رواية سليمان القوابعة حوض الموت واحدة من الروايات الجديرة بالدراسة المتأنية، لاستكناه محتوياتها، وتجلية محاسنها، والإشارة إلى هفواتها، وهذه الرواية تدور أحداثها في مدينة الطفيلة جنوب الأردن بدءا من نهاية الدولة العثمانية إلى نهاية حكم الملك عبدالله بن الحسين. وعبر شخوص الرواية الرئيسية والهامشية استطاع القوابعة تجسيد معاناة أهل الطفيلة هذه السنين الطويلة. كما استطاع باقتدار أن يخلد مدينته الصغيرة في عمل أدبي له ما بعده،. واستطاع كذلك عبر سرد الأحداث تصوير مدى التلاحم والتناغم بين الأردنيين والفلسطينيين، كما يبين أن مشكلة فلسطين ليست إقليمية، بل هي إسلامية أولا وأخيرا. ??

شخوص الرواية: شخوص الرواية كثيرة كثرة مربكة، لكن القارئ يستطيع أن يميز بين الشخوص الأكثر حضورا والأعمق تأثيرا، وبين الشخوص الثانوية المتممة للبناء الروائي. أما الشخوص الثانوية فنذكر منها: عوض بن خلف، النشاش خادم مسجد ابن الحنفية، وموسى بن إبراهيم، وعبدالعزيز بن محمد مؤذن جامع الحميدي، وهارون بن سحيمان، ونايل بن حمد، وحماد بن يحيى الطالب الذي هرب من المدرسة بسبب سوء معاملة المعلم حرب بن الأضرس، وذهب لقتال اليهود في فلسطين ونجا من الموت بأعجوبة، وجاء ليموت بطلق ناري طائش في عرس بالطفيلة. وغيرهم ممن لا ضرورة لتدوين أسمائهم. أما الشخوص الرئيسية فهم: 1 ـ أحمد بن سعود الدباغ: رجل جاء من الحجاز أيام ثورة الشريف حسين، استوطن الطفيلة، وعمل معلما في مدرستها، رجل محبوب من الناس ومن التلاميذ، يحترمه الناس ويقدرونه لعلمه وإخلاصه وحدبه عليهم، لا يقبل ظلم زملائه المدرسين اليساريين لطلاب المدرسة، ولا سوء أخلاقهم وتصرفاتهم، وهو في صراع دائم معهم. يخطب الجمعة، ويصلح بين الناس، يثور إذا ارتكب المنكر جهارا، يستر على أهل الذنوب معايبهم إذا استتروا، يتدخل في الوقت المناسب ليحمي النساء من الوقوع في الخطأ تحت ضغط الحاجة.ص123، داعية واع يفهم في السياسة كما يفهم في معالجة النفوس المتعبة الحائرة، يترك التعليم في المدرسة ليتفرغ للدعوة وإصلاح المجتمع ص113، 118، 119. عينه لا تنام عن البلدة وأحوال الناس، فيمسك بالمرتشين من الموظفين والحكام الإداريين ص164، يشجع على التوبة ص166، يصفه الناس بالصوفي ص171 لكنه عابد على وعي وإدراك يحن في أواخر أيامه إلى الحجاز حيث مولده ومنبته ص189، يختفي أثره وتنقطع أخباره، فيفتقده الناس ثم يعلمون بموته في الحجاز، فيترحمون عليه، لكنه يشكل في أذهانهم صورة مثالية مضيئة للرجل الرباني المخلص، الذي لم تدنسه شبهة، فيمسي عندهم رمزا. وقد استطاع القوابعة ـ برسمه لهذه الشخصية ـ إعادة الاعتبار للعلماء أو المتمسكين بالدين، بعد أن شوه العلمانيون واليساريون هذه الصورة في كتاباتهم وأفلامهم ومسلسلاتهم. 2 ـ علي بن القف: رجل على أبواب الخمسين، أبوه الحاج عبدالله بن القف يعيش في قرية، وله علم بالدين، يستفتيه الناس ص40 وكان شهما يفك المربوط بسبب ضريبة (العصملي)? ص41 فليس غريبا أن يكون ابنه على مثله في الشهامة، فهو رجل مهذب، شهم، لا يخاف عسكر الترك، يتصدى لهم، يعرف اللغة التركية ويتحدث بها مع الجند، وينتصر للضعفاء الذين يعتدي عليهم عسكر الترك ص50، وكان صلب العود، قوي الشكيمة. اعتقله الترك ص53 وعذبوه، ونقلوه بالقطار إلى الشام، ولكنه مات في الطريق قبل أن يصل إلى سرايا الترك ص53، وقد ترك موته ألما عميقا في نفوس الناس. 3 ـ جدعان بن عاتب: رجل من عامة أهل الطفيلة، معروف عندهم، صاحب أشجار زيتون، أحد الرواة الذين يروون تاريخ البلدة وما وقع فيها أو لأهلها من مآس وأحزان، ويهتم بأمور الطفيلة وناسها ص147. 4 ـ أغضيان: صاحب ربابة، يغني عليها أوجاعه وأوجاع الناس ص51، ويشارك أهل بلده في أفراح الطفيلة بالشهداء، فتجري الخيل في سباقات وأشواط، ويكون لصوته الجهوري المكان الأول في توصيل المعلومة للناس، وفي زمن القحط وليالي البؤس أو الفرح هو فارس الربابة الوحيد ص183، ورغم هذه الروح المرحة، إلا أنه لا يقر الخروج على تعاليم الإسلام، ولا على ما تعارف عليه الناس من الحياء. 5 ـ مبارك بن سالم: رجل غني، صاحب مضافة وبيوت شعر، ماله كثير، وخيره للناس كثير أيضا، قلبه لا يحمل الحقد، بل يعفو ويسامح، حتى مع الذين يسرقون ماشيته وأغنامه، يعاتبهم ويطلق سراحهم، لأنه يفترض فيهم الجوع والحاجة، مما أطمع اللصوص فيه ص61، 109. وأما على نفسه، فهو رجل قليل الزاد غير متنعم حتى لا ينسى الفقراء وذوي الحاجة ص80، وهو رجل حليم يضبط نفسه عند الغضب، وكان حريصا على عمل الخير، يطالب زوجته خضرة بنت مطلق أن تذكره به إن أنسته مشاغل الحياة عن فعله، أو تتفقد هي الناس فتصلهم بالبر والخير ص158. هؤلاء هم صفوة شخوص الرواية، وأما من موظفي الحكومة فنجد شخصيتين بارزتين:

