"من لا يستطيعُ الرؤية

لا يتلمّسُ طريقَهُ
لن يصل أولئك المُعَوّقون
إلى أيّ مكانٍ
وأولئكَ الصُّمُّ
لا يمكنهم الاستماع إلى وَقْعِ أقدامِ الحياة
والمشرّدون لا يبنون منزلاً
فأولئك المجانين
لن يعرفوا ما يريدون أبداً


في هذا الزمن
حيث يمكن لأي شخص أن يصبح معاقاً أعمى
مشرداً وأصَمَّ ومجنوناً"

كتبَ مانغاليش دبرال هذه القصيدة "هذه الأيام" والتي أدرجت في المختارات العالمية من القصائد حول هذه الأوقات المظلمة بعنوان "الغناء في الظلام"، والذي حررتُه مع نيشي تشاولا (بنغوين، تشرين الأول/ أكتوبر، 2020).

سمعتُ بحزنٍ شديدٍ أنه وقعَ ضحيَة للوباء وكنت أتابعُ منشورات الأصدقاء على فيسبوك وأتصل بأصدقاء مشتركين لمعرفة كيف يتعامل مع هذا الوباء، ذلك الشاعر القوي الذي اعتاد على أن يكون مقاتلاً شرساً. ازدادت محنته سوءًا يومًا بعد يوم، واستسلم أخيرًا للقوة الشيطانية للمرض الذي لا يمكن التنبؤ به والذي حطّم قلبه حرفيًا وكسرَ مجازيًا قلبَ العديد من الذين أحبّوه وأُعجبوا به كإنسانٍ عظيمٍ يجمعُ بين البراءة والاستقامة والذكاء السياسي والمواقف الثابتة، والصحافي الملتزم الذي عمل مع صحيفة باتريوت Patriot (التي تصدر بالهندية)، ومجلة براتيباكش Pratipaksh، ومجلة آسباس Aaspaas، ومجلة بورفاغراه Poorvagrah الأدبية، وصحيفة أمريت برابهات Amrit Prabhat، وصحيفة يانساتا Jansatta ومحطة صحارا سمايSahara Samay التلفزيونية ومؤسسة بابليك أجندة Public Agenda، والأهم من ذلك كله، الشاعر الهندي المتميز الذي لا يمكن أن تُخطِئ صوتَه أبداً.

إنسان عظيم جمع بين البراءة والاستقامة والذكاء السياسي

كنتُ قد قرأتُ قصائدَ مانغاليش قبل أن ألتقي به أولاً في مؤسسة بهارات بهافان الثقافية في بوبال في أيامها المجيدة بإدارة الشاعر الكبير عاشق فاجبيي. ربما لم يكن قد نشر حينها سوى أول كتابين له "فانوس على الجبل" و"الطريق إلى البيت".

كثيراً ما نَهَلَتْ قصائدُه من طفولته في قرية تهري جارهوال ومن أيامه وذكرياته كطالب في مدينة دهرادون، وهو الذي كان يعتبر نفسه من نسل الجبال.

اخترت ترجماتي الأولى من مجموعاته المبكرة التي تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي وضمّنتها في مختاراتي من الشعر الهندي المعاصر باللغة المالايالامية، وقد تبعتها مجموعات "نحن الذين نراقب"، و"الصوت مكان أيضًا" و"العدو في العصر الجديد".

كما كتب دبرال نصوصاً نثرية ممتازة باللغة الهندية عندما كتب عن حياته في ولاية أيوا الأميركية، كزميل أبحاث مقيم "أيوا ذات مرة" وكتابيه عن حياة الكتّاب "خبز الكاتب" و"الوجود الروحي- عزلة الشاعر". أتذكر بالكثير من الحب والألم رحلاتي العديدة معه لمهرجانات الشعر ومعارض الكتب، ومنها رحلة القطار من فرانكفورت إلى دريسدن ورحلتنا الأخيرة معًا إلى "أمسيات كرسي الشعر" في كولكاتا، ومحادثاتنا التي ستظل حتمًا في هذه الأيام متمحورة نحو الوضع السياسي للبلد، ونكاتنا الخاصة الصغيرة وتبادلنا المستمر لأحدث قصائدنا.

