حين أنهينا جولة السلط واحتسينا
القهوة في بلدة زي وفي ضيافة الجميل خالد العمايرة، نائب رئيس نادي زي الثقافي، كنت
على عجلة أن أصل إلى بلدة الرميمين، وقلت للكاتبة والصديقة جميلة العمايرة: لنؤجل
دعوتك للغداء على (المنسف) السلطي حتى نعود من الرميمين، فالرميمين أسمعها تنادينا
أن لا نتأخر. فضحكت الجميلة جميلة واتجهنا إلى الرميمين، ومنذ لحظة تحركنا وشلال
الذاكرة لم يتوقف، فما بين زي والرميمين ذاكرة تعود إلى الطفولة، وما زلت أذكر
رحلاتنا مع الوالد أطال الله بعمره، والوالدة رحمها الله إلى شلالات وغابات
الرميمين وغابات زي، التي كنت أصطحب إليها أطفالي أيضاً حين كنت مقيماً في الأردن
الجميل.
حين أطللنا على بلدة الرميمين همست
لجميلة: بعد أن ننهي جولتنا في الشلالات سأجول بك بلدة الرميمين كما جلتِ أنت وخالد
معي السلط، فالذاكرة ما زالت تحتفظ بصور لأهم مشاهد في البلدة، وللجمال الساحر
لغاباتها على التلال المحيطة. وما أن بدأنا بالنـزول باتجاه الوادي من البلدة،
وبمجرد أن انتهت المباني وبدأنا بالحركة بين المزارع، حتى شعرت بانقباض في صدري،
وهمست لنفسي: هل من المعقول أن موقعاً سياحياً كشلالات الرميمين المتميز بجمال
الطبيعة وأذكره قبلة للزوار، أن يكون في هذا التراجع الذي يظهر في الطريق؟ فالطريق
ضيقة ومليئة بالحفر، ولولا اليافطة الأولى في البلدة على بداية النـزول وتشير أن
هذه طريق الشلالات، لانتابني الشك أننا نسير في طريق خاطئة، فليس من المعقول بعد
هذا الغياب الطويل عن المنطقة والذي زاد عن ربع قرن، أن تكون المنطقة قد تراجعت
بدلاً من أن تتطور؟
وما أن أطللنا على منطقة الشلالات
حتى بدأت أشعر أن إحساسي بانقباض الصدر لم يأت من فراغ، فقد وجدت منطقة مختلفة
تماماً عما رسم خيالي عبر الزمان، ووجدت منطقة أصبحت مهملة تماماً، فلا خدمات بها
ولا نظافة، حتى الاستراحة اليتيمة التي كانت في المنطقة أصبحت أطلالاً، وحين نزلنا
إلى الوادي وجدت كل شيء اختلف، فليس هناك من مكان مناسب للجلوس، والصخور المنهارة
قد أصبحت تحتل الوادي، والجانب الأيسر من الوادي الذي كان يحفل بالزوار والمصطافين
أصبح خراباً، والوصول إلى الشلالات أصبح متعباً، فتراجعت المنطقة 180 درجة بدلاً من
أن تتطور، وفوجئت بحجم تراجع مياه الشلالات، وإن كان هذا يمكن إرجاعه للطبيعة، إلا
أن أنابيب المياه السوداء الممتدة كالأفاعي من أعلى الشلال وتتجه نحو المزارع تساهم
أيضاً بانخفاض نسبة المياه، فساءلت نفسي: أين الجهات المسئولة عن التطوير السياحي؟
فهذه المنطقة كانت ولم تزل مؤهلة
لتكون نقطة جذب سياحي كبيرة، وما تحتاجه فقط تنظيف مجرى الوادي الصغير من منطقة
الشلالات حتى النفق أسفل التل، ووضع شباك معدنية تصد الانهيارات على الجانب الأيمن
للوادي وتنظيف جهتي الوادي الصغير ليعود مكاناً يستقبل الزوار وتتوفر فيه إمكانات
الجلوس ودورات المياه، وسحب المياه للمزارع يكون من آخر الوادي وليس من رأس النبع،
ويمكن تأجير مناطق الوادي لتصبح متنـزهات سياحية تستقبل الزوار، أو يمكن وضع رسوم
قليلة لمرائب السيارات في أعلى التلة قبل النـزول للوادي، وهذه الرسوم تتولى صيانة
المنطقة وتطويرها، وفتح أكشاك توفر للزوار احتياجاتهم، إضافة إلى (شاليهات) سياحية
لمن يرغب البقاء عدة أيام بين الشلال وبين الغابات والجمال والهدوء، حتى أنني لما
أنهيت الجولة المختصرة في الوادي والشلال، وجلست على صخرة في الوادي ونظرت للأسماك
الصغيرة وصورتها، شعرت بها تشكو ما وصلت إليه المنطقة، ووجود هذا الكم من الأسماك
الصغيرة، مؤشر أنه يمكن تطوير المكان كثيراً بحيث يصبح مصدراً للأسماك النهرية
أيضاً.