الأولى: خنيفس بن رجيع، وهو موظف الدولة لجمع الضرائب من الناس، انتقل من ملاك الدولة العثمانية (العصملية) إلى ملاك حكومة الإمارة، لكنه بقي على سوء خلقه، فهو رجل نذل، كثير السوء، يعامل الناس بقسوة وفظاظة، ويضربهم بسوط كذنب الفيل، سليط اللسان، غشوم ظلوم، مرتش. والشخصية الثانية من موظفي الحكومة: عطاالله المرياع، مسؤول البلدة الجديد، الذي خلف القائمقام عبدالمهدي، فأخذ يتجول في جهات البلدة الأربع، ليتعرف على أصحاب الأموال والقطعان والأطيان، زاعما أنه سيطور البلدة أكثر من سلفه القائمقام عبدالمهدي ص160، لكنه استغل منصبه ليسرق أموال الناس باسم الضرائب، آخذا الرشوة مهما كانت حقيرة. ومن النساء نجد شخصيتين بارزتين أيضا، هجة، وهي المرأة العجوز، وراوية بعض الأحداث من أيام (العصملي) وهي من الجيل الأول في أحداث الرواية، وقد حضرت أيام الغزو (زوبر نقيع الدم ص16) وهي قرينة لجدات الجيل الثاني (علي بن القف، وجدعان بن عاتب، وأغضيان وأضرابهم). وقد ماتت هجة في منتصف الرواية تقريبا. أما الشخصية الثانية من النساء، فهي خضرة بنت مطلق، زوجة الشيخ مبارك ابن سالم، امرأة خيرة، صاحبة فضل، كان زوجها يوصيها بتفقد الناس والحنو عليهم، وكانت امرأة برزة، تستقبل الضيوف وتكرمهم في شق الرجال (المضافة) ريثما يحضر زوجها. أما المعلمون، فكان منهم غير الشيخ ابن مسعود، الذي مر ذكره ثلاثة هم: حرب الأضرس، وحناديب، وعطاش، وثلاثتهم جاءت بهم الوظيفة للعمل في مدرسة البلدة ص71،

وكان ثلاثتهم ذوي ميول يسارية وانتماءات حزبية، وكان ما يميزهم عن غيرهم من المعلمين قسوتهم على تلاميذ المدرسة، وبذاءة ألسنتهم، وكثرة معارضتهم لابن مسعود، وسخريتهم منه، ومن خطه الفكري والتعليمي والتربوي، ويرمونه بالتخلف وعدم فهم الحياة، وكان لهم سلوك في الخفاء يتمثل في سهرات مشبوهة، وشرب الخمر، بل ويحضر (حرب الأضرس) الأعراس متخفيا في لباس امرأة، ليندس بين النساء ويطلع على أسرارهن، ويضبط متلبسا بهذا الجرم، ولولا سمعة المدرسة، وسمعة النساء والمرأة التي يطاردها، لنكل به من ضبطه متلبسا بفعلته الخسيسة تلك. ويجلي القوابعة سلوكيات هذا النمط من المعلمين المستترين خلف الثورية والحزبية ص91، 92 بما يفضح كل هذه الشعارات الجوفاء، وفي نهاية المطاف يعيش حرب هذا منبوذا في البلدة من الناس، وقد نبذه حزبه أيضا ص205. أما حناديب، فهو على شاكلة زميله حرب الأضرس، وإن كان حضوره أقل، وفاعليته أضعف، لكنه مساير لحرب في سلوكه وسوء خلقه. بينما المعلم (عطاش) يأخذ خطا آخر، إذ يسترد نفسه من هذه الطريق المعوجة، حيث توقظه كلمات الشيخ ابن مسعود، وقسوة حرب الأضرس على التلاميذ، وبذاءة لسانه وزميله حناديب، وتلمسه لحياة الناس بعد رؤيته أحد التلاميذ يأكل التمر بنواه، فيعرف معاناة الناس بعيدا عن الشعارات المضللة، فتنتابه حالة من مراجعة النفس، تدفعه إلى العزلة الشعورية، والانسحاب النفسي من هذا الخط السيئ، حتى تصل به الحال إلى كثرة التأمل، والانفراد بالنفس، ومن ثم الاستقامة والاقتراب النفسي والروحي من زميله الشيخ ابن مسعود، وحب الناس والتعاطف مع التلاميذ، فينقلب مدافعا عن الشيخ ابن مسعود. وهناك شخصيتان بارزتان أيضا، وهما يمثلان نموذجا آخر من الناس القادمين إلى الطفيلة، هما: عبد ربه، وصبح. وهما منفيان من عمان إلى الطفيلة لأسباب سياسية أو وظيفية، ويغلب على الظن السبب الأول كما هو في السياق العام للرواية. أما عبدربه فيستكين لنمط الحياة الجديدة ويرضى به، ويصاهر أهل الطفيلة، فيتزوج من إحدى بناتهم، ويحسم أمره بالبقاء في الطفيلة وعدم العودة إلى عمان، لأنه استطاب الحياة وتآلف مع الناس. أما صبح، فهو مازال مصرا على العودة إلى عمان ـ عندما تحين الفرصة ويرفع الحظر ـ يحب الجبال والجمال والرقي والتقدم والأضواء والنشاط، ويحاول ثني زميلة (عبد ربه) عن البقاء في الطفيلة فلا يفلح. هذه أبرز شخوص الرواية، ومن خلال تحريك القوابعة لها وللشخوص الهامشية المساندة في فضاء الرواية تتكامل الأحداث، لتشكل العمل الفني الغني. البعد الزماني: قلنا: إن الرواية تمتد من بداية القرن العشرين إلى أوائل العقد الخامس منه، متمثلة في ثلاثة أجيال، ونلحظ البعد الزماني لا في الحوار والذكريات عن أيام الغزو، ولكنه يتمثل أيضا في معايشة الزمن بمفرداته وتعبيراته وموجوداته.

