نماذج من عبدالله إبراهيم وإدوارد سعيد و ك. ك. رثفنعلى الناقد أن يمشي على أطراف أصابعهلئلا يتعثر في سرد النساء الشائكسوسن عصفوريناقش ك. ك. رَثفن الأسترالي الأصل في أول فصل من كتابه Feminist Literary Studies الصادر عام 1984 عن منشورات جامعة كيمبرج، والذي أعيد طبعه عدة مرات، محاذير أن ينبري رجل لنقد الفكر أو الأدب النسويين، لذا فقد كتب كتابه وهو يمشي على أطراف أصابعه لئلا يتعثر في أرض النساء الوعرة بكلمة أو عبارة قابلة لأن تأولها سلباً القارئات النسويات اللواتي تعلمن جيداً قراءة النصوص «قراءة نسوية مقاومة (بكسر الواو)» تيمناً بالقراءة الماركسية المقاومة التي تحلل الافتراضات الدفينة حول علاقات القوى والملكية في النصوص، أو القراءة التحليلية النفسية التي تنبش المعاني المكبوتة خلف البراءة الظاهرية للنصوص أو عنفها المبالغ فيه، أو القراءة «الإدوارد سعيدية» التي تتصدى لإمبريالية النصوص المشبعة بأيديولوجيات فوقية خفية تمرر دونية الشرق وشبقية نسائه بصفتها مسلّمات تاريخية، أو القراءة الصهيونية للنصوص التاريخية التي تتعمد إسقاط ما دأب اليهود على تسميته بمعاداة السامية عليها لتبرير إنشاء وطن قومي لهم. ولا تقل القراءة النسوية المقاومة للنصوص راديكاليةً وأهميةً، وربما ترويعاً أحياناً، عن تلك القراءات، فهي تتربص للكتّاب أيضاً وقد ترهبهم. وإذ مهد علم السيميولوجيا الذي أرسى قواعده دي سوسير لفتوح معرفية في التحليل النفسي على يد جاك لاكان الذي بحث في العلاقة بين الإشارات اللغوية واللاوعي، وفي التحليل الأنثروبولوجي على يد ليفي شتراوس الذي أفاد من البنيوية من حيث هي بحث في أنماط التفكير الكامنة في كافة الأنشطة الإنسانية، وفي تحليل الإشارات الكامنة في الطقوس والأساطير الثقافية على يد رولان بارت الذي فضح الكيفية التي تعزز فيها تلك الإشارات قيم الثقافة البرجوازية وأفكارها، فقد أفاد الفكر النسوي من تلك الفتوح المعرفية، ولم يتوان عن توظيفها في سبر غور مفهوم الأنوثة بأبعاده النفسية والأنثروبولوجية والثقافية، كما استغل ذلك الفكر تفكيكية جاك دريدا أيضاً في دحض الثنائيات الفكرية المسلم بها. وبالتالي توافرت كتابات نسوية غير منقطعة عن سياقها التاريخي تمكن الباحثات من تفكيك النصوص والمواقف والمسلّمات ومن الحفر تحتها وتعرية براءتها باستخدام مفكات أساطين الفكر في القرن العشرين وجنونهم ومغامراتهم الفكرية نفسها. فلا تتسامح القراءة النسوية - وقد تسلحت بكل ذلك - مع ما قد يمرره الأدباء، أو النقاد، أو الفلاسفة، أو العلماء، أو أرباب السينما، أو صهاينة وسائل الإعلام، أو مدبجي القوانين الوضعية وغير الوضعية، من افتراضات أو مسلمات - واعية أو لا واعية - عن دور المرأة في المجتمع، أو دونيتها، أو تبعيتها، أو غبائها، أو ضعفها، أو مكرها، أو نجاستها، أو إباحة تسليعها، أو وجوب حبسها ومراقبتها، أو توجيهها نحو الانهماك الأبدي في تنعيم بشرتها وشدها ونفخها وتفتيحها لتستحق الحياة. وتتربص القراءة النسوية على الأخص لما يُظنّ أنه موقف تقدمي يدعم المرأة، لكنه في الواقع موقف قد يتهاوى أمام جحافل القراءات المقاومة التي تكتشف إنه يخفي تحت القناع الوردي الذي يدّعيه نفساً طبقياً أو إمبريالياً أو شوفينياً معادياً لـ«قوم» النساء ينطلق فيه من موقع «السيد الأدرى صاحب القول الفصل» الذي لا يريد لشهرزاد العصر الحديث أن تسكت عن السرد غير المباح حتى لو أدركها الصباح لإمتاع حضرته أكثر وأكثر بالتفرج على دخيلة نفسها لا جسدها فقط، ولا يريدها أن تسرد إلياذات وملاحم جديدة تنافسه بها، فلا بأس أن تسرد له سيرة جسدها الذاتية بالتفصيل مراراً وتكراراً.    نأى رَثفن بنفسه عن تناول نصوص أدبية نسوية معينة في كتابه، فكتابه معنيّ بالمنهج النسوي في دراسة الأدب. ويسهل احترام جدية ذلك المنهج لأنه يواكب كل تلك التطورات الفكرية الجادة في القرن العشرين ويغرف منها ببراعة لا بل وبخبث أحياناً، حتى لو اختلفنا مع الكثير مما أفضى إليه، لا سيما وأنه موجه للمرأة في الغرب، ولا يخلو من التطرف، ولا يأخذ في الحسبان «الثقافات الوطنية والقومية..والخلفيات الطبقية والدينية للنساء خارج المجال الغربي»(ص 45) على حدّ تعبير الناقد العراقي الدكتور عبدالله إبراهيم الذي كانت مهمته أصعب في كتابه «السرد النسوي: الثقافة الأبوية، الهوية الأنثوية، والجسد» الصادر عام 2011 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، فقد تناول نصوصاً نسوية بعينها. لكن يبدو لي أنه لم يكن أقلّ حرصاً من رَثفن على محاولة إخفاء موقفه المسبق غير المعجب بعد بالكثير مما تسطره أقلام النساء رغم ذلك الخيار الذي لا يحسد عليه، فابتكر الدكتور إبراهيم للأدب أو السرد النسوي تسمية مواربة جديدة ألا وهي «نصوص المتعة» الصادمة في بادئ الأمر، فهي لا تذكِّر سوى بزواج المتعة. وقد لا يُقبل أن تطلق تلك التسمية على الروايات النسوية الجادّة التي لا تبسِّط الموقف النسوي (ويحق للقارئ مقاومة الجملة الأخيرة هذه، والتساؤل عن ماهية هذا الطرح الذي قد يتبين وحده مع نهاية هذه المقالة!). كما أنه يمكن تصنيف عدد من النصوص النسائية التي تناولها بالتحليل في كتابه ضمن «الأدب المكشوف» (إن كان لا بدّ من التصنيف)، ولكن بشرط أن يشمل العنوان بعض الأدباء الذكور المحدثين في عالمنا العربي، وليس الأديبات المحدثات فقط، فهم أيضا كثر. وموضوع الجسد بحرفيته، وليس بمدلولاته الثقافية والنفسية والإنسانية ولا برمزيته السياسية، يشغل بعضهم أكثر مما يشغل المرأة، فهم أيضا يريدون تحريره كيفما اتفق وفي أسرع وقت ليشبعوا حاجاتهم المكبوتة أولا، لا ليرتقوا بإنسانيتهم ويحرروا المرأة من سطوة الأنظمة الأبوية بمختلف تشكيلاتها. وقد سمعت مُنظراً شيوعياً سورياً يصف كل زميلاته في الحزب بأنهن «*****»! حقاً لا يصلح الفكر وحده ما أفسد الدهر. فلا بأس لديه أن تتحرر المرأة لكن بشرط ألا يطال التحرير زوجته وبناته وأخواته. يكفيه تحريرهن إلى درجة تسمح لهن بالاختلاط في مكان العمل لتحسين وضعه الاقتصادي علّه يصعد معهن يوماً إلى الطبقة البرجوازية. وأنا لا أرى أن هاجس الجسد (مذكراً ومؤنثاً) يقضّ مضجع أدب المرأة دون الرجال كما قد يوحي الكتاب.    وغنيٌ عن الذكر أن أياً من رَثفن أو الدكتور إبراهيم لم يكن أبوياً (أو بطركياً حسب المصطلح الذي أشاعه هشام شرابي من خلال ترجمة أدونيس لكتابه «البنية البطركية») في الطرح من حيث المبدأ، فقد تجاوزا تلك المرحلة الفكرية البدائية، وكانا حريصين على عدم التكلم من منبر الذكورة نيابة عن المرأة أو محاولة هدايتها إلى الصراط المستقيم، ولديهما حساسية شديدة نحو كون اللغة أداة سياسية حادة فـ «كل ما هو شخصي سياسي أيضاً» على حدّ تعبير الشعار النسوي الذي راج في الستينات تأثراً بأفكار المحلل النفساني النمساوي فلهلم رايخ الذي اقتبسه كل من رَثفن (ص 31) والدكتور إبراهيم (ص 39) في كتابيهما. ولكن بدر منهما ما يشير إلى إيمانهما الدفين بأن المرأة لم تكتب أدباً عظيماً بعد. وأترجم فيما يلي بعض ما قاله رَثفن بهذا الصدد: «إن الحديث عن ’الكتابات النسوية‘ (women’s writings) يمكّن النسويات من تجاوز مشاكل القيمة التي تثار في النقد الذكوري عند استخدام مصطلح ’الأدب النسوي‘ (women’s literature)» (ص 40)، ويشير رَثفن بذلك إلى قبول النسويات لمصطلح الكتابات النسوية لتسليط الضوء على كل ما كتبته المرأة عبر التاريخ بما في ذلك الرسائل والمذكرات وقصص الأطفال، الخ.. بصفته جزءاً من الإرث النسوي بغض النظر عن قيمته، بينما يعدّ الحديث عن الأدب النسوي من ابتكارات النقد الذكوري الذي يفترض دونية أدب المرأة. أما اختيار الدكتور إبراهيم لمصطلح «السرد النسوي» عنواناً لكتابه بدلاً من «الأدب النسوي» في ضوء ما أضاءه رَثفن فقد يعني أنه لم يشأ أن يستخدم مصطلح «الأدب النسوي» الذي ترفضه الكثير من النسويات. ولكنه أشار في كتابه إلى «التحقيب التاريخي» للأدب النسوي الذي اقترحته إيلين شوولتر، ويدعو الطور الأنثوي الأخير من ذلك التحقيب «إلى تفرد التجربة الأدبية الأنثوية القائمة على الخصوصية الجسدية والفكرية للمرأة»(ص 217)، وهي دعوة لقيت هجوماً مضاداً من الكاتبة توريل موي لأنها «لا تنسجم مع الحقبة التي أعقبت البنيوية التي تقترح أن يكون المعنى منبثقاً من سياق النص والسياق التاريخي، وأن تكون الهوية ذات بنية اجتماعية ولغوية... كما أن أي موروث أدبي أنثوي لن يكون أقل تعسفاً نحو المرأة من الموروث الذكوري لأنه سيمثل طبقة اجتماعية ديموغرافية معينة من النسـاء فقط.»(1) وأنا أقرّ أنه قد ظهر أدب محوره جسد المرأة، لكن لا ينبغي أن ينظر إليه بصفته إنجازاً للنسوية لأن «الاحتفاء المبالغ فيه بالجسد والأنوثة..هو محاكاة ضدية لمركزية الذكورة نفسها .. وذلك استجابة مستترة غير واعية لما تريده الذكورية نفسها» (الدكتور إبراهيم ص 219).يبدو أن من جملة ما توصل إليه الدكتور إبراهيم في كتابه هو أن المرأة العربية لم تبتعد بأدبها كثيراً عن جلدها بعد، ولا ألومه في ذلك، فقد تشوّه الفكر النسوي الذي انطلق للارتقاء بالمرأة إنسانياً ولإعطائها فرصاً عادلة في الحياة بالتطبيق العملي على يد النساء أنفسهن، سواء في عالم الواقع أو في مساحة السرد الأدبي المتاحة لبعضهن. ولا ألوم رائدات الفكر النسوي على فشل التطبيق، فالأيديولوجيات جميعاً، سواء الوضعية منها أو السماوية تفشل على الأرض لا على غيوم النوايا، فمن الغباء مثلاً أن تتوقع النسويات من المراهقات الصغيرات الجاهلات اللواتي غادرن الطفولة للتوّ أن يستعملن الحرية التي تقدم لهن بسهولة في غير ما قد يقودهن إلى براثن التحلّل أو التحرّر غير المسؤول، لأن ثمة ضغطاً بذلك الاتجاه باسم الحب يأتي من هرمونات نصف المجتمع المذكر المسؤولة عن نوازع العنف والقتل والاغتصاب في هذا العالم يتضافر مع ضغط الهرمونات المؤنثة التي تكمن فيها نوازع التحرر أو التحلل، وضغط اعتياد تجرّع الابتذال وثقافة العنف ليل نهار عبر وسائل الإعلام المعنية بتلويث مخيّلة الناس وتخدير حساسيتهم الأخلاقية تخديراً مبرمجاً، فيتحولن إلى أدوات للمتعة المجانية أو «نصّ متعة» لا يتوقع منه شئ بعد انفلاته من تلافيف المخ المريض سوى الاستطباب بالانتقام من المجتمع الظالم وصفعه مجدداً بجرعة أكثر تركيزاً مما سبّب المرض، أو الوقوع في ردّة مؤقتة إلى الملاذ الآمن للتزمت الديني وكأن الدين مجرد وسيلة في متناول الأيدي لمحو الآثام!    