وقف عمر المختار، الشيخ المجاهد، بشموخٍ على المنصة التي أُعدت لإعدامه شنقاً، وأخذ يقرأ كتاب الله بخشوع، غير ملتفت إلى الجنود الإيطاليين المدججين بالسلاح الذين يحيطون به، ويمنعون جموع الليبيين من الاقتراب منه. ولما حانت لحظة إعدامه، انحنى بمشقةٍ عظيمةٍ ليضعَ القرآن الكريم بإجلالٍ على المنصة إلى جواره، ونظر إلى الناس مبتسماً لهم، ثم أخذ ينطق بالشهادتين حتى تدلى جسده في الهواء، فتعالت تكبيراتهم، واندفعوا إليه، لكن الجنود منعوهم من الوصول إلى جثمانه الطاهر.

اليوم، بعد تسعين عاماً على استشهاده، يستلهم أحفاده سيرته، ويجعلون قلبه ينبض فرحاً في قبره، وهو يسمع تكبيراتهم بعد تحريرهم لطرابلس وترهونة، وتوجههم إلى سرت ليطهروها من مرتزقة أبوظبي الذين يقودهم العميل المهزوم: حفتر.

ولابد لنا من قراءة انتصارات الشعب الليبي من ثلاثة زوايا، لأن نتائجها القريبة والبعيدة ستغير مسار الأحداث في العالم العربي كله:

(1) الامتداد السرطاني لأبوظبي: المُلفتُ للنظر في انتصارات الليبيين أنها بيَّنَت أمراً ذا خطورة عظيمة على الإمارات، هو

الشماتة العظيمة التي أبدتها الشعوب تجاهها، لأن الجميع يعلمون يقيناً أن ولي عهد أبوظبي يقف وراء الخراب والتدمير في ليبيا واليمن، وله يد في كل مآسي أمتينا العربية والإسلامية. وتعني تلك الشماتة أن العرب والمسلمين أصبحوا يتعاملون معها على أنها امتداد سرطاني للكيان الصهيوني، وعدو وجودي يُهدد آمالهم وأحلامهم وقضاياهم. وهذا يعني أنها فقدت كل قواها الناعمة، وأصبحت بلا أي رصيد لها في القلوب، وهو أخطر ما يمكن لدولة الوقوع فيه، لأن الجميع سيعملون على إفشال كل سياساتها، وسيناصرون عليها، وستصبح معزولةً عن محيطها القومي والديني الذي لا يمكن لتل أبيب أن تعوِّضها عنه.

(2) الصحوة الوطنية في اليمن: لأن انتصارات الليبيين على المشروع الصهيوإماراتي سيقوِّي الوطنيين اليمنيين الشرفاء، ويدفعهم لمقاومة مشروع التخلف الحضاري والتقسيم والاحتلال الذي تقوده الرياض وأبوظبي واللتان لم تعد لديهما الموارد الكافية لتمويل عملائهما، ولا تملكان قوةً عسكريةً حقيقيةً تجعلهما قادرتين على الحسم.

ولو تابعنا ما ينشره اليمنيون في وسائل التواصل الاجتماعي، فسنجد أنهم ينادون بيمنٍ موحَّدٍ، تراباً وشعباً، وبدولةٍ ديمقراطيةٍ ذات سيادةٍ، ووطنٍ لا يمكن لدولٍ بلا مشاريع حضاريةٍ عربيةٍ وإنسانيةٍ أن تؤثر فيه. مما يعني أن انتصارات ليبيا سترفع سقف مطالب اليمنيين ليصل إلى خروج الاحتلالين السعودي والإماراتي، وتفكيك العصابات المسلحة من عملائهما كخطوةٍ أولى للحل السياسي برعايةٍ دوليةٍ.

(3) انتصار المشروع الإسلامي الحديث: الذي يقوم على بناء دول ديمقراطية حقيقية، تحترم حكوماتها شعوبها، وترابط جيوشها على الحدود وفي الثكنات بلا دور سياسي لها. وهو مشروع تحاربه بشدة السعودية والإمارات من منطلقات مختلفة. فالسعودية الجديدة دولةٌ تريد أن تكون ممثلةً للمسلمين من خلال قيادتها الروحية لهم، لكنها لا تمتلك مشروعاً حضارياً يؤهلها لهذا الأمر، بل إنها تعمل ضد تطلعاتهم، وتُسهم في إضعافهم من خلال دعمها للمستبدين. كما أنها ليست دولةً منتجةً للصناعات والعلم والفكر والأدب، وليس فيها نموذج حكم سياسي يمكن للمسلمين القبول به.

أما الإمارات، فقد سيطرت عليها أوهام ولي عهد أبوظبي في بناء إمبراطورية عربية إسلامية تكون تل أبيب وأبوظبي مركزي القرار فيها. ولذلك، تم استنزاف أموال الإمارات وسمعتها وقوتها المعنوية في حروب مدمرة تدعم فيها الانقلابيين والانفصاليين والطغاة. لكنها كالسعودية، بلا مشروع حضاري ولا نموذج حكم يمكنها تقديمهما للشعوب.

إذن، مَن الذي يمثل المشروع الإسلامي الحديث؟، الجواب هو تركيا التي تستند إلى نظام حكم ديمقراطي تعددي، وهي دولة صناعية ومنتجةٌ للعلم والفكر، ولديها مشروع حضاري عابرٌ للقوميات، إلى جانب أنها حليفٌ موثوقٌ مؤتَمنٌ وقويٌّ سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، مما جعل الشعوب العربية والإسلامية تحترمها، وتلتف حولها، وتتطلع إلى التعاون معها في كل المجالات. وبالطبع، فإن هذا الأمر يزعج الرياض وأبوظبي اللتين تصاعدت وتيرة تقاربهما مع الكيان الصهيوني، وعدائهما للإسلام والعروبة، وانشغالهما باتهام تركيا وقطر بكل الأحداث حتى لو كانت حادث سيرٍ في مدينة جدة، أو شجار بين سكارى في ملهى ليلي بدبي.

كلمة أخيرة:

قال عمر المختار: نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت.



المراجع

al-sharq.com

التصانيف

شعر  أدب