ونلحظ انشغال الناس بالأحداث الكبار كالحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، وكذلك ثورة الشريف حسين، وحرب فلسطين، ومعارك اليهود، ودفاعات العرب عن فلسطين، وفي كل هذه الحوادث الكبار تجد البعد الزمني يواكب الحدث، فالمجاهدون تطوعا وبدافع ديني شخصي، وحمية إسلامية في بداية أحداث فلسطين وبعد وعد بلفور 1917م، يتحولون إلى جنود رسميين في آخر الرواية عند الاقتراب من أحداث 1948م. بيد أنني لاحظت تناقضا تاريخيا في هذه النقطة، وهو أن الكاتب أورد ص154 حوارا مع جامع الضرائب (خنيفس بن رجيع) وهو يسب أحد المواطنين بالتركية، والمعلوم أن الدولة العثمانية انتهت سيطرتها على الأردن بنهاية 1920م تقريبا، فكيف يكون هذا الخنيفس جابيا ويشتم الناس في زمن ـ وحسب التسلسل الروائي سنة 1947م وما بعدها، بل في الفصل نفسه إشارة للملك عبدا> ص156 وهذا يعني أن الزمن في عهد المملكة (لا الإمارة) فكيف يكون خنيفس جنديا (عصمليا)؟

ونلحظ حركة الزمن في التطور الذي أصاب الناس وتبدل وعيهم، فبعد أن كان الليل شديد الظلام يعشقه اللصوص ويرهبه الناس ويتيقظ له الرعيان ص109 تأتي كثرة المصابيح (الفوانيس) وازديادها المستمر في شوارع البلد، لتبديد الظلام والخوف، حيث يقل اللصوص، وتقل الوحوش التي كانت تجوب الشوارع ليلا، ومع هذا، وأخبار القتال هنا وهناك، وبالتالي قلت حكايات الخوف من الليل، وقل تصديق غالبيتها ص171، وخف أو انقطع الغزو المباغت ص181 وانشغل الناس بتنمية بلدتهم وحياتهم ص183. وهكذا يجعلنا القوابعة نعيش البعد الزمني داخل الطفيلة وخارجها. ??البعد المكاني: أخذ القوابعة قارئه إلى أماكن كثيرة في الطفيلة وما حولها، حتى باتت هذه الأماكن معروفة لقارئ الرواية وإن لم يرها بعينيه، فهناك مرتفع كردوش الذي يطل على البلدة من الشرق ص9 والسنجة ونمور فيفة ص11 وزوبر قبلي البلدة وقد حدثت فيه واقعة أسالت الدماء أنهارا ص17، أما وادي زيد، وحيل الصلمة فيقعان على مشارف البلدة من الجهة القبلية ص18 وساحة العروض تقع شرقا ص26، وهناك نبع الجهير ص20 ونبع العنصر ص36، 49 كما أن فيها الجامع الحميدي، وجامع ابن الحنفية ص20 ومرتفع جابر الأنصاري ص53، ومنحدر السيطان ص53.. ويذكر القوابعة أماكن كثيرة أخرى، لكن أكثر هذه الأماكن حضورا نقب النخبار، في الطريق إلى الخليل والقدس، وبروز هذا النقب في الرواية لكونه مكان رعب، حيث يستوطنه قطاع الطرق. والناظر إلى جهة الغرب من الطفيلة، بإمكانه رؤية جبال الخليل، وإن كان بينه وبينها أهوال من الرعب.

بيد أن البعد المكاني يتجلى في انعكاسات هذه الأماكن على أخلاق الناس وسلوكهم، فالطفيلة بلدة جبلية تحيط بها الصحراء من كل جانب، تعيش على الأمطار، فالجبال طبعت أهلها بالصبر والتحمل والرضا بالقليل، وقلة الأمطار كونت لديهم الإحساس بأهمية الماء، والحاجة الماسة إليه. وعمان في ذلك الوقت قرية صغيرة ص61 لا تفوق عن الطفيلة كثيرا، وهنا يدع القوابعة قارئه ليقارن بين ما خص به الطفيلة من عمران، وما خص به عمان في مقابلة عاتبة هادفة!! والنظرة للطفيلة على أنها منفى لكل مغضوب عليه من الحكومة ص96 يكفي للتدليل على بؤس البلدة، وشظف العيش فيها. لكن البيوت الفقيرة المتلاصقة بتواضع جم، وخوف متمكن، تستوعبهم مع دوابهم في رضا تام، فتختلط أنفاس الناس بأنفاس الدواب، ثم يهون على نفس قارئه وقع الصدمة في سخرية مرة لاذعة عندما يبرر ذلك بأن أنفاس الحيوانات تدفئ المكان ومن فيه!!ص59. كل هذه الأماكن وخصوصياتها كونت طباعا لأهل الطفيلة، منها الكرم على قلة ما في اليد والترحيب بالغريب وإكرامه، والتآزر بين الناس. ??البعد الإنساني: ويتجلى البعد الإنساني في الرواية في صور شتى تأخذ بمجامع القلب، وتثير موجعات النفس، لكن ما يخفف من هذه اللواعج اللمسات الحانية من الفطرة السوية التي لم تدنسها المدنية بنزق فرديتها، وغطرسة أنانيتها. فالرواية تنضح بالخوف، حتى لكأني به يختلط بطعامهم وشرابهم، ويتسلل عبر شقوق جدرهم مع الهواء.

يجدونه جاثما فوق تلة، أو خارجا من ثغرة، أو ممتدا في طريق، أو مضطجعا تحت شجرة، أو مختبئا خلف صخرة، يتمثل في قطاع الطرق، ولصوص الليل، وأنياب الضباع، ومخالب السباع، ولسان حية يعبث بها رضيع، وسوط موظف غشوم، وعسكري ظلوم، وعصا معلم مفتون. ورغم ذلك كله لا يقف الخوف المتركز هذا حائلا دون الدفاع عن عرض امرأة اغتصبت عنوة ص21ـ24 أو رجال ضربوا على مؤخراتهم المعراة جبروتا وظلما، من موظف متغطرس، يتقوى بهيبة وظيفته. والجوع سيد الموقف في حياتهم، لكن هذا كله لا يمنعهم من الكرم الفطري، ولا التراحم والتواد بينهم. والعري سمة أخرى لكن عري الجسد لا يعني عري الروح ولا عري الأخلاق. وهذه القسوة المتمثلة في كل شيء في حياتهم جعلتهم أصلب أعوادا، وأقوى على تحمل الألم، ومعايشة الأوجاع. وترتفع نبرة البعد الإنساني في قمة تجلياته عندما نجد (مبارك بن سالم) يسامح اللص الذي يسرق حلاله لجوعه ص61 وعندما يصلي بعض المسافرين إلى القدس صلاة الجنازة على قتلى من اللصوص وقطاع الطرق ويدفنونهم، ويدعون الحكم فيهم > رب العالمين ربنا يفصل بينهم ص37 ورفض ابن مسعود توبيخ المخطئ والإكثار من لومه، حتى لا يقضي على البقية الباقية من كرامة الإنسان عنده ص106.