ما يميز كتاب الدكتور إبراهيم «السرد النسوي» هو أنه يقدم للقارئ نظرة تاريخية شاملة ودقيقة لوضع المرأة وتطور الكتابات النسوية، لكن توجس رَثفن من قارئاته المقاومات جعلني أقرأ كتاب الدكتور إبراهيم قراءة مقاومة تبحث عن صوته الحقيقي، فقد اختلط صوته في بعض الأحيان مع صوت الكاتبات والكتاب الذين كان يحيل القارئ إليهم. كان الأمر أسهل في كتاب رَثفن، فقد تعرض هو أيضاً إلى الكثير من القضايا الإشكالية لا بل والمتطرفة التي تطرق إليها الفكر النسوي، فحرص على تناولها بالملقط. وتساءلت أيضاً عن الأسباب التي دفعت الدكتور إبراهيم لتناول النصوص النسوية التي اختارها، بصفتها المادة الدالة على ما تسطره النساء من روايات، تناولاً سردياً مفصلاً أحياناً، وتناولاً نقدياً مفصلاً أو موجزاً أحياناً أخرى. وقد لاحظت أن أقصر تحليل أورده في كتابه كان لروايتي علوية صبح «دنيا» و«مريم الحكايا»، فإنه خصص لهما معاً صفحتين فقط من النقد المفتوح على التأويل (وهو نقد يستدعي قراءة مقاومة أخرى) دون تلخيص الخط السردي لأي منهما أسوة بما فعله بنصوص بقية الكاتبات اللواتي تناولهن في الكتاب، ومن أهم ما قاله عن روايتيها: «إن الرؤية السردية الأنثوية فضحت عالماً هشاً وممزقاً ومنهاراً، فلا يمكن تمثيله بسرد متماسك.. وظهرت الكتابة المتشظية في سياقات رافقت الأزمات الكبرى» (ص 122). ولكنه خصص صفحتين أخريين في مرحلة لاحقة من الكتاب لروايتها الثالثة «اسمه الغرام» وقد تناولها بالنقد الموارب أيضاً الناقد مفيد نجم، لكنه نوّه في مقدمة مقالته النقدية إلى أن: «انشغال الرواية النسوية المكثف والعميق بموضوع الجسد... قد اختزل المرأة في صورة أحادية هي صورة الجسد الأنثوي في مواجهة الجسد الذكوري، الأمر الذي يجعل هذا السرد النسوي يختزل وجود المرأة في جسدها.. ويعيدنا مرة أخرى إلى تلك الثنائية المتقابلة التي رسمتها الثقافة الذكورية للعلاقة بين الرجل والمرأة، ولذلك فإن الاستغراق في عالم الجسد بعيدا عن ارتباطه الوثيق والحي بقضايا المرأة والواقع على مختلف الصعد الاجتماعية والوجودية والثقافية، يجعل وعي المرأة بجسدها ناقصاً، ويختزلها فيما حاولت التحرر منه».(2) أما هيفاء بيطار فقد حصلت على أكثر من عشر صفحات من النقد في كتاب الدكتور إبراهيم لروايتها «امرأة من طابقين»، ومثلها تقريباً عفاف البطاينة لروايتها «خارج الجسد»، وإلهام منصور لروايتها «حين كنت رجلاً»، ومليكة مقدم لروايتها «المتمردة»، والسبب ليس غنى هذه النصوص على ما يبدو، بل على العكس، فثمة هبوط فني وأخلاقي في هذه الروايات الأربع لم يتساهل معه الدكتور إبراهيم. أما بقية الكاتبات العربيات المذكورات في الكتاب فقد تناول نصوصهن تناولا سردياً ممتزجاً بالتفسير وبعض النقد المفتوح على التأويل أحياناً. ولربما لخص لنا الخط السردي لبعض الروايات الإشكالية التي تناولها لنعرف يقيناً أنها تنويعات رتيبة على وتر واحد لا يمكن أن يطرب لها «السمّيعة»، وكأنه يقول: بعد تلكم المعرفة (التي ورّط بها القارئ)، أي مغفرة يمكن أن تُرتجى.   لقيت مليكة مقدم بشكل خاص نقداً قاسياً، إذ بدأ الدكتور إبراهيم حديثه عنها بتصنيف سردها بأنه يعرض «للأنوثة الخاوية المعتكفة على ذاتها في نوع من النرجسية» (ص 136) واختتمه بقوله: «شحبت الأهمية المنتظرة من كتابة اقتضى أمرها هجران بلد وحبيب» (ص 140). وأنا أجد نفسي أيضاً لا أتعاطف كثيراً مع لجوئها إلى الحاضنة الفرنسية لتنجو وتتحرر وتتفتق قريحتها، لا بل يجعلني عجزها عن الكتابة بالعربية أشك في انتماء رواياتها إلى الأدب العربي أساساً لأن اللغة مكون أساسي في هوية أي أدب، وقد لا تكون نصوصها جيدة كما يوحي الكاتب، لكن خيارها أن تستغني عن «الرجل» في حياتها من أجل الكتابة خيار قد يستحق انحناءةً طفيفةً مني حتى لو فشلت في الكتابة، لكن كان يجدر بها أن تقدمه بصفته خياراً أخلاقياً حقيقياً مقنعاً في سياق روايتها التي طرحت ذلك الخيار لا خياراً أنانياً في الواقع والخيال كما أوحى الدكتور إبراهيم، إذ قد يكون مجرد ذريعة للمضي قدماً (نحو رجل آخر يلوح ظله في نهاية النفق) من خلال إزاحة رفيق عمرها الحالي من الصورة التي لم تعد تتسع له، وهو ما قد يجعل عزوفها عن الحب من أجل الكتابة مجرد أكذوبة كبرى.. وإن كان تحرر المرأة – من وجهة نظري - لا يبدأ بالسقوط في حضن الرجل، فإنه قد يبدأ بالقدرة على الاستغناء عنه استغناءً حقيقياً لا تكتيكياً إلى أن يصبح لقاؤهما فعلاً حراً وأخلاقياً لا تنفيسياً قططياً (هذه الجملة أيضاً تستحق بعض المقاومة، لكنني لن أستطرد دفاعاً في هذا المقام). وكان الأدب الإنساني قد اقترح على النساء وسيلة فعالة للتحرر منذ عام 411 قبل الميلاد على يد أرسطوفانيس في مسرحيته الكوميدية «ليزيستراتا» تنظم فيها بطلتها ثورة نسائية لإجبار الرجال على التفاوض من أجل السلام وإيقاف الحرب، وكانت وسيلتهن في ذلك العزوف التام عنهم!    