تخلّى عن جائزة ساهيتا احتجاجاً على جرائم اليمين الهندي

ينتمي مانغاليش دبرال في الشعر الهندي إلى جيل من الشعراء أصحاب الوعي السياسي، والمتميّزين من الناحية الجمالية والذين جاءوا بعد راغوفير ساهي، وشامشر بهادور سينغ، وكيدارناث سينغ، وكونوار نارين، وفيندو كومار شوكلا.

لطالما حملت قصائده فتنة خاصة بالنسبة إلي. يقول دبرال في قصيدة مثل "المدينة" مثلاً، والتي تحاكي معضلة الكثيرين منّا ممّن يغادرون مسقط رأسهم ويأتون إلى المدينة ونادرًا ما يتمكنون من العودة:

"نظرتُ إلى المدينة
وابتسمتُ
ثم مَشيتُ
تساءلتُ:
من يريدُ أن يعيش هنا؟
ولم أعد إلى هناك أبدًا".

وفي قصيدة أُخرى يقول:

"الأوراق التي استقرتْ على وجهي
تساقَطَتْ من أشجارِ طفولتي.
تُرسِلُ لي البحيرةُ أمواجَها،
ويرتَجِفُ الليلُ مثل موجةٍ. أعتليها
والأوراقُ الميّتة على وجهي".

هناك عدة قصائد أيضًا مثل "جيّدٌ لحياة بأكملها":
"ربما كان هناك القليلُ من الرّطوبة هناك
ظلٌّ فاتحٌ
ربّما رجفةٌ، وربما أَمَل"

وقصيدة "البيت الهادئ":
"بين اليقظةِ والنوم
بين النومِ واليقظة
أستَمعُ إلى الأصواتِ في الخارج
لا بكاءَ فيها
لا تهديداتٍ
لا خوفَ
لا أحدَ يُصلّي، ولا أحدَ يطلبُ الصّدقات...
لا أطلبُ شيئًا من العالم
ويمكنني أن أعيشَ كما السَّناجب
كما العشبِ
أو الكُرةِ
وخبطتها على الأرض.
هذا المنزل الهادئ
لا يقلقني البتة".

و"قصيدة الأحلام" أيضًا:
"لا هروبَ من الأحلام؛
تَحدُثُ هكذا كنتيجةٍ
لليقظة.
تُخبرُنا بما كنّا عليه
وكيفَ سنكون".
تبرز من بين أعماله المبكرة، قصيدة أُخرى أعتزّ بها للغاية وهي "صورةُ جَدّي" التي تنتهي على النحو التالي:
"لم أصبحْ طويلاً كجدّي
ولا هادئاً ولا جدّياً
ولكن فيّ شيءٌ منه
غَضَبُهُ
رِضاهُ
أمشي حانياً رأسي أيضاً
وأرى نفسي كلَّ يومٍ
جالساً في إطار صورةٍ فارغٍ".

كانت الأحلام والذكريات جوهر قصائد مانغاليش المبكرة، ولا يزال بعضها يخيّمُ على أعماله اللاحقة أيضًا على الرغم من أنها تبدو أقرب إلى الواقعية، على الصعيدين الشخصي والسياسي.

صدرتْ المجموعة الأولى من الترجمات الإنكليزية لقصائده، "هذا الرقم لا وجود له - قصائد مختارة 1981-2013" (دار بويتريوالا، مومباي 2014) وذلك على الرغم من ظهور العديد من ترجماته باللغة الإنكليزية في مجموعات أُخرى مثل "الناجي-" Survival (ساهيتيا أكاديمي) و"توقيعات- Signatures" (الصندوق القومي للكتاب) و"الإيماءات- Gestures" (ساهيتيا أكاديمي)، وقد حرّرتُ الكتابين الأخيرين. 

تُرجِمَت قصائدُه على نطاق واسع إلى اللغات الهندية والأجنبية مثل الروسية والبولندية والبلغارية والألمانية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والهولندية والبرتغالية، وقُرئت في العديد من مهرجانات الشعر في جميع أنحاء العالم، وظهرت في الكثير من المختارات الشعرية حول العالم وحصلت على العديد من الجوائز من قبل العديد من المؤسسات والتي تشمل جائزة ساهيتيا أكاديمي، وهي الجائزة التي تَخلّى عنها إلى جانب راجيش جوشي والعديد من الكتاب الآخرين، احتجاجًا على جرائم القتل التي تعرّض لها الكتّاب والرقابة على أعمالهم من قبل دعاة الكراهية اليمينيين، وكان مانغاليش أيضًا مترجمًا إلى اللغة الهندية لأعمال إرنستو كاردينال، بابلو نيرودا، تاديوس روزفيتش، وزبينغو هربرت، وبرتولد بريخت ويانيس ريتسوس وغيرهم الكثير.