وربما كان الندم على سفاهات الماضي من هجمات القبائل على بعضها، صورة أخرى من صور رجوع الناس إلى فطرهم الإنسانية السليمة ص181. ??مظاهر الحياة: كانت القسوة هي المظهر الواضح عند أهل الطفيلة. في تلك الفترة من الزمن، وقد استطاع القوابعة أن يجسد هذا المظهر في صور متعددة فهي واضحة في علاقة عسكر الترك بالناس، وفي علاقة المعلمين بالتلاميذ، وفي قسوة اللصوص وقطاع الطرق وفي قسوة الحيوانات والحشرات عليهم، وفي قسوة الطبيعة وفي قسوة الجوع. وتزداد قسوة الحياة حتى تخرج المخدرة من خدرها لتشارك زوجها الحصاد، وعلى ذراعيها وليدها، فتتركه جانبا لتحصد، وقد يستغرق الأمر أياما وأسابيع وهم في الخلاء وحدهم، وقد تعرض لهم حاجة، فيذهب الزوج ليقضيها تاركا زوجته وطفله وحدهما عرضة لكل طارئ لا يعلم عاقبته إلا الله، من وحش ضار، أو سفيه من الأخلاق عار، أو حية تضاجع الوليد في فراشه، وقد يظنها لعبة فيمسك بها، وقد يدغدغها بأسنان لم تر النور بعد، والويل كل الويل للأم إن اقتربت، والحسرة والقلق والخوف الرعيب إن هي بقيت تراقب الوضع عن كثب وقد قيد خطواتها المجهول الذي قد يحدث بعد لحظة ص120ـ121. ??العادات والتقاليد: استطاع القوابعة في حميمية صادقة جذبنا إلى عمق الحياة الخاصة لأهل الطفيلة في تلك الفترة من الزمن، وقد أبرز لنا هذه الحياة في عدة جوانب، نذكر أهمها: ففي مجال الطعام، نجد طعامهم قليلا وبسيطا في سفرهم وإقامتهم، والقوابعة يصفه لنا وصفا دقيقا كأننا نشاركهم صنعه والاقتيات به. وهم يدخرون الزيت والزيتون والقرع والتمر وكل ما يمكن تجفيفه وتصبيره حتى اللبن الجميد، ويضعون الزيت في يقطينة جافة ص113 وهم يحاولون الإفادة من كل شيء فتراهم يجمعون روث البقر في أقراص تجففها الشمس ويبيعونها في السوق ص174، ويغسلون ملابسهم بالأشنان ص171 لقلة الصابون ـ أو عدم معرفته آنذاك ـ ويعمل عدد منهم في جمع الحطب، وبيع الدلو منه بقرش ص182. أما المظهر العام للناس، فنجد النساء يختلطن بالرجال، يكلمنهم ويكلمونهن في حشمة وعدم تبذل، وقد يجلسن معهم ويقدمن الضيافة لا سيما إن كن عجائز أو ذوات مكانة كهجة وخضرة بنت مطلق ص48. والنساء يضعن على رؤوسهن غطاء ثقيلا يسمى الوقاة تخبئ فيه المرأة أشياءها المهمة كالذهب وغيره، ولتعودها عليها بثقل معين، تشعر بخفة الرأس إذا سرق منها شيء، ولا بد لها أن تحفظ على ثقلها الذي ألفته، وإلا أصابها الصداع ص111.

والرجال يتركون شعورهم ويجدلونها في جدائل (ضفائر) علامة على الشباب والقوة والفتوة ص141، 178، 183، 184 ومن العيب تعرية الرأس عند الرجال ص134 وحرام عند النساء، وبعض النساء يدخن غليونا مثل الرجال ص112. والبارودة شيء مهم في حياة الرجال حتى لو كان الرجل عاقرا أو شيخا كبيرا أو معوقا، وأهل الطفيلة يخافون من العفاريت، والغيلان. وقد يعتقدون أن دم الضب المسفوح يخفف الألم، ويعتقدون في النجوم وتأثيرها، وغير ذلك من المعتقدات الشعبية الخاطئة. أما علاج مريضهم فبطرق بدائية كالكي بالنار، أو مواد بسيطة كالملح والجنزارة وغيرهما لعلاج العين، فإذا تلفت ـ لتقصيرهم، أو جهلهم، أو قلة حيلتهم، وضعف إمكاناتهم ـ أسندوا النتيجة لقدر الله المكتوب على الجبين. والثأر يجعلهم يعيشون في قلق مستمر، وهم دائم. ولكن حمى الثأر الفوارة تبدأ في الخفوت في ظل الجهاد، فيتسامح الناس في القتل الخطأ. ومن العادات السيئة أيضا النواح على الميت، ولطم الخدود وقص الضفائر وكلها من الأمور المنهي عنها شرعا. ويهيئ الله للناس ما يغير هذه العادات والأعراف، فيأتي الجهاد في سبيل الله على أرض فلسطين، فيتحول النواح على الشهيد إلى زغاريد!!، والتعازي إلى تهاني، والحزن إلى استبشار بالجنة، والخسارة في الأرواح إلى علو في المكانة ـ له ولأهله ـ بين الناس ص178. ومن العادات السيئة الباقية الحلف بالطلاق حملا للضيف على النزول في الضيافة، وقبول القرى ص88. ومن سفاهتهم إطلاق الأعيرة النارية في الأعراس والأفراح ابتهاجا وسرورا، تفاخرا وغرورا، فتؤدي إلى حوادث جسام، وشجار وخصام، ولم تكن حياتهم تخلو من الفرح والسرور فقد كانوا يستغلون لحظات الفرح على قلتها ليسروا عن أنفسهم، فإذا جاء الربيع خرجوا للاستمتاع به، وإذا جن عليهم الليل كانت الربابة سميرتهم ص183 وإذا جاء الغيث غنى له الأطفال. أما في رمضان، فيسعدهم المسحراتي بصوته الرخيم. ??البنية السردية: اعتمد الأستاذ القوابعة على تقنية روائية لا تقوم على تنامي الحدث وصولا للحبكة أو العقدة، ولا على شخصية واحدة، ولكن على رسم لوحات عدة منفصلة تتضام مع بعضها لتشكل البناء الروائي، وكذلك على شخوص عدة رئيسية وثانوية، ولذلك جاءت هذه اللوحات في كثير من الأحيان متشابهة، مما أضعف الرواية، وأوقع القارئ في بؤرة الملل لاسيما في منتصف الرواية، مما أوحى لي أن الأستاذ القوابعة كتب لوحاته تلك في فترات متباعدة، أو أنه تعمد الإطالة قصدا، دون الحاجة الفنية لذلك. وقد اعتمد في سرده على ضمير الغائب، المطلع على كل شيء، المحيط بكل الأسرار، العالم ببواطن الأمور. وأحيانا يعرج على استخدام ضمير المتكلم (الأنا) المشارك في صياغة الأحداث، أو (الأنا) الراوي غير المشارك. ونلاحظ أن الروائي كان في كثير من الأحيان يتنازل عن حقه في السرد لشخصية من شخوص الرواية، فتتولى ذلك، وكأنها تخرج الأحداث من جب التاريخ، وهذا التداخل الفريد في البنية السردية أعطى الرواية سمة الحركة والتفاعل. وقد اعتمد في رسم شخوصه، أو إبراز الأحداث على الحوار بين الشخوص، فنرى الجيل الأوسط يستدرج الجيل السابق ليستخرج منه المعلومات، ويستحلب الذكريات ص51، وربما كان الحوار وعاء لنقل الأفكار وتقييم الأحداث والأوضاع، كما حدث بين المعلمين في المدرسة ص89ـ90 والناس والشيخ موسى بعد خطبته الجمعة ص199ـ200 وغيرها، إلا أن الكاتب أورد الحوار بلغة عامية مغرقة في المحلية، وهي بدوية صرفة، أكاد أجزم أن الكثرة لا تفهمها، وربما غابت مدلولات بعض الكلمات حتما عن الجيل الحاضر (انظر ص32 على سبيل المثال).