ولم يترك ليو تولستوي وغوستاف فلوبير لآنا كارنينا ومدام بوفاري من خيار أخلاقي سوى الانتحار في روايتين كتبتا بحسّ نسوي واقعي يتفهّم إشكالية الجسد لديهن وأحلامهن الرومانسية، لكنه يدرك في نهاية المطاف أن لهاث المرأة وراء الحب ليس إلا مراهقة فكرية لا تؤدي بها إلا إلى الدمار الشخصي، داحضاً بذلك ما تودّ النساء البرجوازيات الرومانسيات اللواتي يعشن ضمن أنظمة اجتماعية أبوية أن يؤمنّ به، أقصد حالة «الأنثى الأبدية» التي لا تشيخ ولا يملها أحد، وهو وهمٌ لم تستفق منه بعد الكثير من الروائيات والشاعرات العربيات رغم ثقافتهن. لكن تجدر الإشارة إلى أنني لا أحيل إلى ما أسمته سيمون دي بوفوار في كتابها «الجنس الآخر» بـ «الأنثوية الأبدية» التي هي من إنتاج الثقافة الأبوية، حيث تدور الأنوثة في متوالية التوالد الأبدي فقط (دورة الحياة والموت). وفي التحليل النهائي، لا يمكن وصم نصوص ليو تولستوي أو فلوبير بأنها نصوص متعة، بل لا يمكنني إلا أن أعدّ هاتين الروايتين، وروايات أخرى كثيرة من بينها روايات لكتاب عرب مثل رواية «الحي اللاتيني» لسهيل إدريس، وقصة نجيب محفوظ القصيرة «The Answer Is No» (التي قرأتها بترجمتها الإنكليزية) وغيرها كثير دليلاً دامغاً على أن كتابة أدب يلتفت إلى المرأة من منظور نسوي، ولو جزئياً، ليس حكراً على النساء. وقد دللّ الدكتور إبراهيم نفسه على ذلك من خلال استعراضه لكتاب «سيرة مدينة» لعبد الرحمن منيف (ص 87) ورواية «القرن الأول بعد بياتريس» لأمين معلوف (ص 92)، لذلك فإن محاولة عزل الأدب الذي تكتبه النساء عن الأدب عامة تحت يافطة «الأدب النسوي» أو حتى «السرد النسوي» عبارة عن فعل إقصائي بحدّ ذاته ضدّ النساء حتى لو قبل السود مثلاً في أمريكا إخراج أدبهم من دائرة الأدب العامة ووضعه في خانة جانبية. فأن يُعزل جانباً نتاج أدبي بناء على الخصائص البيولوجية لكاتبه، أمر يجب أن لا يقبل، لا سيما وأن تلك الممارسة لا بدّ ستخدم مصالح فئة أقوى لأنها قد تمكنها من ادعاء محدودية هموم السود أو المرأة، إذ يعبر أدبهما بشكل رئيس عن المعاناة التي يعانونها بصفتهم سوداً أو نساءً. يمكن ابتداع فئات جانبية كثيرة، لكن ما جدواها الفكرية؟ لا يجب افتراض أن صوت كاتبات نصوص المتعة صوت محايد يعبر عن نصف المجتمع، ولا سيما إن كنّ ينظرن إلى المرأة في مجتمعاتهن من أبراجهن العاجية في أعلى الهرم المجتمعي، أو حصلن على تراخيص معينة أو صكوك غفران من الذكور في حياتهن لأسباب لا يمكن تعميمها ما يجعل تحررهن هبة ذكورية، أو كن يكتبن من رحم أوروبا بلغات غير العربية عن تحررهن السهل في المهجر الغربي لا المحجر العربي.    أورد رَثفن في الجانب الآخر ما قد يوصف به الرجل الذي يقطع مسافات غير مألوفة في النسوية، ويكون نسوياً أكثر من النسويات، من مثل الرجل «المرتد» أو «النسوي الذكر» أو «النسوي الأليف» أو «الذكر المناصر للنسوية» (ص 9-10). لذا اختار أن يتفيأ تحت شجرة في برزخ النسوية حفاظاً على سمعته كذكر مذكر لا جدال في ذكورته. وإن كان التطرق إلى المواضيع النسوية لا يبعث على الراحة في نفوس النقاد في الغرب فما بالك بالشرق؟ لذلك فإن كتاب الدكتور إبراهيم يكتسب أهمية خاصة، فلا يمكن التعامل معه دون الأخذ بالاعتبار أن كاتبه رجل شرقي تحدّت بعض النصوص النسوية التي استعرضها حدود تقدميته الفكرية، وحسّه الأدبي، ومدى قدرته على مناصرة المرأة وتقبل كل ما يصدر عنها. فمن ذا الذي يمكنه أن يغفر لنصوص لا تقدم شيئاً ذا بال بقدر ما تقدم همّاً بهيمياً بحتاً يُفرض على النقاد الكبار من حيث لا يدرون تحليلها وتأليف كتب حولها لأنها باتت «ظاهرة يلزم كشف حاضنتها الثقافية» كما ذكر في أول سطر من كتابه. لكن يحق لي أن أسأل: هل هي فعلاً ظاهرة؟ إن النصوص النسوية العربية التي تشق طريقها إلى دور النشر وتصل إلى يدي القارئ ليست كل ما تسطره النساء، فربما لا تجد سوى كاتبات «نصوص المتعة» زبائن لكتبهن ابتداء بدور النشر العربية، ومروراً بمستهلكي الكتب، وانتهاءً بدور النشر الغربية التي قد تتلقط بشكل مُريب غسيلنا الفكري القذر لأغراض سياسية، وتترجمه للقارئ الغربي (إن لم نتبرع نحن بترجمته لهم) ليقتنع بوجوب استعمارنا مرة أخرى بدعوى تحرير المرأة العربية من طغيان أبيها وزوجها وأخيها وابنها الذين لا يستحقون الحياة! يقول الدكتور إبراهيم: «قام الرجال المستعمرون الذي كانوا أعداء النسوية في مجتمعاتهم، بتبني لغة النسوية خارج بلادهم، وبشنّ هجوم على ممارسات الرجل الآخر وإهانته للمرأة...