وائل شاب فلسطيني من غزة، من أسرة فقيرة، مات أبوه حزناً على أخيه المعتقل، يعيش في بيت صغير مع أمه وأخيه وأخته. بعد أن أتم دراسته الجامعية عمل بائعاً للسمك، يكسب منه عيشه، وما يعول به أسرته. مثله مثل أي شاب فلسطيني يرى الاحتلال يجثم على صدورهم، ويسيء معاملتهم، وقد سلب وطنهم وأرضهم، ويلاحقهم على هذه البقعة التي لم يعد فيها متسع لقدم، يمارس غطرسته بصور مطلقة. بعد أن عجز العرب – بجيوشهم النظامية – عن كسر شوكته، يهب الناس في انتفاضة مباركة لإيقاف جبروت وغطرسة آلة الحرب اليهودية، سلاحهم الإيمان، وقذائفهم الحجارة، ودواء جروحهم الصبر، وبلسم أوجاعهم الأمل.يُعتقل وائل، ويحقق معه، ويعذب بوحشية لا متناهية في قسوتها، فلا يضعف، ولا يلين. وتمارس ضده الضغوطات الجسدية والنفسية من كل شكل ولون، ويتساقط من حوله بعض زملاء الانتفاضة تحت وطأة التعذيب، ويعترفون عن بعض خلاياهم، ويُستدعى أحد المنهارين (سالم أبو الفتوح) ليؤثر على وائل بعدما قبل التعاون مع العدو. وائل يصاب بالإحباط، وقد صور له اليهود وأعوانُهم استحالة النصر، وبدأت خدرات اليأس تغزو أعصابه وقلبه.في إحدى مواجهات الحجارة مع اليهود، يقذف طفل سيارتهم بحجره، فتختار السيارة طفلين لتطاردهما، تشاهد هذه المطاردة فتاة أمريكية سائحة، في مقتبل عمرها وشبابها (جين) فتركض لتنقذ الطفلين من حقد عجلات سيارتهم، تسقط، يغمى عليها، لا تصحو إلا في المستشفى، وتعلم أن الذي حملها بين ذراعيه إلى المستشفى (وائل)، تراه وسيماً وادعاً، يتعلق قلبها به، وتحاول – بعد اتفاق مع والدها – على مكافأته، بأن تأخذه معها إلى أمريكيا ليعمل عند والدها، بعيداً عن أجواء الصراع في غزة.تحت ضغط الحب الوليد بين قلبيْ (وائل) و (جين)، وإغراء المال، وحلم الاستقرار، واليأس من إصلاح الأحوال تحت الاحتلال، يوافق وائل على اللحاق بـ (جين) إلى بلدها، حيث أنه في حاجة لعلاج قلبه المريض أيضاً، وقد وعدته (جين) بذلك، بل هي التي أغرته بذلك ومنَّته.جبهة الرفض داخل أسرته لهذا القرار المشين تشتد، وتعتبره هروباً من مواجهة المشكلة، يحاول وائل إقناع أهله أنه ليس هروباً، ولكنه نوع من الهدوء والتقاط الأنفاس، والبحث عن مكان أكثر أمناً وسعادة من الأراضي المحتلة!!
الكل يرفض توجهه هذا، حتى أن أخاه وأخته الصغيرين، وأمه العجوز، لا يقبلون هذا المنطق.يسافر (وائل) بمساعدة أحد الخونة المتعاونين مع العدو (سالم أبو الفتوح)، ويلتقي في الطائرة بامرأة عجوز غريبة، يزجي الوقت بالحديث معها، هي تمثل الإيمان والصمود والنظرة الصائبة والعقل الراجح، وهو يمثل اليأس والنزق والعقلية الفجة. وتدور بينهما حوارات عدة، إنها الدكتورة (هيلين جيرن).
