الأصالة والجمال هي من أرقى مظاهر مدينة السلط التاريخية، حيث تتميز عن غيرها من المدن الاردنية بمبانيها التراثية القديمة والفخمة المدهشة بفنون عمارتها ولونها الاصفر الترابي .. وتلك البيوت تناثرت على تلالها في تناغم وانسجام جذاب، والتي يعود بناء معظمها الى العصر الذهبي للمدينة في الفترة الواقعة مابين أعوام 1890-1920.
وقد شكّلت السلط مركز جذب سكاني منذ العصور القديمة، نظراً لخصوبة أراضيها وتوفر المياه واعتدال الطقس فيها، وكذلك لموقعها الاستراتيجي الذي يتوسط مناطق تاريخية وجغرافية مثل القدس ونابلس والشام والبحر الابيض المتوسط.
وفي لقاء مع احد أبناء السلط « الحاج درويش الكاشف صاحب ال «75» عاماً حدثنا عن بعض تاريخ المباني والاسواق القديمة وبالذات عن» الوكالة « والتي تعني المجمع التجاري الضخم – كما « وكالة البلح « في القاهرة مثلاً ..وأخذ يسرد علينا موضحاً ما يلي :
تُعد عمارة أو مبنى (الوكالة) في مدينة السلط من المباني القديمة والتراثية التي تمثل فترة ازدهار المدينة في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين , وقد تم هدم هذا البناء التجاري الكبير عام 1965. ويقع ضمن الأبنية التي طالتها معاول الهدم وهي دار الحكومة (السراي) والجامع الكبير والمباني الملحقة به والدكاكين التي كانت مقامة خلف عين الرجال (السقائين) ودورات المياه العامة، وكذلك مباني آل البشارات القريبة من دار الحكومة.
مبنى الوكالة كان يضم دوائر حكومية ودكاكين ومحال تجارية مختلفة، وكان يُشكل سوقاً كبيراً في وسط المدينة أو ما كان يُعرف بـ (ساحة العين).
وقد بُني في العهد العثماني، وكان يُعد (وسط البلد) أيضا قبل هدم هذه المباني قلب المدينة ومركز الأنشطة المختلفة وملتقى الأسواق التجارية , ويقع على مقربة من مجمع الدوائر الحكومية التي كانت تتمركز في مبنى (السراي). وهذه الدوائر هي : المتصرفية والمحاكم والمالية وقسم الشرطة (في الطابق الأرضي). وكان يعلو مبنى السراي نقش مكون من أحرف باللغة العربية يُمثل توقيع السلطان العثماني يُطلق عليه (الطرّة).
التسمية
كان يُطلق على المحال – مدار البحث – (الوكالة) وربما جاءت هذه التسمية نظرا لحصر توزيع مادة السكر في وكالة واحدة كانت في احدى محال البناء الداخلي لهذا المجمع التجاري، وقد أُطلق مسمى (الوكالة) على كافة المحال والأبنية الاخرى. وكانت مادة السكر من المواد التموينية التي تدعمها الدولة خاصة اذا كانت البلاد في حالة حرب- وكانت تلك الوكالة معتمدة من قِبل الدولة لتوزيع مادة غذائية معينة على المنتفعين بكميات وأسعار محددة وفق حاجة الأُسرة .. ولما كانت مادة السكر من أهم السلع تتدخل الدولة منعاً للإحتكار، وكانت هناك أيضا وكالة للتمر …الخ. وهذه التسمية ليست لها علاقة بوكالة الغوث الدولية كما يظن البعض، كما أن الجيل الحاضر لا يعرف الا القليل عن هذه الأبنية، وهو الأمر الذي دعاني لكتابة هذا البحث. وقد اعتمدت على ذاكرتي في كتابته وأسعفني في ذلك (النشأة، الدراسة والإقامة) في مدينة السلط منذ نكبة عام 1948 وحتى الآن، وبالإضافة الى خدمتي بدائرة الصحة في السلط خلال الأعوام (1960 – 1985) مدة ربع قرن، فكنت شاهد عين على المكان والزمان.
