْهِدَ أخوه أمس ، ومن الممكن أنهم شيعوه إلى مثواه الأخير صباح هذا اليوم . أجاب أبو الخير وقد تغيَّرت حالُه ، وانتابته هِزَّةٌ أخذت بمجامع جسده الهزيل ... لا.. لم أدر ... بهذا الخبرررر ,,, سالت الدموع من عينيه ، حوقل كبقية المحوقلين ، فأبو ربعي أخ قديم وصديق حميم ، وله حقوق لايمكن أن يتخطاها الشيخُ أبدا ، فهو وأبو ربعي روحان في جسد واحد . لم يجلس ولو للحظات في البيت ، خرج وهو يتكئُ على حيوية قديمة يشهد لها أقرانه ، وأظنه توجه إلى بيت أبي ربعي لتقديم واجب العزاء ، بالفعل وجد أماكن للجلوس أعدت للمعزين ، ووجد بعض الرجال يقفون حول المدخل الرئيس للبيت ،ألقى عليهم السلام ، رحب به الرجال وقد عرفوا مكانته لدى أبي ربعي ، وقبل أن يسأل عن أبي ربعي ... إذا بجموع الناس يتوسطهم والد الشهيد ، وهم راجعون من المقبرة إلى البيت ، حيث مكان العزاء . انتبه أبو الخير إلى إطلالة ذلك الحشد المهيب ، وقد أخبره أحد الرجال بأن الناس هاهم وقد عادوا بعد مواراة الفقيد الشهيد في مثواه الأخير .
وقعت عيناه على أخيه أبي ربعي ، فاندفع نحوه ليضمه أبو ربعي إلى صدره ، لم يستطع أيٌّ منهما الكلام ، وإنما تكلمت العيون وهي تفيض بدموع سخينة ، وجأرت المشاعر الجياشة بالحزن ، تبتهل إلى الله وتسأله الرحمة للشهيد ، وطالَ عناقهما والناس في صمت مطبق ، وإذا بصوت انفجار هائل هـزَّ المنطقة ، لم يغادر أحد مكانه ، وإنما أخذ الحاضرون أماكن جلوسهم في البيت ، فقد اعتادوا على سماع تلك الأصوات آناء الليل وأطراف النهار ، فبيت يُهدم ، وشاب يُقتل ، وآخرُ يُجرح ، وأسرة تغادر منزلها إلى حيث شاء الله ، وفي تلك الساعة ، وبُعَيْدَ الانفجار بفترة قليلة أقبل إمام مسجد الحي إلى مكان العزاء ، ألقى التحية على الحاضرين ، وبسمل وحمد الله وأثنى عليه ، وصلى وسلم على رسوله وآله وأصحابه ، ثم تلا قول الله تبارك وتعالى : ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ - فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ... ) ، وراح يتحدث عن فضل الشهداء ومكانتهم عند الله ، وذكر شيئا عن أحوالهم بعد استشهادهم ، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال وهويحدث أصحابه الكرام عن شهداء أحد : ( لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر تردُ أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش. فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحُسن مَقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا
لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب ، فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم. فأنـزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الآيات) . وتابع حديثه في هذا الباب لتذكير الناس وخصوصا في هذه الأيام التي كثر فيها القتل والاستشهاد ، وأردف قائلا : قبل قليل ... لعلكم أيها الإخوة سمعتم صوت الانفجار الهائل ، حيث سقطت قذيفة على دار أبي الخير ، فاستُشهد ولده عدنان ، نسأل الله له الرحمة وأن يدخله فسيح جناته ، ولقد تجمهر أهل الحي حول داره ... لم يكن إمام المسجد يعلم بأن أبا الخير والد الشهيد عدنان موجود بين المعزين في مجلس أبي ربعي ، أخذ الحاضرون ينظرون إلى أبي الخير ، وهو الرجل المؤمن الصالح ــ كما يحسبه جيرانُه ومعارفُه ــ ولا يُزكَّى على أحد . فسمعوا صوته وهو يردد : الحمد لله ... إنا لله وإنا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . علم إمام المسجد بوجود أبي الخير ، فأسرع إليه واحتضه معزيا بوفاة ولده ، ومباركا له بنيل ولده عدنان الشهادة بإذن الله تعالى . كانت الجلبة بين الحاضرين تنم عن تأثرهم بهذا الموقف ، فأقبلوا على والد الشهيد الثاني في هذا العزاء ، وبهذه المفاجأة أو الصدمة التي تلقاها الشيخ أبو الخير ، ولعلها إحدى فصول المأساة التي يعيشها الناس في زمن المآسي المفعم بالمفاجآت .
المراجع
odabasham.net
التصانيف
شعر أدب
|
|