وعندما وصل (وائل) إلى مطار في أمريكا بعد رحلة طويلة، شاهد في صالة القادمين تلفازاً معلقاً يعرض بعض الأخبار، فشاهد صورة أخيه (عليّ) وهو تُحطم عظامُهُ بأعقاب بنادق الجنود الإسرائيليين في غزة، فيهب صارخاً راكضاً باتجاه التلفاز، ولأنه مريض بالقلب، يغمى عليه. وعندما يصحو يجد نفسه في غرفة العناية المركزة بأحد المستشفيات في المدينة الأمريكية التي تقيم فيها (جين)، ويجد (جين) حبيبته تحيطه برعايتها وحبها، وتغسل يديه بدموعها وقبلاتها.ينتهز فرصة خروج (جين)، ويغافل من في المستشفى، ويلبس ملابسه، ويعود إلى المطار في محاولة يائسة للعودة إلى بلده، ليشارك أهله في قتال العدو، بعد أن أيقن خطأه، وتبين له أن أهله كانوا على حق، وأن بحثه عن جنة أخرى غير وطنه لا يفيد، لكنه يموت في قاعة المغادرين وهو ينتظر إقلاع الطائرة. تلك هي أحداث الرواية بصورة مجملة.شخوص الرواية:وكأي رواية تتعدد فيها الشخوص، نجد أن هذه الشخوص تمثل ثلاثة مستويات: شخوص رئيسية، وشخوص ثانوية، وشخوص هامشية. ويتمدد هذا التقسيم أو التصنيف من الأدوار التي أُسْنِدَتْ إليها في الرواية.فمن الشخوص الرئيسية: (وائل) والعجوز الدكتورة (هيلين جيرن). ومن الشخوص الثانوية المساعدة: (سالم أبو الفتوح) العميل الإسرائيلي، و (جين) الفتاة الأمريكية التي أحبت وائل، و (عليّ) أو وائل الأصغر، و (حياة) أخته الصغيرة وأمه. أما الشخوص الهامشية فكثيرة، منها: (أحمد) رفيق كفاح وائل وجهاده ص 18، وقد كان جاراً لخال وائل ص 101، وقد عَرَّفَ (وائل) على خلية من خلايا المجاهدينص 101. و (عوض) السائق الذي كلفه (سالم أبو الفتوح) بنقل وائل إلى المطارص 16 وهو يعمل مع سالم أبو الفتوح ص 17 ومع اليهود أيضاً بعد أن وقع تحت ضغوطاتهم ص 21 لكنه في لحظة صدق ينصح (وائل) بألا يسافر، حتى لا يقع في شبكة الأعداء كما وقع هو ص 22 – 23. وهناك (هدى) المصرية صديقة الدكتورة (هيلين) ص 32، وزوجها (عبد الله) ص 33، و (نور) بنت الدكتورة (هيلين)ص 32 – 33، ص 94 – 95 وغيرهم.ويهمنا أن نقف عند شخصيتين من هذه الشخوص هما: (سالم أبو الفتوح) والدكتورة (هيلين جيرن). سالم أبو الفتوح: شخصية تمثل نمطاً منهاراً من الناس، وهذا النمط عنده استعداد نفسي لمواصلة الانهيار، ذلك أن الكسب المادي الذي يحققه له التعاون مع العدو يوافق رغباته، فهو يسير في هذا الخط برغبة وتفاني، طالما أن أموره ميسرة، لذا يعمل باجتهاد على إقناع أصدقاء الأمس، ومعارف اليوم بالانضمام إلى خطه والتعاون مع العدو، ويعمل كل جهده لتجنيد الشباب والتأثير عليهم. وقد تنبه لهذا المرض النفسي أمير المؤمنين عثمان بن عفان (t) عندما قال:"تتمنى الزانية لو زنت كل نساء الأرض"ذلك أن السقوط في الهاوية يحطم الكبرياء، ويشعر المخطئ بتصاغره أمام الشرفاء، فهو يسعى جهده – أو يتمنى – لو أن الناس جميعاً أصبحوا مثله، حتى لا يتعالى عليه أحد، فهو ينطلق من هذه العُقْدَةِ ليعمل باندفاع لتجنيد الآخرين في سلك العمالة للعدو.