واقيم – بعد هدم الوكالة – دوار زُرع ببعض الأشجار الحرجية ووضعت فيه مقاعد خشبية وحجرية. وهو الآن ملتقى رواد هواة لعبة المنقلة وهي لعبة شعبية شائعة في بعض المدن الأردنية، وهي عبارة عن لوحة خشبية سميكة مستطيلة الشكل، فيها صفان من الحفر وعددها سبعة على كل صف، ويوضع في كل حفرة حصاة، وعادة يلعبها شخصان ولها نظام خاص في اللعب.
ومن هذا الموقع يُمكن مشاهدة جبل القلعة وهو بداية شارع واد الأكراد.
الوصف
بُني من الحجارة الصفراء التي تشتهر بها مدينة السلط. وكان هذا البناء الكبير على شكل جزيرة مستطيلة، وجاءت أسقفه على طريقة العقود المتقاطعة والتي تستند على جدران سميكة. والبناء محاط بالدكاكين من ثلاث واجهات. ودكاكين اخرى في البناء الداخلي لهذا المبنى، ويضم أيضا بعض الدوائر الحكومية. وكانت معظم هذه الدكاكين تتعاطى بيع المنتوجات الزراعية والحيوانية وأدوات المزارعين والقماش والبقالة (السمانة) والخضار ومنتجات الألبان والتبغ (دخان الهيشة) والملح الخشن والعطارة وغيرها.
الواجهة الأمامية
كانت تُشرف مباشرة على عيون الماء الثلاثة (الرجال والنساء والدواب) ودورات المياه العامة، وعلى الدكاكين التي كانت مقامة خلفها. وكانت تضم هذه الواجهة دكان ومكتبة سري العالم البسطامي ودكان خضار أيوب قموة ودكان خضار أحمد ابو البصل ودكان راجح المفلح واحمد محمود ابو هزيم لبيع اللحوم وبسطة خضار سالم الحليق (ابو منصور).
وفي مقدمة الواجهة كان المدخل الرئيس للبناء الداخلي المسقوف والذي كان عدد المحال في البناء الداخلي لا يقل عن (10) دكاكين في كلا الجانبين.
كان يحتوي على مجموعة من الدكاكين وله سقف بُني على طريقة العقود المتقاطعة أيضا، وعلى جانب هــذا المدخل كان يوجد عدد من الدكاكين ومخازن لأصحاب المحال المجاورة ومنها دكان كان يقيم فيها جابي الأملاك الوقفية ودكان محمود العايش الحياري (ابو منصور) لصنع السكاكر (الملبس والتوفي) ومستودع لدائرة الصحة ودكان مصلح أحذية (اسكافي) سوري الأصل، ويُقال أنه كان يتمتع بصوت جميل وكان يُؤذن أحياناً. ومن أمام هذه الواجهة يمكن الوصول بكل يُسر وسهولة الى عيون الماء والى أسواق المدينة الأخرى وهي : سوق الحمام ويُقدر عدد المحال في سوق الحمام ب (167) وهي دكاكين ومحال مختلفة وهي ما تزال قائمة (الذي ينتهي بشارع الميدان)، وسوق الإسكافية يٌقدر عدد الدكاكين في سوق الإسكافية بما لا يقل عن (20) في كلا الجانبين وقد هُدم بعضها، وسوق الجامع الكبير وسوق القماش في شارع الدير يُقدر عدد الداكين في شارع الدير (سوق القماش) ب (20) في كلا الجانبين وما تزال قائمة.
ومن هذه الواجهة يمكن الوصول الى جسر العين ثم الى طلوع محلة الجدعة (الفوقا والوسطى والتحتا) وبمحاذاة جسر العين توجد أماكن الإستحمام بمياه العين التي كانت تتميز بالبرودة صيفاً والدافئة شتاء. وهي لا تزال قائمة ولكن بدون مياه.