تمتّعتْ بلدَتُهُ الجبلية تيهري في سفوح جبال الهيمالايا بحضورٍ متكرّر في شعره. لا بد أن يتذكّر المرء، كما فعل مانوهار شيتي في الخاتمة الموجزة للمجموعة، الانهيار الكبير لمشروع سد تيهري الذي أغرق مدينة تهري بأكملها إلى جانب أكثر من مئة قرية محيطة بها مما أدى إلى نزوح حوالي 12500 أُسرة، مما شرّد وهَجَّر حوالي مئة ألف شخص أُعيد توطين بعضهم في نيو تيهري المتهالكة، وهي غابة إسمنتية لا تشبه المدينة الأصلية الخصبة المزدهرة الخضراء الجميلة ("ليست هذه مدينتي نفسها، محضُ أحاسيسَ فارغة حلّت مكانها).

كان شِعرُ دبرال سريعًا في نقد هذا النوع من "التطوّر" الذي ينفي جماهير ضخمة من الناس من موطنهم الغنيّ والأخضر وليجعلهم يتخلّون عن أنماط حياتهم التقليدية ومهنهم المألوفة: قد لا يكون هذا النقد صاخبًا أبدًا أو عاطفيًا أو جاذبًا، بل نقدًا مؤلمًا ودقيقًا وساخرًا. غالبًا ما يكون شعورًا بالفراغ، شعورًا بالأماكن الشاغرة في ذاكرة المرء جرّاء جميع أنواع الخسائر التي تعرّض لها. لا يقول لنا سوى:

"انظرْ داخلكَ،
تحسّس تلكَ البُقعةَ الرّطبة، اِلمِسها،
تأكّد ما إذا كانت لا تزال موجودة هناك أم لا
في هذه الأزمنة القاسية" (قصيدة "اللمسة")

"تضيعُ الأشياء وتبقى أماكنها
تتحرّكُ معنا طيلة حياتنا،
ننتقلُ إلى مكانٍ آخرَ
تاركين منازلنا وأهلنا وماءنا وأشجارنا،
نهوي من أعالي الجبال مثل الأحجار،
ويبقى مكان الأحجار في الجبل هناك
فارغاً". (قصيدة "الأماكن المتبقية")
"انظر إلى الوراء قليلاً، يا أخي،
كيف أغلقَتِ الأبوابُ نفسَها
ووراءَ كلٍّ منها
غرفةٌ بائسةٌ تمامًا" (قصيدة "أُغنية المشرّد").

يتردّدُ صدى مصير هؤلاء الأشخاص المعوزين في "الظلام الداخلي للموقد" حيث كلماتك العاجزة "تنتشرُ مثلُ الحبوبِ التي تُجمَعُ في المجاعة" ثمّ يعرّف الشاعر نفسه بأنه "الصّبيّ الضائعُ الذي يأكلُ الخُبزَ في مكانٍ ما غاضباً".

تكشفُ القصائد الاثنتان والخمسون في المجموعة كلّها عن شاعر مخالفٍ للسائد يرفض الاقتناع بدعوى "التقدّم" التي لا تترك سوى طعمًا مرًا في أفواه الفقراء.

يرى الشاعر في قصائد هذه المجموعة الهامة الحياة على شكل نوع غريب من الاستجداء والتجوال والطّرْق على الأبواب العشوائية طلبًا للصدقات والخدمات والقدرات والحب والاضطراب والولادة نفسها (قصيدة "طلب الصدقات").