وإذا قبلنا من المؤلف أن ينطق شخوصه بلغة تناسبهم ـ مع التحفظ على هذا ـ فكيف نقبل أن تكون لغة المؤلف نفسه فيما تولى من زمام السرد ـ قائمة في كثير من المواضع على العامية؟ إلا أن من الإنصاف أن نسجل له توظيفه لكثير من المداخلات الثقافية، مما يدل على سعة إطلاعه وطول باعه، فقد وظف حكايات من التراث، واتكأ عليها في الإسقاط على شخوصه، كما حدث عند نزول الضيف ودفع الأولاد للنوم، وإطفاء السراج، وإيهامه بالمشاركة معه في الطعام ص135. ووظف شخوصا تاريخية كالصحابة وأبنائهم. كما وظف الحوادث التاريخية ولو بالإيماءة إليها من بعيد، كتغريبة بني جبال ص161 يشاكل بها تغريبة بني هلال إلى شمال إفريقية ص164. ووظف الأمثال الشعبية والأدب الشعبي وبعض مصطلحات العلم، كعلم الحديث والرموز الجهادية المعاصرة من أمثال الشهيدين عبدالقادر الحسيني، وعز الدين القسام، لإبراز إسلامية القضية الفلسطينية وعروبتها، فالأول فلسطيني، والثاني سوري، جمع بينهما الإسلام. ??لغة الرواية: بالنظر في لغة هذه الرواية وجدناها ترتكز على عناصر أساسية منها: المفردة القرآنية في نسق يتساوق مع الأسلوب القرآني، فنجد ـ على سبيل المثال ـ (انظر الحوض القاتم نظر المغشي عليه من الموت ص8 (ويأتي على قدر ص14 وفي ص25 وحدها نجد (ثلاثة أيام حسوما.. الخيل تضبح ضبحا.. بحر لجي.. طلع الشياطين.. أعجاز نخل خاوية). واعتمد أيضا على لغة تراثية (في ليل داج.. وسماء ذات أبراج.. وغياب النجم الوهاج ص28)، كما اعتمد لغة شاعرية فيها الكثير من التأمل، كما في بداية بعض فصول الرواية، وفي ثناياها. ونلاحظ أن تشبيهاته مستقاة من البيئة نفسها (تألمت وصار حزنها مثل حزن ناقة على فصيلها ص111). ومن الأمور التي تسجل للقوابعة أنه حرص على إحياء بعض الكلمات التي ماتت لقلة الاستعمال، فنحن نقول: سرق اللص. لكن الفعل سرق الدارج المعروف له مرادف من الجذر ذاته لكلمة اللص وهو لص، فاستخدمه القوابعة في أكثر من موضع (فلص ثلاث نعجات ص61) وغيرها من الصفحات. وما دمنا في سياق الحديث عن لغة الرواية ضمن بنيتها السردية، فلا بد لنا من وقفات محاسبة أو معاتبة مع الروائي نفسه، فكما قلت منذ قليل، إن اعتماده على اللغة العامية جعلها ـ أي الرواية ـ محدودة الانتشار، وليس هذا العيب الوحيد، بل سنجد كلمات يحتار فيها القارئ، أهي فصيحة، أم عامية، أم وقع فيها خطأ مطبعي، أم إملائي، أم لغوي من المؤلف نفسه؟ انظر إلى كلمة (اغتاظ من الغيض) فقد وردت كثيرا بالضاد لا بالظاء (اغتاض، يغتاضون، مغتاضين). فهل هي لغة في (الغيظ) لإحدى القبائل لا نعرفها؟ أم عامية؟ أم فيها خطأ مطبعي، أم.. أم.. أم..!!؟ هذه الحيرة كلها بسبب اعتماد العامية في نظري، وهناك كلمات أخرى أدعى للحيرة من هذه الكلمة لا يتسع المقال للوقوف عندها. وفي أحيان كثيرة أجد اضطرابا في تعامل الروائي مع العامية بغير مبرر، فمرة يذكر عبارة فصيحة، ويحشر فيها كلمة عامية، فتأتي نشازا، ومرة يحدث العكس: عبارة عامية ألصق بها كلمة فصيحة، وهذا اضطراب (عدم استقرار على نمط واحد) لا مبرر له. وهناك أخطاء من نوع آخر، يقول ص36: (علي بن القف كان يتوضأ، ويغزو الكلام أسماعه، وضع عباءته عند المنبر، وشغل نفسه بدلاء فارغ، أخذ يملؤه ماء دافئا) كلمة دلاء جمع، والسياق يفهم منه الإفراد، وصحتها دلو. وقال ص185: (وقد خف وقع السعال بينهم، فلم يعد الصف الذي يتبع الإمام يحتكره الطاعنون في الزمن) فكلمة يتبع غير موفقة، والصواب يلي لأنه يقصد الصف الأقرب للإمام، وإلا فكل الصفوف تتبع الإمام، حتى لو كان عددها بالمئات، وقد قال رسول ا> ومن المآخذ على المؤلف أنه أورد مفردات لم تكن متداولة في ذلك الزمن الذي تسجله أحداث الرواية، وهذا يعيب البعد الزمني أيضا ولا يخدمه، مثل كلمة المناضلون وقد تكررت كثيرا. والمعروف أن الكلمة المتداولة آنذاك كانت المجاهدون. والمناضلون كلمة لم تنتشر إلا بعد المد اليساري في المنطقة واستعلنت واستعلت بعد حرب 1967م عند تعاظم العمل الفدائي، فملأت بياناتهم ونشراتهم فضلا عن الصحف والمجلات والإذاعات المسموعة والمرئية. ومثلها كلمة فوضوية ص90 فهي من مفردات المعجم اليساري أيضا، صحيح أنها معروفة قبل ذلك، ويعود تاريخها إلى أواسط القرن التاسع عشر كنظرية سياسية، لكنها على مستوى أهل الطفيلة آنذاك، ومستوى الأحداث نفسها لا مبرر لها، بل إن اللفظة ذاتها لم تظهر بشكل واضح في العالم العربي إلا أوائل الخمسينات، أي بعد مضي زمن الرواية، ولم تطرق آذان الناس وتجري على ألسنتهم دون وعي إلا بعد المد اليساري وسيطرة اليساريين على الإعلام في أكثر من قطر عربي، فتداولوها بكثرة. وهذا لا ينقص من قدر الرواية والروائي، فإن له لفتات لغوية جميلة، وصورا رائعة تستحق التنويه، نذكر منها:

(هل كان الإنسان هنا يسابق أشعة الحرمان.. إذ طاردته الظروف فيستتر بالصمت) ص14 (فرأى جسدا عربيا مشتعلا لامرأة في مقتبل زواج العمر يبحث عن صون) ص22 (ومن تسترده البلدة بعد الغروب من الفلاحين يصل ومعه سكة محراثه، يغطي لسانها صلصال أحمر) ص77 (وجوههم قد شربت ألسنة الهجيرة) ص147 (لا أدري لماذا خاطبني الشوق بنهم ص)170. وهذا غيض من فيض. ??الأفكار: رواية حوض الموت مليئة بالأفكار الخاصة التي طرحها كاتبها، وأراد توظيفها لتحقيق أهداف معينة، وقد استخلصت أهم ما طرح فيها من أفكار، فبلغت أكثر من عشرين فكرة، لكنها تندرج تحت سبعة عناوين بارزة هي: أولا: الإنصاف التاريخي للعثمانيين: الدولة العثمانية عملت على خدمة الإسلام، فقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم بالقائد والجيش الذين سيفتحون القسطنطينية لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش فكان محمد الفاتح، وكان ذلك في أواخر مايو (أيار) سنة 1453م بعد حصار دام واحدا وخمسين يوما، وبعد أن ظل هذا الحلم يراود المسلمين ثمانية قرون. وعمل الأتراك بعد ذلك على مد رقعة الدولة الإسلامية حتى طرقوا أبواب روما، وعملوا على نشر الإسلام في هذه الأصقاع، واستتباب الأمن في ربوع الدولة كلها. إلا أنه في أواخر عهد الدولة العثمانية تسلط يهود الدونمة على مقدرات الدولة باسم جمعية الاتحاد والترقي (الماسونية الهوى والأهداف) وأخذوا يسيرون دفة الحكم نحو الهاوية، فانتشر الفساد والظلم والبغي، حتى آل الأمر إلى عزل السلطان عبدالحميد، ومن ثم التدهور السريع المريع الذي أدى إلى إلغاء الخلافة. من الظلم أن نحكم على دولة هذا فضلها بالاستعمار كما روج الماسونيون من دعاة القومية، ومن الظلم أن ينكر سابق فضلها للاحق عجزها، والإنصاف يقتضي تقدير كل شيء بقدره، فإذا كان الغشم والظلم في آخر سنوات عمر الدولة، فلا يعني ذلك سحب هذا على تاريخها كله، وإنكار فضلها قرونا طويلة قبل ذلك. لخص القوابعة هذا الموقف الفكري المنصف في جملة بسيطة لا تتعدى بضع كلمات: الله يكسر دولة شباب العصملي.. بعد السلطان عبد الحميد صارت دولة العصملي ولدنة ص55. ثانيا ـ التسلط الحكومي على الناس، وأثره فيهم وعلى الدولة: صلاح الوطن ونجاح الحكومات يقاسان بعدد الموظفين الصالحين في النظام، لأنهم يعملون برفق وفهم لتعديل المائل والمعوج، فينعكس ذلك رضا من الناس على الحكومة، وسعادة تشيع في المجتمع، أما كثرة اعتماد النظام على نماذج مستغلة متسلطة غشومة ظلومة جهولة، فإنه يؤدي إلى تأفف الناس وضجرهم، وعدم رضاهم، وسخطهم على النظام ص148. فتسلط مندوب الضرائب، وسوء معاملته للناس ص107، 108، 142، يعتمد فيه على هيبة وظيفته، ويخيف الناس بالحكومة ص143. وكذلك المعلمون في المدارس ص144، والموظف الإداري الفاسد الذي يهدد بسيف السلطان ص163. ومن الخطأ معاملة الناس كأنهم عبيد، لا يصلح لهم إلا السوط والأحكام العرفية، وسياستهم بالتسلط والقهر، فالحكم الذي يعتمد على موظفين تتحكم فيهم هذه العقلية حكم ضعيف مهزوز، لا يثق ببقائه، ولا يخدم مستقبله ص70، ص71، ص143. وليس معارضة بعض الناس لموقف ما من الحكومة، أو لأحد مسؤوليها، أو موظفيها، أو انتقاد خطأ ما، أن الناس ضد الحكومة بأشخاصها.