الواجهة الخلفية
وهي تُقابل الواجهة الأولى وتُشرف مباشرة على الشارع المؤدي الى واد الأكراد ومدخل سوق الخياطين (سوق الشوام) ويُقدر عدد الداكين في سوق الخياطين ب (18) على الجانبين وهي ما تزال قائمة الذي هو امتداد لسوق الإسكافية. ولهذه الواجهة مطلع درج خارجي يؤدي الى طابق علوي (بُني فوق مبنى البريد)، وكانت بلدية السلط تشغل هذا البناء قبل أن تنتقل الى المكان الذي انتقلت منه الى الموقع الحالي. ومن هذا المكان يُمكن مشاهدة دار الحكومة (السراي) وبيوت آل الداود (هُدمت وجُددت) وآل عطية (هُدمت) وآل الخطيب (ما تزال قائمة).
الواجهة القبلية
كانت تُشرف مباشرة على الشارع العام المؤدي الى دار الحكومة (السراي) وعلى المباني والداكين المُقامة على الجانب الآخر لهذا الشارع وعلى مباني وبيوت آل السكر وآل ابو جابر وآل البشارات. وكانت تضم هذه الواجهة دكان عيد الخوري لبيع المشروبات الكحولية ودكان خضار الحاج علي الجنيني ومطلع درج داخلي يؤدي الى بيت كانت تسكنه عائلة بشير شريم (ابو محمد)، وبعد اخلاء هذا البيت أُلحق بالبيت المجاور والذي كانت تشغله دائرة الصحة (طبابة مركز السلط) وكانت تضم أيضاً دكان حلاق يوسف قبعين ومن بعده جريس قبعين وبعد ذلك تحولت هذه الدكان الى مشغل خياطة لتوفيق أبو العوف ثم دكان جميل قطيشات (كاتب استدعاءات) ودكان حمدالله الريان (كاتب استدعاءات). وكان لهذه الواجهة أيضاً مطلع درج آخر يؤدي الى دائرة الصحة وآخر الى مكتب مأمور الجمرك ومكتب مراقب السلوك (ممثل وزارة الشؤون الإجتماعية). وكانت تضم كذلك وعلى الشارع الرئيس مقهى سالم نويران ثم مستودع للبريد ومكتب بريد السلط والذي كان له مدخل أمامي وآخر خلفي. وكان يعلو مكتب البريد مبنى بلدية السلط الذي أشرنا اليه.
أما المباني التي كانت مُقامة على الجانب الآخر لهذا الشارع والذي تم هدمها أيضاً فكانت دكاكين وبيوت وهي : صيدلية الشعب لصاحبها حمدي الساكت، ودكان عبدالحليم العصفور ومحمد المطلق الخليفات لبيع الأدوات الصحية ومواد البناء وكان قبل هذا المحل دكان حلاق سليم بكري البسطامي الذي انتقل الى بناء البلدية مقابل دير اللاتين، وبجانب هذه المحال كان هناك مطلع درج داخلي يُؤدي الى بيت سكن كان مقراً لنادي الإتحاد (وربما كان هذا النادي أول نادٍ في السلط)، ثم أصبح مقراً للجمعية الوطنية للهلال الأحمر الأردني فرع السلط. وكان هناك دكاكين اخرى وهي دكان محمد مطلق الحياري ودكان وليد شنيور ومحل شاكر وشكري البسطامي لتصليح الساعات والسمكرة والذي تحول الى معمل سكاكر وحلاوة لصاحبة يعقوب البلة (ابو جورج) ثم دكان حلاق عبد وحسن شنيور، ودكان بقال رشيد وكيلة وكان قبله سليمان الحياري، وأخيراً دكان ابراهيم النصار حتر لبيع المشروبات الكحولية. وفي منتصف هذه المحال كان مطلع درج داخلي يؤدي الى بيت سكن شغلته مديرية الصحة قبل انتقالها الى مبنى المحافظة الجديد في عام 1965. وكانت هذه المباني جميعها تعود ملكيتها الى آل البشارات وقد تم هدمها ضمن الأبنية الأخرى. وكان يفصل مباني البشارات عن السراي ممر له مدخل كبير يؤدي الى مستودعات كانت تُستعمل لتخزين مادة البرسيم. وكان يوجد طريق (درج) بجانب دكان ابراهيم النصار حتر يُسمى درج الخطيب والذي يُؤدي الى بيت فرح ابو جابر. وبمحاذاة درج الخطيب يوجد مطلع درج خارجي يؤدي الى طابق علوي (بيت سكن) تحول الى مقهى.