لتبرير السياسات الاستعمارية التي تعمل بقوة على تغيير ثقافات الشعوب المستعمرة وأديانها.» (ص 22)   لا يمكن اعتبار العينة التي اختارها الدكتور إبراهيم كافية للتمثيل على الأدب النسوي العربي. إنها العينة التي وصلتنا عبر دور النشر ووسائل الإعلام، أما بقية العينة الدالة التي لم تجد ناشراً أو التي لم تتمكن كاتباتها من إخراج نصوصهن إلى العلن لأنها لا تتعلق بتربية الأطفال مثلاً، أو لا تناسب مزاج السلطة الأبوية التي لا تزال فاعلة في مجتمعاتنا، أو ربما لا يسهل تسويق جديتها على يد ناشرين يجدون فيما يسمى بنصوص المتعة المغلفة بقشرة رقيقة من شوكولا الفكر أو الوطنية ما يدرّ ربحاً سريعاً. رواج الأدب الرخيص والتافه ليس بالظاهرة الجديدة، ولا سيما لدى شعوبٍ تمرّ بمرحلة انحطاط حضاري وأخلاقي لا مخرج منها سوى الإبادة الذاتية، وهو ما يحصل الآن على ما يبدو!    ومن اللافت أن الدكتور إبراهيم لم يدرج الروائية المصرية المعروفة عالمياً أهداف سويف ضمن عينة الدراسة رغم أن سويف أيضاً تكتب «نصوص متعة». هل جعلها وصولها إلى القائمة القصيرة لجائزة المان بوكر البريطانية عام 1999 التي خسرتها أمام ج. م. كوتسي (الحائز على نوبل وجائزتي بوكر) في منأى عن النقد العربي، ولا سيما بعدما انتزعت مراجعة لروايتها الأولى «عائشة» أو «آيشا» من إدوارد سعيد الذي كانت تربطه بها علاقة صداقة على خلفية نضال سياسي مشترك طويل؟ قرأتُ مراجعته لروايتها عدة مرات قراءة مقاومة لاختراق قشرة المجاملة الصلبة. فإنْ بدت مراجعته لأول وهلة مادِحة لرواية سويف فإنّ ملاحظاته السلبية الهامة التي سرّبها هنا وهناك ذات أهمية أكبر، ولا سيما أنه خصص جزءاً لا بأس به من مراجعته للحديث حول كتّاب ما بعد الاستعمار الشرقيين الذين يكتبون في حاضنة الغرب وخصوصية أدبهم، وللتطرق إلى «عدم خضوع الرواية العربية للأشكال المألوفة» (formlessness) بشكل عام مستشهداً بآراء الناقد إلياس خوري ليقرّ بعدم خضوعها لتراث الفنّ الروائي العريق والصارم في الغرب، لكن سعيد تسامح مع تلك النقيصة بقوله: «مثل هذه الأعمال [التي لا تخضع للأشكال المألوفة] تعالج التجارب خارج القواعد الصارمة والفاعلة التي تلتزم بها الروايات العظيمة، وتقدم رؤية حميمية نادرة للحياة اليومية، إذ هي معفاة مؤقتاً من الأحكام الضابطة لها، والمرجعيات الأخلاقية التي لا يمكن الاستغناء عنها، والوعي الرسمي. وبالإضافة إلى ذلك، فهي في تعبيرها المتواضع عن الحياة الحقيقية، أعفت الروائي العربي من ضرورة الإذعان إلى فنّ الرواية من حيث هو مؤسسة أوروبية (بالنظر إلى عدم وجود تراث لفنّ الرواية في الأدب العربي). بمعنى آخر، بات من الممكن أن يتهرب الكاتب العربي أحياناً من تصوير أجواء الحياة اليومية الملحة والمريعة أسوة بما نجده في الرواية الرسمية. أي إن أحد أنواع التحرر من الحدود المرسومة للفن الروائي نجده في الأعمال السردية التي لا تخضع للأشكال المألوفة كما أشرت، وهذا لا يوفر إلا أرضا أرحب لسويف..»،(3) وكأن سعيد أراد بذلك أن يمنح سويف التي تكتب في الغرب الترخيص الذي منحه للكاتب العربي في الشرق ليبرر عدم حكمه على روايتها بالمقاييس الغربية الصارمة رغم أنها تحمل الجنسية الإنكليزية، ولا تكتب إلا بالإنكليزية، وعاشت معظم حياتها في أنكلترا، وتحسب على الأدب الإنكليزي هناك.    وقد مرّر سعيد ملاحظة أخرى هامة جداً حول رواية سويف مفادها أن «التجارب الجنسية، التي هدد تطرف معظمها الرواية نفسها، قد احتلت موقعا مركزيا فيها». وقال في موقع أخر: «لا تعدّ مادة سويف الروائية عادية على الإطلاق كما أن أمر الشكل عندها ليس هامشياً»، وهذه عبارة لا يمكن أن تقول سويف مثلها من باب المديح لسعيد، فهو ليس بحاجة إلى من ينبه القارئ نيابة عنه إلى جدية طرحه وإن ارتدى ثوباً عادياً! فلماذا نتوهم أن هذه العبارة مديح عندما توجه لروائية تمكنت من خلال توغلها في تلافيف المجتمع الإنجليزي الإمبريالي من إيهام العالم بوصولها إلى قائمة المان بوكر القصيرة أنها من قامة كوتسي فعلاً. لكن أكثر ما لفت نظري هو ما مارسه من إمبريالية ذكورية في مراجعته لروايتها من خلال محاكمته لها بمقاييس الأدب العربي الفضفاضة لا مقاييس الأدب الغربي الصارمة لأن سويف في نهاية المطاف امرأة من جذور شرقية لذا يجوز التساهل معها! كما ختم مراجعته بتوجيه نصيحة أبوية لها، وهي نصيحة تضعه في مرتبة فكرية ونفسية تحنو من علٍ عليها، وتنقذه بعض الشيء من النقد الموارب الذي استخدمه في مقالته، إذ قال: «ولكن إذا ما عادت [سويف] إلى الكتابة حول مواضيع مصرية، فيجب عليها أن تواجه الشحنة السياسية الكامنة فيها». هل يمكن لسعيد أن يسدي النصح لندٍ له مثل دريدا بالأسلوب التالي: «ولكن إذا ما عاد [دريدا] إلى الكتابة حول التفكيكية، فيجب عليه أن يواجه شحنة الغموض الكامنة فيها». وهل تجرؤ سويف أن تنصح سعيداً بما يلي (بنفس الأسلوب أعلاه) بعد مراجعتها لأحد كتبه: «ولكن إذا ما عاد [سعيد] إلى الكتابة حول مواضيع نسوية في مرحلة ما بعد الاستعمار، فيجب عليه أن يواجه الشحنة الإمبريالية الكامنة في النقد الذكوري»!    