الرميمين بلدة بالغة القدم، ولعل
اسمها الذي ينسب للغة الآرامية يؤكد ذلك، فهو اسم آرامي يعني (منطقة الرمان وينابيع
المياه) وهو وصف ينطبق على بلدة الرميمين، وإن كانت الذاكرة الشعبية تنسب الاسم (ارميمين)
لأميرة سكنت الوادي قرب المياه، وإن كنت أميل أكثر إلى أن الاسم من أصول آرامية،
ومن أبرز معالمها إضافة إلى الشلالات معاصر الزيتون والمباني التراثية القديمة،
تقسم القرية إلى ثلاث مناطق سكنية وهي منطقة البلد، منطقة الحنوة ومنطقة الأشرفية
وهي المرتفعة، وتحيط بالرميمين المزارع وأشجار الزيتون، واعتماد سكان المنطقة على
الأمطار إضافة إلى ينابيع مياه مثل نبع الراهب وسمي هذا الاسم نسبة لراهب اهتم
بالنبع كثيراً، ونبع الصايغ نسبة إلى عشيرة الصايغ وحسب المصادر فهي أقدم العشائر
التي سكنت البلدة، إضافة إلى ينابيع مياه أقل قوة موجودة بالمنطقة.
خرجنا من الوادي إلى البلدة، حيث
تجولنا بها، وكنت أحدث الكاتبة جميلة العمايرة عن تاريخ بلدة الرميمين من خلال
ثلاثة مشاهد أساسية زرتها، كنيسة اللاتين والتي يعود تاريخ بنائها إلى العام 1875م،
وهي مبنية من الحجر الكلسي المقصوص والشيد، وكما معظم كنائس اللاتين فهي مبنية على
شكل مستطيل، مع ارتكاز السقف على القواعد، والمسجد المجاور لها ولا يفصلهما إلا
جدار، وحسب الروايات المتداولة فقد تم بناء المسجد بالتعاون بين المسيحيين
والمسلمين، فتعانق الهلال والصليب وأصبحت الرميمين مثالاً للتعايش الإسلامي
والمسيحي، وتعايش الأهل أبناء الوطن الواحد، فالدين لله والوطن للجميع.
ودير الروم الأرثوذكس في قلب
الرميمين القديمة، وهذا الدير من أقدم أديرة المنطقة، وتاريخ بناءه غير محدد
التاريخ، وأعتقد من خلال شكل البناء أنه بني في أواخر القرن السابع عشر، حين كان
غالبية سكان المنطقة يرجعون لطائفة الروم الأرثوذكس العرب الأقحاح، ومع مرور
السنوات ومع تأثيرات الهجرة للغرب قل عدد السكان الأصليين في البلدة، فجرت عمليات
تأجير الأراضي وبيعها، ولعل أبناء وأحفاد الذين هاجروا يفكرون أن يعودوا إلى بلدتهم
ويساهموا بأن تكون الرميمين درة جمالية من جديد، من خلال الاستثمار فيها، وخاصة
بالمجالات السياحية التي يمكن أن تجعل من المنطقة منطقة متميزة، فطبيعتها وجمالها
ووجود الشلال فيها يسمح بذلك.