وعلى جانب الشارع العام اقيمت أربعة عشر دكاناً تمتد من درج الخطيب الى موقع جسر العين وهي ما تزال قائمة وتعود ملكيتها الى آل أبو جابر.
أما المحال التي كانت مُقامة خلف عيون الماء ودورات المياه العامة فكانت دكان مصطفى المسعود ودكان ناجي الدباس ودكان احمد عواد الحياري ودكان يوسف الزبن النسور، ودكان الشيخ عاطي باكير ودكان عبدالله سليمان الحياري للبقالة والقرطاسية، وعلى الزاوية كانت ملحمة عبدالكريم البحبوح.
ويمتد بمحاذاة مدخل سوق الخياطين باتجاه العين خمس دكاكين ويعلوها بيت سكن ثم مدخل فرن (مخبز) جميل خرفان ويلي هذا المدخل حسبة ظافر الداوود ودكان صالح المطلق القطيشات واخوانه.
وتعود ملكية هذه المباني الى آل داود وهي ما تزال قائمة. ويقع مطعم العمد على الزاوية المحاذية لمدخل سوق الحمام وقبالة العين وكان هذا المدخل على شكل عَقدة (قوسية) وهدمت في أواخر الأربعينات. لذلك كان يُطلق على هذا المطعم (مطعم العقدة). ويوجد قبالة عيون الماء حوالي خمسة دكاكين و(واثنا عشر) دكاناً في المدخل المؤدي لسوق الإسكافية على الجانبين باتجاه العين.
الواجهة الشمالية
وهي المقابلة للواجهة الثالثة وتُعد جزءاً من سوق الجامع الكبير وكانت تُشرف مباشرة على الجامع الكبير وتضم مجموعة من الدكاكين وهي : الباب الخلفي لمكتب البريد وصيدلية الشرق العربي لصاحبها عبدالحليم بدران (ابو هشام) ودكان ألبان صبحي نوار ودكان سمكري خالد الأدهم (ابو عصام) ودكان صلاح القضاة لبيع الزي العربي (عقل وحطات وعباءات) ولوازم المزارعين، ثم دكان محمد علي العناسوة لبيع البقالة بالجملة، ثم ملحمة حبيب العلم.
وكانت هناك ثلاثة دكاكين صغيرة (سمكري، وصانع أحذية وبقال) ملحقة ببناء الجامع الكبير، وفوقها كانت المحكمة الشرعية وهي أملاك وقفية. وبمحاذاة درج المحكمة الشرعية يوجد طريق (درج) يؤدي الى الكنيسة الإنجيلية والذي ينتهي بجبل القلعة والتي ما تزال معالمها الى اليوم. وفي الطرف الآخر لبناء المسجد كان هناك مطعم محمد الكردي (ابو محي الدين).
ويختم الكاشف حديثه بألم وحسرة : ان المباني القديمة في السلط التي طالتها معاول الهدم !! هي من الكنوز التراثية التي علينا الحفاظ عليها دائما للأجيال القادمة ولتراث البشرية.