بينما نجد نمطاً آخر ممن انهاروا تحت التعذيب، ولم يستطيعوا مقاومة الترغيب والترهيب، وكل أساليب الشياطين في استدراجهم، فتعاونوا مع العدو مكرهين، ومن هذا النمط السائق (عوض) الذي نقل وائل بسيارته من غزة إلى مطار اللد، ورغم اعترافه بالسقوط والتعامل مع العدو، إلا أنه يمارس ذلك مكرهاً وتحت ضغوط شتى، فإذا لاح له الاطمئنان، خدم وطنه وناسه، وخَذَّلَ الناس عن السير في هذا الخط، فها هو ذا ينصح (وائل) بعدم السفر، والبقاء في وطنه لمقاتلة العدو، وعدم الانسياق وراء نصائح (سالم أبو الفتوح) الخادعة. نمطان مختلفان للشخصية المنهارة، واحدة تمارس السقوط بلذة وتفاني، وواحدة تمارسه بفتور كاره، وتتمنى الخروج من هذا المستنقع الآسن.
أما الدكتورة (هيلين جيرن) فامرأة عجوز تدرس اللغات الشرقية، كانت في زيارة للأراضي المحتلة، تلتقي بوائل في الطائرة المسافرة إلى أمريكيا، وعلى عادة الغربيين، تتواصل مع وائل في الحوار تزجية للوقت. وهنا تبرز النقطة المهمة في تفكير الكاتبة السيدة جهاد الرجبي.شخصية د. هيلين ليست مجرد شخصية عابرة يلتقي بها المسافر كما يلتقي بالمضيفات مثلاً، فالكاتبة أرادت أن تجعل من هذه الشخصية صورة ونموذجاً للتفكير الغربي أو الحضارة الغربية، في مقابل العقلية العربية السائدة، فهذه الحوارات صورة حيّة لتعامل عقليتين: العربي مورست عليه تربية تقوم على التعلق بأمجاد ماضية، ونفخ الاعتزاز في أوصاله، لكن هناك فرق بين الاعتزاز وبين الغرور، ذلك أن الاعتزاز يقوم على أمور واقعة صنعتها الأيدي الحاضرة. أما الغرور، فيعايش واقع مخزٍ، والتشبث فيه بأحلام وأمجاد صنعها الماضون السابقون دون محاولة جادة للخروج من الضعف، لصنع أمجاد حقيقية كما صنع السابقون، فهذه حالة تنتج سلوكاً أقرب إلى سلوك الحشاشين أو المخمورين أو المدمنين.ظهر لنا صرع العقليتين وتميزهما عندما صورت لنا عقلية الغربيين بالاتزان النابع من الواقع والتجربة، والذي تمثله د. (هيلين) ذات السن الكبيرة، والتجارب الكثيرة، والعلم الغزير، في مقابل عقلية ضعيفة، غريرة، مهزوزة، حالمة، تنظر للناس باستخفاف، معتمدة على ماض تليد، ووهم الأصالة العتيد، فانعكس ذلك بذاءة من وائل، واستخفافاً بالدكتورة (هيلين) بلغ حد الإيذاء بالقول، وربما اللعن في السر أحياناً، وهي صورة العربي اليوم الذي تتمثل في النزق العدواني، والسلوك الهجومي، والاستخفاف بالآخرين، وربما يكون مرد ذلك لما عاناه العربي من الغرب، وما لاقاه منهم من ظلم وكيد، فانعكس على أفراد منهم قد لا يكون لهم ذنب فيما حدث، لكن الموروثات الفكرية أو الثقافية التي ينتج عنها سلوك لا تفرق – عند الضيق – بين عدو فَعَلَ – وعدو لم يَفْعَلْ، فكلهم في تَـحَمُّلِ وزر الجُرْمِ واحد.