بعد جولة في البلدة كنت أحدث فيها
الكاتبة الرقيقة جميلة عن البلدة وتاريخها وذاكرة زيارات الطفولة فيها، اتجهنا إلى
الغابات الجميلة أعلى التلال، ولفت نظري من البعيد مبنى متسع خلف الأسوار بين
الأشجار الحرجية، فظننت (وبعض الظن إثم) أن ما أراه منتجعاً سياحياً، أو مشفى
متطوراً يعتمد على الطبيعة وما لها من دور في العلاج، فهمست لجميلة: إن كان هذا
المبنى البعيد منتجع وأسعاره مناسبة، سأحجز لعدة أيام آتيها مع زوجتي، فليس من
منطقة يمكن أن تريح الأعصاب والنفس مثل هذه المنطقة الحرجية المرتفعة، وليس أنقى من
هواء عليل تصفيه من الغبار أشجار الصنوبر والسرو، فهذه المنطقة ساحرة بجمالها
وهوائها العليل، وليس أجمل من أيام يمكن قضاؤها هناك، فاتجهنا إلى الموقع على أعلى
الجبل بفرح، وما أن اقتربنا حتى صدمت بما أراه.. سجن
| أمن المعقول أن يشوه كل هذا
الجمال بسجن للمجرمين؟ فهمست لرفيقة الرحلة: هل هذا سجن 5 نجوم؟ ومن صاحب هذه
العقلية المعادية للجمال الذي اختار هذا الموقع سجناً بدلاً من أن يكون منتجعاً
سياحياً، أو مؤسسة للمسنين يقضون فيه راحة آخر الأيام براحة وفرح قبل أن يعلنوا
رحلة الرحيل، أو مشفى متطوراً؟ شعرت بالألم وشعرت بالرميمين تشكو وتأنّ ألماً، فهذه
المبالغ التي وضعت على بناء هذا السجن القلعة، لو وجهت لتطور السياحة في الرميمين
لجعلت منها قبلة للسواح والزوار، فلم أمتلك إلا أن أردد: لا حول ولا قوة الا بالله،
لقد جئت للفرح والتمتع بالجمال، وها أنا أعود من الرميمين وأنا أحمل في روحي تلالاً
من حزن وألم.
وبصمت مشوب بالألم كنا نتجه صامتين
باتجاه بلدة زي مرة أخرى، لتناول طعام الغداء وإنجاز جولة فيها، فرغم أن البلدة
صغيرة، إلا أنها تحمل في ثناياها حكايات كثيرة، وهذا ما سيكون حديث الحلقة الرابعة
من جولتي في رحاب السلط والرميميمن وزي.
في بلدتي جيوس أصحو من نومي مبكراً
أبكر من المعتاد، فليس هناك أجمل من صحو مبكر على صوت هديل الحمام وزقزقة العصافير،
صياح الديكة وثغاء الأغنام في ريفنا الجميل وبلدتي الخضراء جيوس، وإن كان نهيق
الحمير يشوش سمفونية العزف الطبيعية، وآثار قرصات الناموس على جلدي تشوه من هذا
الجمال أيضا، إلا أن جولة سريعة بين أشجار الزيتون التي تملأ المنطقة، وبين أشجار
الليمون والبومل والحمضيات وغيرها في البستان الجميل، تزيل من الذهن ما تركه
الناموس من تشويه مقيت، وبعد جولتي وانتعاش الروح بالجمال والصدر بالهواء النقي،
أتناول إفطاراً طيباً من خبز الطابون مباشرة من الطابون للمائدة، مع حبات الزيتون
والجبنة البيضاء الشهية والزعتر، وكأس من حليب النعاج الطازج، ويفوح علينا عبق زهر
الليمون، في بيت ابن عمتي وعديلي إسماعيل الديك (أبو عزمي)، فأستعيد ذاكرة رحلتي
للسلط والرميمين، وأنا أهمس لطيفي: هل هناك أجمل من هذا الصباح؟ فيبتسم لي مع شدو
فيروز وهي تشدو: (كلما أطوف بين كل تلك التلول والجنان الأليفة، ترتمي رفوف من طيور
الحقول في المروج الوليفة، هذه الوهاد منبت الخيال، موطن الفؤاد هذه الظلال)..
فأهمس: صباحك أجمل يا وطني.. صباحكم
أجمل أحبتي، وقريباً سيكون لنا لقاء أجمل في رحاب بلدة زي وعبق التاريخ والجمال.
المراجع
odabasham.net
التصانيف
شعر أدب
|