لا يكاد دبرال ينسى منزله في القرية. يتذكّرُ كيف أنه عندما كان طفلاً كيف أحضر والده إلى المنزل مصباحاً كهربائياً وكيف أرادت امرأة عجوز في الحيّ استعارته لإشعال النار:
"بعد كلّ هذه السنوات،
بَقِيَ الضوءُ المنبعثُ من المصباح
وما تزالُ استعارةُ الجدّة له لتُشعِلَ النّار
وأبي الذي أُسقِطَ في يدِهِ من هذا الطّلب؛
ما تزال تتردّدُ أصداؤُها إلى الآن
مثل قصيدةٍ عابرةٍ في سُخريّةِ عصرِنا هذا" (قصيدة "المصباح")

تتمثّل الرغبة الحقيقية للشاعر في أن تظلّ حقيقة جملةٍ بسيطةٍ مثل "نحن كلّنا بشر" ماثلةً في أذهانِنَا، وكذلك عباراتٍ مثل اليأس الذي يولّد الأمل، والكلمات الهاربة التي لا يمكن الإمساك بها، والطفوليّة في الحبّ والخجل عند الشعراء.

"الواقع هذه الأيام" قصيدة أخرى مثيرة للاهتمام حيث يقول الشاعر إن الواقع اليوم مبهر للغاية بحيث يصعب النظر إليه بدقة، فالواقع يتحرك بسرعة بحيث لا يمكن للمرء سوى التقاط لمحات عابرة منه:
"هذا الرجلُ الذي ماتَ للتو
لديهِ الكثيرُ ليقولَه،
ربما أكثر من جميع الأحياء
ودمُهُ النازفُ يصرُخُ بصوتٍ
أعلى من الدّم الذي يَهدُرُ في جَسَدِه"

ويختتمُ القصيدة قائلاً:
"الواقع مُفرِطٌ في واقعيته هذه الأيام
ودمُهُ مرئيٌّ أكثر من جسده".

أما الصورة التي وصف فيها البنك الجديد على أنه "مكانٌ لامعٌ وناعمٌ" تكادُ تكون سرياليّة وتفيد كإشارة مجازية للمعاملات غير الشخصية الجافة للعالم المعولم.

وفي قصيدة "أحدُ أمواتِ غوجارات يتكلّم"، والتي كُتبتْ في أعقاب المجزرة التي تلت حريق قطار جودهرا، حيث يشهَدُ الرجل الميتُ إنسانيةً في الموتى أعظمُ منها عند الأحياء.

سكنتْ تلك المدينة المشتهاة التي أتى الشاعر بحثًا عنها وتغلغلت في أعماقه، حيث يبدو النجم البعيد مثل أضواء المدينة ويأمَلُ المسافر أنه لا يزال بإمكانه الوصول إلى تلك المدينة التي يحلم بها "متدحرجاً مثل الحجر" (قصيدة "المدينة مجدداً").

اسمحوا لي أن أُنهي هذه المقالة التكريمية المتواضعة، متمنّياً بصدقٍ ألا أضطرَّ لكتابةِ المزيد من هذه النعواتِ لأصدقائي الأصغر سنًا (كان مانغاليش أصغر منّي بسنتين) بهذه السطور من قصيدته "اللمسة":
"لا تلمسوا بعضَكُم بالطريقةِ التي يلمِسُ بها كهنةُ الآلهة المتعصّبين أتباعَهُم المُصلّين
بل المِسُوا أقدامَ ورؤوسَ بعضِكُم البعض
كما يداعب العشبُ الطويلُ القمرَ والنجوم
انظرْ داخلكَ،
تحسّس تلكَ البُقعةَ الرّطبة، اِلمِسها،
تأكّد ما إذا كانت لا تزال موجودة هناك أم لا
في هذه الأزمنة القاسية"

أودّعُكَ اليوم باكياً يا صديقي العزيز. لقد غادرت للتو عالمًا يزدادُ ظلامًا تاركًا على عاتقنا عِبْءَ الحياة الأشبه بالموت في بلدٍ يتحوّلُ سريعًا إلى مقبرة، وإلى معاركنا الأخيرة من أجل الحرية والكرامة حيث سنفتقد جميعًا بشدّة وجودَكَ ورفقتَكَ الحانية المُلهِمَة.


* K. Satchidanandan، أحد أبرز شعراء الهند اليوم، يكتب بلغة المالايالام، وتُرجم شعره إلى لغات عديدة من بينها العربية وهو أيضاً ناقد أدبي وناشط ثقافي وسياسي




المراجع

alaraby.co.uk

التصانيف

شعر  أدب