وهنا تكمن الخطورة، العقلية الغربية تؤمن بقدرة العرب والمسلمين وبحضارتهم، وبأنهم الأبقى والأقدر على قيادة العالم مستقبلاً كما بَشَّرَ وأَنْذَرَ علماؤهم وأهل الفكر فيهم. وما وقوف العقلية الغربية – اليوم – ضد الإسلام والمسلمين إلا نزعة فطرية للدفاع عن النفس ليس إِلَّا، لذا نجد المخلصين الواعين منهم يتعاملون مع حضارتنا بروح فاهمة عالية، أما نحن فلا نُقَدِّرُ أنفسنا حق قدرها، ولا نقدر حضارتنا، ولا ديننا، فنعرض نزقاتنا وانحرافاتنا وتصرفاتنا الفجة. فأما الغافلون من الغربيين، فيتمسكون بهذه الصورة، وأما العاقلون فيفرقون بين حضارتنا وديننا، وبين سلوك أبناء اليوم من المسلمين، ذلك أن هذا السلوك نتج كردة فعل عن معاداة الغرب لنا، وتركيع حكامنا لأجيالنا، حتى خلقوا منا عبيداً من الداخل، وإن بقي ظاهرها يحاكي الأحرار، فماذا يكون سلوك العبيد؟!البعدان الزماني والمكاني:للأسف، لم يكن للبعد الزماني في الرواية أثر يذكر، ولا يستطيع الناقد إلا أن يشير إلى أنه كان زمن الانتفاضة، في صيف إحدى سنواتها، ولا شيء غير ذلك يعول عليه.والكلام نفسه يقال عن البعد المكاني، وإن كان قد ظهر ظهوراً يسيراً في مواضع ثلاثة: الأرض الفلسطينية، غرف التحقيق والتعذيب، الطائرة. لكن هذين البعدين عولجا بسطحية، ولم ينالا التركيز، فلم يشعر بهما القارئ.البعد الإنساني:أما البعد الإنساني في الرواية، فقد كان واضحاً أكثر من البعدين السابقين (الزماني والمكاني) وقد تجلى هذا في عدة مواقف منها: صناعة النساء للخبز، لا لتطعم الواحدة منهن أولادها وأسرتها وحسب، وإنما لتوزعه على المجاهدين وقاذفي الحجارة ص 6، وقد ألغت الانتفاضة أنانية الناس، لتُحل محلها التراحم والتلاحم والتعاون في أبهى صورها.
ومنها الموقف الإنساني الذي ظهر من (عوض) سائق السيارة التي أقلت (وائل) إلى المطار، والذي يتعاون مع اليهود، وهو ينصح (وائل) بعدم السفر حتى لا يتورط في العمالة مثله ص 22. ومنها سؤال الدكتورة (هيلين جيرن) المجاورة لوائل في الطائرة عن سبب اضطرابه، وتخفيف الأمر عليه، واستدراجه للحوار معها لتهون عليه ما يجد، رغم عدم معرفتهما سابقاً ص 27. ومنها الغيرة من الأطفال تجاه المولودة الجديدة، وما كان يفعله (وائل) الصغير عندما كان يختلس غفلة من أهله، فيدخل حيث المولودة الجديدة (حياة) فيضربها ويهرب ص 69. ومنها أثر الأطفال الصغار في إشاعة الحب والبهجة في البيت، والاستحواذ على اهتمام كل من في البيت ص 70. ومنها حاجة الإنسان للناس حتى يتواصل معهم، ويدفع عن نفسه غوائل الملل والخوف، والرغبة في الحضور ومشاركته الكلام ص 92.