فالكره ينصب على الفعل لا على الأشخاص، والرفض للسلوك والعمل، لا لأصحابه، فإنهم لو استقاموا، لعادت المحبة لأشخاصهم ص143، ومن يصنف الناس وطنيين وغير وطنيين حسب موافقتهم لهواه ص144 أو بناء على موافقتهم للحكومة وقراراتها وموظفيها ص163 فهو غبي متعنت. والموظف الذي يلوح بسيف هذا التصنيف في وجه الناس يضر الحكومة ولا ينفعها ص143. كما أن الضغط على الناس بالضرب أو السجن أو النفي لمجرد المعارضة أو اختلاف وجهات النظر، لا يغير من الحقيقة شيئا، ولا يبدل مواقف الناس، وكما قيل: من وافقك على رأيك تحت التهديد، ما زال على رأيه الأول، وكل ما يفعله القهر ـ بأي شكل من الأشكال ـ أن يؤدي إلى الإحباط، وتكوين نماذج من الناس شائهة، أقل ما توصف به، أنها تنعزل، وتصبح سلبية لا مبالية، فإذا كثر القهر، وطال غالبية الناس، شاعت السلبية واللامبالاة في أوصال الشعب كله، فالجو العام له حكمه على الناس ص149، ولا بد أن تتنبه الحكومة لمثل هذا الوضع النفسي، حتى في معاقبتها للمذنب، فلا يتجاوز العقاب حجم الذنب، فيتعدى إلى كرامته، وقتل المروءة والشهامة عنده ص106. ثالثا ـ تهافت بعض الثوريين واليساريين، وكشف شعاراتهم، وفضح سلوكهم: فاختفاء الثوريين واليساريين تحت شعارات براقة مثل خدمة الجماهير، وتبني قضاياهم، والثورة على الرجعية، والعمل ضد الاستعمار، مع قضاء جل أوقاتهم في لوك هذه العبارات الفارغة، وقراءة منشورات أحزابهم السرية، أو تجارب أحزاب مماثلة في دول أخرى للاقتداء بها ص114 وترسيخ مفاهيم ضالة تؤدي إلى الصراع الطبقي والعنف ص115، بينما سلوكهم ينضح بالازدواجية وسوء السلوك، واستغلال الناس باسم تطويرهم، فيشربون الخمر ص127 ويعتدون على الأعراض، وينتهكون المحرمات والمقدسات ص92. وليت الأمر اقتصر على مجرد شعارات، أو سلوك معوج يرتكبه أي فاسق، لكنه يتعدى إلى منهج يحاول الاستقرار والرسوخ بالتركيز عليه، بقتل إنسانية الناس، وتربيتهم على قبول الذل والخنوع، وتبرير العنف والقسوة، وتقديس التصنيف الطبقي، والرضا بهذا المسخ في إلغاء شخصيات الناس تحت شعار تثويرهم، والتفاعل الجماهيري مع الحزب، وتبني (أيديولوجيته) بالإرهاب الفكري أو الجسدي ص94 سيدفع الناس لتفضيل الجهل والرضا بالواقع الممض، على طريق يؤدي بهم إلى مزيد من المعاناة ص124. وهم يتوسلون لإقرار منهجهم ورؤاهم بكل وسيلة ممكنة، حتى لو كانت غير أخلاقية أو إنسانية أو عقلانية، لذا فهم يرمون كل مخالف لهم بأوصاف يصوغونها لتنفير الناس من المخالفين، ابتداء من الرجعية، ومرورا بالانبطاحية، والزئبقية، والتخلف، والطابور الخامس، و.. و..

حتى الهلوسة التي يعتبرونها نتيجة الاطلاع على فكر يناقض فكرهم، وكتب لا ترضى عنها منشوراتهم، أو تدعو لترك منهجهم وتبني منهج أقوم ص146. وهذه شعارات فارغة، وسطحية، ولا تخيف إلا الجبناء، ولا تؤثر إلا في الضعفاء، وهم يدركون ذلك بأنفسهم، بل إن من سطحية هذه الأفكار أنها لا تتجاوز ألسنتهم، وتكشفها الفطرة السوية المستقرة في أعماق كل واحد منهم، أن له إلها يعبد، وربا يقدر ويقدر، لكنه لا وعي منه ـ إلى الله، فيهتف باسمه (ظمآن يا ناس ورب الكعبة) ص127. وليس هذا وحسب، بل إن الواقع والتاريخ وما آلت إليه الأمور، كشفت زيف هذا المنهج، فليس بالخبز وحده يعيش الإنسان ص132، وهذه أحوال من تبنوا هذا المنهج دولا وأفرادا سنين طويلة، كيف آلت بهم؟! رابعا: الإصلاح الإداري والاجتماعي والسبل التي تحقق ذلك: حياة الشعوب مليئة بالأخطاء، وهذه الأخطاء لا تترك للظروف لمعالجتها، بل لا بد من اتخاذ خطوات إيجابية في هذا الطريق، فازدواجية السلوك في التربية والتعليم، من ضرب التلاميذ وإهانتهم بصور لا إنسانية، مع تقصير في العمل، ثم التظاهر بالمثالية أمام المفتش (الموجه) ص83، 146 لا يخدم الأمة في شيء، بل يضرها ضررا كبيرا، ولا يصلح هذا الوضع ترك الأمر للظروف، حتى يأتي مجرد موظف واحد مستقيم يفاجئ المعلمين دون سابق إنذار ص148 فيطلع على السلبيات، بل لا بد من تأسيس نظام تعليمي وتربوي لا يسمح بهذه الازدواجية. وسلوكيات المعلمين والموظفين غير المنضبطة ولا المسؤولة لاتعني دائما رضا الدولة أو النظام عنها، بل نجد ـ أحيانا ـ أن الحكام والمسؤولين الكبار أرحم وأكثر تفهما لأوضاع الناس من الموظف الصغير الملاصق للناس والملازم لهم، لكن ـ بالمقابل ـ لا يكفي أن يزور مسؤول كبير منطقة ما، على تباعد في الزمن بين الزيارات، ويوصي بالرحمة أو الاهتمام بمصالح الناس ص156ـ157، بل لا بد من سن قوانين وتشريعات تكفل هذا، مع تفصيلها والرقابة عليها وعلى أداء الموظفين، ولا تترك لضمير الموظف، أو حسن تشابه، أو عراقة أصله ومنبته.