يبدو أن النقاد يترفقون بالقوارير أحياناً، فيأتي النقد إما موارباً أو مداهناً أو مراوغاً. وقد يعزى ذلك إلى ما هو أبعد من الرغبة في الاسترضاء أو المجاملة، ألا وهو ما تطرق إليه رَثفن في غير موقع من كتابه تحت مسمى «الإرهاب النسوي»، إذ «يحقّ للقراءات النسوية أن تتركز حول المرأة دون أدنى شعور بالذنب لأنهن لا يتظاهرن أبداً بغير ذلك، في حين أن هدفهن هو إقناع الرجال بأن نقدهم لا يخلو أبداً من التحيز لجنس معين ويفتقر إلى الشمولية.» (ص 35) بمعنى أن الرجل لو تشدد في نقد المرأة سيتهم مباشرة بمعاداتها وقد يوصف بالرجعية.   قد يقال إنّ ألفريدا ييلينك النمساوية قد حازت على جائزة نوبل للآداب عام 2004 رغم أنها هي الأخرى تكتب نصوص متعة. لم تعد الجوائز مقياساً دامغاً على الجودة والاستحقاق، فقد أشعل فوزها هجوماً على أكاديمية نوبل السويدية التي لا يخفى على أحد فاعلية العامل السياسي فيها. فأطول روايات ييلينك «أبناء الموتى» تدور حول الهولوكوست تحديداً(4) التي قضى فيها عدد من أفراد عائلتها. وتتوج الهجوم على الأكاديمية بأن تركها الكاتب والمؤرخ الأدبي السويدي كنوت إميل آهنلند في عام 2005 احتجاجاً على منح ييلينك الجائزة قائلاً إن «أعمالها عبارة عن بورنوغرافيا علنية وكثيرة التشكي وغير ممتعة. وتسبب منحها الجائزة بضرر لا يمكن إصلاحه لكل القوى التقدمية، كما شوّش النظرة العامة إلى الأدب بصفته فناً.»(5)    وفي حين تثير رواية ييلينك الأشهر «معلمة البيانو» الاشمئزاز لدى عموم القراء، فقد أثنت عليها الروائية السورية هيفاء بيطار في محاضرة لها بالدوحة عنوانها «النساء في الألفية الثالثة» بقولها: «هناك بعض الكتابات لا يمكن لرجل مهما بلغت قدرته في التعبير أن يكتبها، كمونولوج داخلي بالغ التعقيد والخصوصية لمشاعر عانس عانت من تربية صارمة، كما فعلت الإنكليزية [الخطأ في الأصل] ألفريدا ييلينك في رواتها ’عازفة البيانو‘. فالكاتبة في هذه الرواية استطاعت أن تبتكر مفردات أصيلة نابعة من ذاتها الأنثوية، ولم تستعمل مفردات مستعارة من لغة الرجل التي تعبر عن فكره الخاص وإحساسه بالعام»(6).. هذا التوصيف جدّ فضفاض، ويكاد يتسع لكل الروايات الأنثوية! لا أدري إن لاحظت بيطار كم تسرف ييلينك في وصف تفاصيل العلاقة السادو-ماسوشية التي تربط بطلة الرواية بتلميذها، وتفاصيل العنف الموجه للذات، حتى ليقال إن الفلم الذي أنتج بناء على الرواية يشبه أفلام البورنو التي كانت بطلة الرواية أريكا نفسها مهتمة بها! لا يمكن التسامح مع الرواية إلا إذا قُرئت قراءة تحليلية نفسية من منظور فرويدي بحت، فهي تجسيد ناجح لأفاعيل عفاريت اللاوعي عندما تنفلت لدى أفراد على حافة الجنون. فقد عاشت بطلة الرواية مع أم قاسية دون توافر أي رمز يعوض عن فقدان الأب، فلم تتمكن من الانفصال نفسياً عن أمها، فتحول الكبت الداخلي إلى عنف موجه نحو الذات والآخرين وحب للسيطرة. يبدو لي أن بطلة ييلينك هي المرادف النفسي الأنثوي للماركيز دو ساد الذي يجد أن «أكبر سخف في العالم أن يجاهد المرء أهواءه» (الدكتور إبراهيم ص 155). هذه النماذج من الشخصيات قد تنبهنا إلى أن كل مطالبة بإطلاق أهواء الجسد إلى أقصى الحدود بدعوى التحرر مشوبة بإطلاق عفاريت اللاوعي المؤذية التي تعدّ أحد أسباب انفلات الميول الإجرامية الدفينة، إذ تُفقد القدرة على الكبح اللازم للنمو النفسي السوي. وقد رأيت تجسيداً مرعباً لتلك العفاريت في رسوم أطفال صغار تعرضوا لضغوط نفسية معينة، رسوم ميثولوجية أتت مما يسميه يونغ بالـ«اللاوعي الجمعي» للجنس البشري، إذ لا يمكن أن تكون قد أتت من ذاكرة الأطفال المباشرة لشدة ما تحفل به من رموز مربكة لا علاقة لها بما خبروه في حياتهم. فالأطفال هم الأكثر قدرة على إطلاق العنان للاوعي لأن البُعد الكابح في الشخصية ليس فاعلاً تماماً لديهم بعد. وتطور القدرة على كبح الأهواء وتوجيهها بالعقل هو ما يميز الإنسان عن الحيوانات، وتسويغ العودة إلى البهيمية في هذا العصر من خلال الأدب والفن – ناهيك عن السينما - ليس إلا نكوصاً حضارياً كارثياً في الغرب والشرق على حدّ سواء.     يجب أن لا يساهم النقد في تشتيت الذائقة الأدبية والفنية لدى عامة الناس وتشويهها كما حصل في الفن التشكيلي من خلال النقد الفضفاض والموارب، فقد ازدحمت ساحة الفن التشكيلي بأشباه الفنانين الذين توافدوا وتزاحموا على باب الفن التجريدي المفتوح على مصراعيه بترحيب من النقاد حول العالم رغم أن وكالة الاستخبارات الأمريكية هي التي روجت له ومولته كإحدى وسائل الأمبريالية الثقافية لخلق حركة فنية تبدو في ظاهرها وسيلة حرة للتعبير ومناسبة لتحدي الواقعية الاشتراكية التي كانت سائدة في الدول الشيوعية(7). في المقابل ألا يجب أن لا تزدحم الساحة الروائية بأشباه الأدباء الذين أمسوا يتوافدون إلينا من باب نصوص المتعة! وإن كان رولان بارت يحبذ النصوص الأدبية المفتوحة على التأويل، فهل سيحبذ النصوص النقدية المفتوحة عليه أيضاً؟! وأودّ أن أورد هنا شذرات متقطعة، فلعلها دالة، من مقالة هامة للناقد فاروق يوسف: «يقال إن هناك اليوم نوادي مغلقة تنتشر حول العالم...