كما تجلى البعد الإنساني في موقفين متقابلين: حرص وخوف (جين) الأمريكية (وربما تكون يهودية أصلاً) على طفلين تحاول سيارة عسكرية دعسهما، فتعمل جاهدة على إنقاذهما ص 84، وبالمقابل البعد الإنساني الذي دفع وائل لحمل هذه الفتاة المغشي عليها بين ذراعيه، ونقلها إلى أقرب مستشفى بغض النظر عن ديانتها أو جنسيتها أو انتمائها ص 86 – 88.التصور الإسلامي:والرواية تصنف في الأدب الإسلامي، لما تزخر به من دلالات وصور وأفكار وغيرها من الأمور، وقد ظهر الجانب الإيجابي في هذا التصور من خلال عدة أمور، مثل اللغة الإيمانية التي تستمد مفرداتها من القرآن والتراث، ومن الطرح الفكري للعديد من القضايا، كالجهاد في فلسطين، وأنه فرض عين ص 39، ومفهوم العبادة أنها الطاعة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ص 39.بَيْدَ أَنَّهُ ظهرت أمور تخل بهذا المنحى، وتناقض التصور الإسلامي مثل:
كثرة إيراد الكاتبة للتدخين بغير ضرورة تؤثر في الحدث ص 15، ص 22، ص 28،ص 72، ص 76 وكان إبراز التدخين يتم أحياناً بصورة محببة غير منفرة ص 105،ص 106، ص 108، ص 114. ولماذا أصرت على إظهار الجد أنه مدخن؟ ويا ترى، لو ألغت التدخين من تصرفات الشخوص، هل يؤثر على بناء الشخصية؟! وليتها – إذ فعلت ذلك – كان من باب إظهار سوء التدخين، أو سلبية المدخن، لإعطاء صورة منفرة منه.ومثله اللعن، فقد ورد في أكثر من موضع، إذ وُصِفَ الزمنُ بأنه لعين ص 38، وشُتِمَ الزمنُ أيضاً ص 47، ولَعْنُ وائل للدكتورة هيلين في سره ص 84.
وكل هذا حرام شرعاً.كما أوردت – بشكل محايد – بدعاً، بل مخالفات للسنة الثابتة، كتسمية المولود على الأربعين ص 69 والصحيح في اليوم السابع، كما أن التشاؤم مرفوض أيضاً في التصور الإسلامي، ولا يجوز التعويل عليه في السلوك ص 69 – 70، فموت البنات قبل الطفلة (حياة) بقدر الله، وهذا الذي يجب أن يُسلِّمَ به المؤمنون.أما إيراد عبارة تمثل الفكر الوثني (وتصلي لكل آلهة الأرض ص 57) فيمكن التجاوز عنها على اعتبار أنه فعل صدر عن نصرانية علمانية، استمدت ثقافتها وقناعتها العقدية من تراث الفكر اليوناني القديم، الذي يقوم على تعدد الآلهة، لا من الكاتبة (الراوية).البناء السردي:لقد استخدمت الكاتبة تقنية روائية تقوم على أنماط متعددة للسرد الحكائي، فقد استخدمت ضمير المخاطب، الواصف من بعيد، غير المشارك في الأحداث، والمحيط بكل الشخوص، وهو بهذا القَدْرِ يُعَدُّ راوياً محايداً، عارفاً بكل الأمور، وهذا أعطاها حرية في تحريك شخوصها في فضاء الرواية.