كما أن السلوكيات الاجتماعية الخاطئة لا بد لها من قوانين تعمل على تغييرها بقوة التشريع، مع مداومة المحافظة عليها وتفعيلها، وعدم المحاباة فيها، حتى تصبح سلوكا اجتماعيا ناضجا، فلا يعقل أن تترك مسألة إطلاق الأعيرة النارية في الأفراح تفتك بالأجساد، وتحصد الأرواح، انتظارا لبلوغ الناس سن الرشد الحضاري وحدهم، دون تدخل القوانين ص177. خامسا: إنصاف مدينة الطفيلة: والرواية ركزت على الطفيلة تركيزا جلى كل المعاناة التي تعانيها، من قبل انتهاء الدولة العثمانية، ورغم أنها كانت وعمان صنوين، إلا أن عمان تقدمت عليها كثيرا، رغم أن المسافة بينهما لاتزيد على 180كم. ويوحي لنا القوابعة بأن هذه المعاناة مستمرة حتى الآن، فالحكومة تنظر للطفيلة على أنها منفى كل مغضوب عليه، وأن حظ الطفيلة من العناية والرعاية أقل من سائر مدن المملكة رغم أنها ما قصرت في ماضيها ولا في حاضرها في خدمة الوطن والدولة، منذ مشاركة أهلها في ثورة الشريف حسين، إلى الجهاد في فلسطين، إلى أيامنا هذه.. كل هذا بالإيحاء الصامت، أما آن لها أن تنال شيئا من اهتمام المسؤولين بها؟! ولعل هذا هو الهدف الأسمى للرواية. سادسا: تصحيح بعض المفاهيم الاجتماعية: الحب بين الرجل والمرأة هو ما كان بعد الزواج ، ونشأ وترعرع في ظل حسن العشرة ص123 وهو الأبقى والأدوم والأرسخ، أما أماني الصبا، وخيالات المراهقة فهي لاتصمد أمام مرارة الحياة وقسوة العيش، وإن كانت تظل ذكرى عزيزة، ترطب جفاف القلب، لكنها لا تخرج عن الذكرى ولا تتجاوزها إلى الفعل الذي يحرم، أو السلوك الذي يخرم المروءة ويخدش العفة ص119ـ120. والتحول الحضاري أودى ببعض العادات الحسنة والقيم النبيلة، فقد كان لكل قبيلة مضافة عامة، لاستقبال الضيوف، ومواساة الجوعى، وهي بذلك تعمل على ترابط الناس. وهذه وغيرها قيم نبيلة، فنعمت الحضارة التي ترسخها، أما أن تهب رياح التطور نحو التحضر، فتلغي هذه القيم، فتحل الفردية محل الجماعية، والأنانية محل التراحم، واللامبالاة محل الاهتمام بالآخرين، فلا، وألف لا، ولذا لا بد من الحفاظ على قيمنا الأصيلة، فلا نعتبرها قرينة الماضي، بل لا بد من التمسك بها، لتظل قرينة العصر كلها، والأجيال جميعهم ص184. سابعا: اليقظة والحذر من الأعداء أيا كانوا: فلا يعني ذهاب حثالة عسكر الترك المتغطرسين، ولا تراجع عدد الوحوش الضارية في شوارع الطفيلة، بعد اتساع رقعة المصابيح في البلدة، ولا القدرة على مقاومة الجراد، والتحصن ضد البرد والثلج، ولا غزو القبائل، ولا معاهدات كف الاعتداء من أي جانب، أن تركن للراحة، فهناك أعداء كثر، وبجوارنا عدو تاريخي، يستعد ويخطط بألف وسيلة للسيطرة علينا، إن بالحرب وإن بالسلم، فالحذر الحذر، فإنه إن عجز عن تحقيق أمانيه،

فهناك مفاعله الذري يجاورنا ويذكرنا بما يضمره لنا، وهذا المفاعل الذي يستترون عليه في (ديمونة) سيحدث أثرا ـ لا يعلم إلا الله مداه ـ في السنوات القادمة، وما لم نحتط للأمر، فسيكون تقصيرنا وركوننا للدعة، وأحلام العيش الرغيد، أسافين في نعش هذه المنطقة بأسرها، والميت المقصود لذاته هو العربي المسلم، فهل ننتبه ص207ـ209. ??التصور الإسلامي: الخلفية الفكرية للكاتب، أو الخط العام للعمل المبدع (بفتح الدال) يتحدد من مسارات عدة، ابتداء من النسيج اللغوي، إلى بناء الشخوص، حتى الحوار والأفكار. ورواية حوض الموت يبرز فيها الخط الإسلامي ـ وإن اعتراه غبش في بعض الأمور ـ ففضلا عن استعمال الكاتب للغة القرآنية، أو التراثية المستمدة من الأحاديث النبوية، أو السيرة، أو قصص الصحابة، نجد الأمور التالية: 1 ـ الصلاة على الميت ودفنه، كائنا من كان ص37، ومنها الصلاة على الغائب، لا سيما الشهداء في معارك فلسطين ص170ـ171، 182، 203ـ204. 2 ـ نظرة الناس لعلماء الدين، وأنه معتوب عليهم إذا تغافلوا عن مقاومة المنكر ص93، ولقد قام بذلك خطباء الجمعة ص93 لا سيما موسى بن إبراهيم التنوخي، لكن يتجلى هذا الدور في حياة وسلوك ابن مسعود، فهو مصلح اجتماعي ص76، 70 يعالج أخطاء الناس برفق ولين، مع بيان الحكم الشرعي في كل ما يأتون به من أعمال تعتبر عندهم من المسلمات، فيرفض النواح على الميت، وجز الشعور، ولطم الخدود ص63، ويبين حكم أكل الصنج، وما لابس ذلك من خرافات ص68، ويعمل على تغيير الأسماء التي لا تليق، بأسماء جميلة، كما هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلمص122ـ123، مع بيان حرمة أكل حقوق المرأة وميراثها باسم العادات والأعراف ص138. 3 ـ الأثر الطيب للقرآن في الناس، وحرصهم وحبهم لسماع الصوت الندي يتهجد به من هنا أو هناك ص62. 4 ـ وبدا التأثر بالسنة عندما أوحى لنا الكاتب أن عطاش (المعلم اليساري سابقا) تغير طبعه في الطعام، فبعد أن بدأ يعود إلى صوابه، قل زاده، وهذا له مرجع في السيرة، وفي حديث النبي 5 ـ استخدام حكايات من التراث الإسلامي، وإسقاط كرم أهل الطفيلة عليها ص135. 6 ـ استخدام الدعاء في كثير من المواضع، لكن بروز دعاء قرآني يوحي بالعمق الإسلامي في النص، مثل فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك ص172 وهو دعاء الكرب الذي دعا به يونس ـ عليه السلام ـ وهو في بطن الحوت، ومثله دعاء السنة سبوح قدوس.. رب الملائكة والروح ص172. 7 ـ تأصيل الجانب الإنساني بعدم مجاوزة الحد في العقوبة، إلى التسفيه والإهانة والسب والشتم (مثل ما يقول ابن مسعود: إذا أذنب بشر فلا تجرحوا بقية من كرامة الإنسان عنده) ص106. وهذا التصور مستمد من واقعة إقامة الحد في حياة النبي 8 ـ رفض المجتمع الإسلامي للملحد الفاسق ـ لإلحاده وفسقه ـ لا لشخصه، لأنه نشاز في جسم صحيح، وهذا معروف ح


المراجع

bab.com

التصانيف

أدب  مجتمع