تدير من طرف خفي حركة الفن في عالمنا... يتلاعبون بمهارة بمزاج العصر الثقافي...نحن اليوم في مهب تاريخ فني كاذب... اذهبوا إلى تجربة الإيرانية شيرين نشأت. ما من شيء مبهر تستحق المرأة من أجله أن تكون فنانة عالمية...كانت الحرب على الإسلام...قد سمحت للمؤسسات الاستخبارية في التمدد خارج خرائطها فوجدت في أعمال شيرين ضالتها باعتبارها فضيحة...البريطانية من أصل تركي قبرصي تريسي أمين وهي رسامة رديئة صارت..عضوا في لجنة تحكيم في واحد من أهم المعارض البريطانية..لأنها حازت عام 1999 جائزة تيرنر عن عملها (سريري)». وينهي مقالته بما يشبه الحوار مع الآخر بقوله «أما لو رغبت في طرح مشكلة المثليين في أفغانستان أو مصر فإننا نملك الوقت للإنصات إليك. نحن الآن في خدمة لائحة حقوق الإنسان...أبناء وطنك لا يقولون ما تقول. إنهم يتحدثون عن الكبت الجنسي...ما تقوله صحيح. ولكن هناك خطأ...أقول لهم: ‹لهذه الأسـباب لم أعد ناقداً› لم يعد النقد كافياً.»(8)   بماذا يفيدنا التقليد الممجوج لنماذج رديئة من الكتابة الأنثوية في الغرب التي لا تعكس إلا هماً موغلاً في الذاتية والأنانية، وهي كتابة بدأت أصوات كثيرة في الغرب تتبرم منها، ولا سيما بعدما باتت الحركات النسوية تتبنى قضايا هامشية أفقدتها الهيبة الفكرية التي لازمتها إلى حدّ ما في موجتيها الأولى والثانية، ومن الأمثلة على الانحطاط الذي وصلت إليه دفاعها عن البورنوغرافيا بصفتها وسيلة من وسائل التعبير الحرّ، وكأن التعبير الحرّ بات الإله النهائي في هذا العصر، فمن أجله يجب أن نقبل الانحطاط والإسفاف. فهل بدأ السرد النسوي لدى عينة لافتة وغير دالّة من الكاتبات العربيات في الحضيض الذي انتهى إليه في الغرب على يد العينة غير الدالّة لديهم أيضاً. يقول رَثفن: «يكشف التفكير في المرحلة التي تلي تفكيك المركزية الذكورية مشاكل مختلفة، لأن الإجماع على الشيء الذي تتحرر منه المرأة، ألا وهو استغلال الرجال لها، أسهل من الإجماع على الشيء الذي تتحرر إليه. وديانا تريلنج ليست وحدها في عدم ارتياحها للروايات الحديثة التي تدور حول تحقيق الذات الأنثوية، إذ تجد البطلات فيها أنهن ما إن تحررن حتى دخلن في طغيان جديد في خضم سعيهن الحثيث لإشباع حاجاتهن الجسدية» (ص 93). وقرأت تعليقات عديدة لقراء أجانب في مواقع النقاش الأدبي على الإنترنت تشي بأن القارئ الغربي الجاد لا يحب بورنو النصوص التي لا تخدم غرضاً أدبياً حقيقياً، ويريد للكاتب أن يترك لخيال القارئ دوراً.    وعلى صعيد أهم يجب أن لا يساهم نضال المرأة العربية وأدبها في هذه المرحلة التاريخية الصعبة في تدمير مجتمعها، فلا تصلح النسوية في العالم الغربي مثالاً لنا «لأنها تسعى إلى وضع حاجات النساء فوق حاجات مجتمعاتهن، أو اعتبارها حاجات متعارضة مع ما تريده تلك المجتمعات» (الدكتور إبراهيم ص 46). كما أن «النسويات الغربيات يمثلن طليعة برجوازية تعمل بصورة معكوسة على المحافظة على القيم السائدة في المجتمع الرأسمالي» بسبب «انخراطهن في نظام الاقتصاد الذكوري» (الدكتور إبراهيم 48-49). ويجدر الالتفات إلى ما تشكو منه النسويات الفلسطينيات من اضطهاد مركب في أمريكا «فمن المطلوب منهن ليس فقط النضال ضدّ الاحتلال الإسرائيلي وقوى الرجعية داخل جاليتهن، وإنما عليهن الكفاح على جبهة ثالثة تتمثل في مجابهة الأنثويات الغربيات اللواتي يدعين أنهن يتكلمن بالنيابة عن العربيات، لكن ينتهي بهن الأمر إلى هجائهن. فيما المرأة العربية تقف موقف الدفاع، وتمتنع عن نقد المجتمع العربي، وخاصة في هذا البلد، حيث استصغار العرب هو القاعدة» (الدكتور إبراهيم عن إفلين شاكر ص 56). كما أن تحرر المرأة العربية في الغرب لا ينفع نضال المرأة في الشرق، لا بل إنه لا يعني أحداً هناك أيضاً، وقد يكون ذريعة أحياناً للنظر بدونية إلى تحررها، إذ ينظر إليها كخائنة لمجتمعها ودينها بهدف استرضائهم ونيل إعجابهم. فثمة صورة راسخة عن المرأة العربية لن تمحي ما دمنا شعوباً مهزومة. وجدير بالذكر هنا أن أحد مواقع النقاش الأدبي الأجنبية قد أدرج عشرين سؤالاً للنقاش، لا يخلو بعضها من الخبث، حول رواية أهداف سويف «خارطة الحب» التي رُشحت للمان بوكر وترجمت تبعاً لذلك إلى 16 لغة، وكان من بينها السؤال التالي الذي كان يهدف إلى تقويض عبارة أدرجها إدوارد سعيد في المراجعة التي أشرت إليها سابقاً، ونص السؤال هو: «وإذ قال إدوارد سعيد في مراجعته لأحد كتب سويف السابقة ’إنها من أكثر من يكتبون عن السياسة الجنسية في الوقت الحاضر تميزاً‘، فهل يوفر انحدار آمال الطبقي من عائلة عريقة وتعلمها في الخارج حريات ممنوعة على النساء الأخريات؟ وما هي الأحداث في الكتاب، سواء في الماضي أو الحاضر، التي تتعارض مع الرؤى النمطية لدى الغرب عن أدوار النساء في المجتمعات الإسلامية؟ وهل صُورت ليلى وزينب كامرأتين ملتزمتين بالتقاليد وخانعتين؟ ما هي الأدلة التي تثبت أنهما كانتا قادرتين على إحداث التغيير ليس فقط في نطاق أسرهن بل في المجتمع ككل؟ وإذ تعيش كل من إيزابيل وآمال حيوات مستقلة خالية من المسؤوليات تجاه الزوج والأسرة، فأي نموذج من النساء يعكس تصوركم للنسوية ؟»(9) وما يلفت النظر في هذه الأسئلة هو الأفكار الكامنة فيها. وأهم ما يستشف منها هو التشكيك في أهمية النسويات العربيات في الغرب لمجتمعاتهن، إذ لم يتحول تحررهن إلى فعل سياسي حقيقي في سياق الرواية كما أوحى سعيد عندما استعار مصطلح «السياسة الجنسية» الذي شاع في الستينات واستعارته النسوية كيت مِلِتْ ليكون عنوانا لأهم كتبها في عام 1970. فثمة قراء يرون أن البعد السياسي في روايات سويف ليس إلا خلفية مفتعلة وملصقة تحت العلاقات الرومانسية الخفيفة التي تنشأ بسهولة لتعطيها ثقلاً، ووصف الناقد جون مولان النساء الغربيات اللواتي وقعن في حب المصريين في الرواية بالساذجات.(10) ترى هل أوحت له الرواية بذلك أم أنه ينظر بدونية للعرب أم تضافر الأمران؟    قد يستنتج البعض مما سبق إنني أريد من النقاد الذكور أن يبطشوا بالروائيات الإناث لأنني امرأة تكره النساء، وتكره حرية التعبير، وتتمنى تكريس التابوهات. ولهم أقول اقرؤوا ما كتبت مرة أخرى، فأنا لا أريد سوى نقدٍ يتحدى أديباتنا اللواتي يجب أن لا يرضين بالطبطبة على الظهر، ونقداً يتحمل مسؤولية توجيه الذائقة الأدبية ورفع المستوى الثقافي العام. ولا أقترح بحال من الأحوال منع أحد من الكتابة عن مكبوتاته كلها وعرضها على الملأ، لكن يجب ألا يتساهل النقاد مع تلك الكتابات بعدها أدباً جيداً إن لم تكن كذلك فعلاً حتى لو خلا السوق من غيرها. وليست كل كتابة عن الجسد كتابة هابطة، لكن أما وقد كُشف ذلك الجسد المسكين في الأدب والفن لدرجة الملل، وانطفأت الدهشة، فماذا بعد؟ كتب كافكا عن إشكالية الجسد الإنساني في روايته «المسخ» من بُعدٍ لم تتطرق إليه أي روائية نسوية رغم إحساس عدد هائل من النساء في هذا العالم بأنهن مسوخ في عيون الآخرين، ويحكم عليهن بالحرمان من كل شيء، إذ يجرجرن أجساداً لا تصلح نصوص متعة. مَن الأَولى بأنْ يَراهُنّ من الداخل: الأدب النسائي أم الرجالي؟    وفي ملاحظة ثانوية أخيرة، فقد حيرني اختيار الدكتور إبراهيم غلافاً لكتابه عبارة عن لوحة بوستر للفنان البولندي فيسلاف فالكوسكي المحدث، فقد أوحت لي بدايةً بأنه لا يريد سوى تذكيرنا بالصورة التاريخية النمطية للمرأة، من حيث هي مغطاة الوجه والرأس والجسد، ولا هوية لها، وترضع طفلا يلخص دورها في الحفاظ على استمرارية الجنس البشري، ولكن تناقض هذه الصورة مع السرد النسوي الذي يتمرد على ما تمثله تلك اللوحة بالذات، ويدعي تحرير الجسد، جعلني أعتقد أنه ربما أراد أن يقول توريةً إن المرأة العربية الساردة تتوهم التحرر وإنها لا زالت أسيرة جسدها، وكأن شيئاً جوهرياً لم يتغير بكشفها له. وعلى النقيض من ذلك، اختار رَثفن لغلاف كتابه لوحة للفنان الهولندي ويليم باستيان ثولن تعود إلى عام 1895 وتصور فتاتين يافعتين منهمكتين انهماكاً تاماً في قراءة كتب ضخمة وقد ارتديتا ملابس أليفة تشبه مراييل المدارس. حقاً، إن كان تحرر المرأة هو غاية الفكر النسوي فإنه لن يتأتى إلا من خلال دفع الفتيات الصغيرات نحو إدمان القراءة وتعلم غواية التفكير لتحرير عقولهن وخيالهن أولاً.                   الهوامش* مجلة نزوى1 “Elaine Showalter”  2 نجم، مفيد، «الجسـد في السـرد النسـوي: استعادة القيمة الغائبة للذات - علوية صبح نموذجاً.» مجلة نزوى، العدد الثاني والســبعون. 3/11/2012 < http://www.nizwa.com/articles.php?id=3960>3 “Edward Said writes about a new literature of the Arab world.” London Review of Books. Vol. 5 No. 12 · 7 July 1983, p. 8.4 Packalén, Sture, “Elfriede Jelinek: Provocation as the Breath of Life.” 16 June 2005. org/nobel_prizes/literature/laureates/2004/jelinek-article.html>5 Fleishman, Jeffrey, «Member›s abrupt resignation rocks Nobel Prizecommunity.» Boston Globe, October 12, 2005. 6 «النساء في الألفية الثالثة: محاضرة لهيفاء بيطار في الأسبوع الثقافي السوري بالدوحة.»   discover-syria.com/news/5843>7 Petras, James, “The CIA and the Cultural Cold War Revisited.” Monthly Review. 1999, Volume 51, Issue 06. < http://monthlyreview.org/1999/11/01/the-cia-and-the-cultural-cold-war-revisited>8 يوسف، فاروق، «لن ترضى عنك نوادي الفن.. حلقات مغلقة وأموال فائضة ومثلية فاقعة والجمال غريب مثلك». القدس العربي. 2010-12-28 9 “The Map of Love by Ahdaf Soueif.” asp>10 Mullan, John. “The Map of Love by Ahdaf Soueif.” The Guardian. 22 November 2008.

المراجع

nizwa.com

التصانيف

أدب  مجتمع