ولجأت في رسم الشخوص، أو إيراد الأحداث، أو طرح الأفكار ومناقشتها إلى نوعين من الحوار، الحوار الخارجي (ديالوج) وهو الذي يدور ظاهراً بين الشخوص ص 15، ص 43، ص 45 على سبيل المثال. والحوار الداخلي (مونولوج) والذي يدور بين الشخصية الواحدة ونفسها من الداخل ولا يطلع عليه أحد ص 11، ص 14 مثالاً.كما لجأت لتقنية الرجوع إلى الخلف أو الوراء (فلاش باك) لتضيء أمام القارئ جوانب أخرى في حياة الشخصية نفسها، باستعادة الذكريات، كيف التقى بــ (سالم أبو الفتوح) عند بداية تجنيده مع العدو ص 13، وتذكُّر الجدل الذي دار بين (وائل) وأخيه (عليّ) لعدم مشاركته الناس في قتال العدو ص 37 – 38، وتذكُّر وائل للتحقيق والتعذيب الذي وقع عليه عند اليهود ص 43.ويرفد تقنية الرجوع إلى الوراء تقنية أخرى وهي التداعيات، فعندما قال له (عوض) سائق السيارة التي أقلته إلى المطار: يا أحمق. تداعى إلى خاطره أول مرة وُصِفَ بهذا الوصف حيث قال له الكلمة نفسها صديقه أحمد أيضاً ص 18. وعندما أخذ يتصفح وجوه راكبي الطائرة تداعى له وجه أخيه (عليّ) وأخذ يرى فيها جميعاً وجه (عليّ) ثم تداعى له موقف (عليّ) منه عندما قرر السفر والهجرة ص 60.وقد وظفت الكاتبة في روايتها معلومات ثقافية تاريخية، عن تاريخ المرأة في الغرب، ونظرة رجال اللاهوت لها، والمهانة التي تلحق بها، للتدليل على احترام المرأة عند المسلمين ص 40 – 41.ووظفت الفكر القرآني الباعث على الإيمان، وتحديد مفهوم بعض الكلمات الكلية مثل (القنوط)، (مكر الله) ص 50.ولم تغفل الحكايات الشعبية أو الأسطورية للتدليل على صحة ما تتبناه من فكر أو موقف، مثل حكاية المارد والقزم، وأن من يصارع الأقزام يظل قزماً، والذي يصارع العمالقة يصبح عملاقاً مثلهم ص 96.بَيْدَ أنّ لنا بعض المآخذ في موضوع البناء السردي، ذلك أنها قسمت الرواية إلى فصول كثيرة بلغت عناوينها ثمانية وثلاثين عنواناً لرواية لا تتعدى صفحاتها مئة وعشرين صفحة من القطع الكبير (17 × 24) وهذه الكثرة في العناوين لا يستدعيها السياق، فما معنى عناوين كثيرة لجلسة متصلة بين (وائل) و (د. هيلين) في الطائرة تتخللها بعض التداعيات؟
ومأخذ آخر، أن الكاتبة أجرت حواراً بين وائل الطفل وجده ص 71 – 72 يصور لنا أن (وائل) الطفل صديق حميم للطفل اليهودي (حاييم) في قطاع غزة، فكيف ذلك؟ وأين؟!! ويبدو لي أن الكاتبة لا تعرف طبيعة غزة، ولا العلاقة بين العرب والمستوطنين اليهود، واستحالة حدوث هذه الصداقة، حيث لا اختلاط بهم ولا معهم، ولا مدارس مشتركة، ولا بيوت متجاورة، فالمستوطنات شبيهة بمعسكرات الجيش. فالصورة مقحمة في الرواية إقحاماً غير مبرر، وحتى لو كان المبرر إظهار العداء المستحكم منذ الطفولة، وبراءة الأطفال الآن (أي في سن الطفولة) لا تعني بقاءهم عليها غداً عندما يكبرون ويدركون، لاختلاف نظرة كل واحد منهما للآخر، وعلى العموم فالصورة غير واقعية ولا مقنعة.أما في مجال اللغة، فلغتها جيدة، تعتمد نسق اللفظ القرآني (أتمنعها من الجهاد حسداً من عند نفسك ص 38) و (أحرص الناس على الحياة، ويتمنى لو يعمر ألف سنة ص 59). كما تعتمد العبارات الفلسفية التأملية: وهي كثيرة فضلاً عن أن لها صوراً جميلة مثل (السماء لا زالت زرقاء، البارحة فقط غسلت وجهها من الغيم ببقايا المطر ص 11) و (وائل استطاع أن يحرر عينيه من صفعات المطر المتتابعة ص 101). وكنت أُفَضِّلُ – إذ أوردت لفظة أجنبية بين حاصرتين – أن تسبقها باللفظة العربية حتى تؤصل وجود البديل العربي، فقد قالت ص 22: [ضغط عوض على (البريك) فجأة، فاهتز كيان وائل] فلو وضعت كلمة كابح السيارة قبل كلمة (البريك) لكان أفضل، ومثلها [سمع صوته بالتلفون] ص 42.ملاحظات عامة:ولا بد لنا – في نهاية الأمر – أن نوجز بعض ملاحظاتنا على الرواية في نقاط سريعة:1- المؤلفة تحاول التأكيد على إيقاظ الإيمان بالله – القوة الكبرى اللامتناهية – في مقابل وهم قوة اليهود التي لا تقهر، حتى لا يضعف الناس ويصيبهم الوهن2- ص 49.3- حضور مصر في الرواية يوحي بأهميتها – كشقيقة كبرى – وثقلها الإسلامي والعربي، وتديُّن أهلها بالفطرة (حديث د. هيلين على امتداد الرواية، لا سيما الصفحات ص 48 – 51).4- حضور بغداد في حديث د. هيلين أيضاً ص 50 ربط من المؤلفة بين قطبين كبيرين في العالم العربي، لهما أدوار فاعلة في حياة العرب.5- يشعر القارئ أن هناك شبكة من العملاء تحيط بوائل، وتعمل على تجنيده، بتيسير أمر هجرته إلى أمريكا، والتوصيات السرية للعناية به (سالم أبو الفتوح)، السائق عوض، السائحة الأمريكية الشابة جين، العجوز د. هيلين!! حتى المضيفة في الطائرة ص 102).6- هناك تناقض بين موعد حضور (جين) إلى غزة ولقائها بوائل أول مرة، وسفره إليها. فيقول وائل: (تعرفت عليها منذ سنتين ص 93) ويقول: (جاءت تحتفل بعيد ميلادها منذ أربعة أشهر ص 102) فهل هذا الاحتفال كان في رحلتها الأولى التي تعرفت فيها على وائل ص 85 – 86؟ أم سفرة أخرى تخللت سنتي التعارف، أو المدة ما بين اللقاء الأول والسفر إلى أمريكا ص 93؟ لم توضح لنا الكاتبة هذه النقطة.7- الرواية فيها شيء من العاطفة أو الغرام (الرومانسية) المبالغ فيه ص 116 فعلاقة (وائل) بـ (جين) كانت قصيرة – كما أظهرتها الرواية – لا تحتمل كل هذا الحب والبكاء من (جين).
وكان حقها أن تبرر ذلك بجعل شيء من التواصل كالمراسلة مثلاً، حتى يتعمق الحب في القلب.8- أنفاس الكاتبة تلاحقت بعد ص 103 مما اضطرها إلى حشر بعض من قصصها القصيرة، والتي سبق نشرها في مجلة فلسطين المسلمة، ثم قامت المجلة بعد ذلك بنشرها في كتاب (مجموعة قصصية) يحمل عنوان (لمن نحمل الرصاص) ونُشِرَ في منتصف 1993م، فقد أخذت قصة (المنفى ص 14 – 25 من المجموعة القصصية) فنقلتها وجعلتها ثلاثة فصول في روايتها هذه، والفصول هي: (نهاية الطريق) (بين الأرض والسماء) (القلب والموت) أي الرواية من ص 104 إلى ص 112، ونقلت القصة بنفس عباراتها وألفاظها مع تغيير يسير في الأسماء، وبعض الألفاظ استدعتها طبيعة الرواية!!!9- جاءت نهاية الرواية مفتعلة ومثالية (غير واقعية) مما أَضَرَّ بالرواية ولم يخدمها.هذا فيما يخص الكاتبة نفسها والرواية، أما فيما يخص رابطة الأدب الإسلامي التي تبنت الرواية فلي ثلاث ملاحظات:الأولى: وهي سؤال، هل العمل الإبداعي يُعَبِّرُ عن كاتبه بالدرجة الأولى، أم عن ناشره؟ فإن كان يعبر عن كاتبه، فقد كنت أفضل أن تبقى الرواية بنفس المستوى التي كتبت به دون تدخل الرابطة من تصحيح أو تعديل، إلا ما كان خطأ فاحشاً،حتى يحكم النقاد – فيما بعد – على مستوى التقدم التي تحرزه الكاتبة في إنتاجها التالي.الثانية: الفصل الأخير كان عنوانه (أين أموت سُدى) والذي يُظن أنه عنوان الكاتبة، والذي أعطته لروايتها أيضاً، لكنه جرى تعديل على عنوان الرواية ليصبح (لن أموت سُدى) فما المبرر؟!.الثالثة: أن كثرة عناوين الفصول غير المبررة أدت إلى إفراد كل فصل بعنوان مستقل، فجاء التنسيق (المونتاج) عند الطباعة بجعل كل عنوان في رأس صفحة جديدة، وبالتالي نتج عنه أن ينتهي الفصل في بداية صفحة، مما أدى إلى ترك فراغات كبيرة جداً، كَبَّرت الرواية، وكأن تكبير الرواية كان مقصوداً لذاته. ولو أنه حُذِفَتْ بعض هذه العناوين أو اخْتُصِرَتْ لذهب هذا العيب. وليتهم – إذ لم يفعلوا – طبعوها على قياس (14 × 21) بدلاً من (17 × 24) الذي يناسب الروايات الطويلة جداً.وعلى كلٍ، فهذه الملاحظات لا تُنقص من قدر الرواية، ولا جهد رابطة الأدب الإسلامي، وإن كنا نتمنى لو خلت من العيوب التي ذكرناها، ويغفر للكاتبة أنها أول رواية لها، وللبدايات عثرات وهنات. والحال كذلك مع رابطة الأدب الإسلامي العالمية، فهذه الرواية نتاج أول مسابقة تجريها الرابطة، ولذا ينظر إليها – أي الرواية – من خلال هذا المنظار، حتى تُقَدَّرَ على ضوئه دون تفريط ولا إفراط.الإثراء الفكري في رواية"لن أموت سدى"الفائزة بجائزة رابطة الأدب الإسلامي العالميةالصراع بين الخير والشر صراع أزلي، منذ خلق الله آدم فرصده الشيطان وأقسم ليغوينه وذريته، ويتسلح الشر بكل وسيلة ممكنة لتحقيق مآربه بغض النظر عن أخلاقية هذه الوسيلة.وفي رواية"لن أموت سدى"للكاتبة السيدة جهاد الرجبي، والتي فازت بالجائزة الأولى في مسابقة رابطة الأدب الإسلامي العالمية، يتبدى هذا الصراع بشكل واضح.فوائل الشاب الفلسطيني المتخرج من الجامعة، لا يجد عملاً بعد تخرجه فيعمل بائعاً للسمك ليعول أسرته المكونة من أمه المريضة، وأخيه الأصغر (عليّ)، وأخته الصغرى (حياة)... أما جده فقد مات، وافتقده وائل كثيراً، ولحق به أبوه على أثر اعتقال أخيه الأكبر.لا يجد أبناء غزة من سبيل لرد غطرسة آلة الحرب الإسرائيلية إلا التصدي لها بأجسادهم وأرواحهم، وليس لهم سلاح إلا الإيمان بالله، ثم الحجارة. ويشتعل أوار الانتفاضة أواخر سنة 1987م على أثر دعس سيارة عسكرية إسرائيلية لعدد من شباب القطاع، ويشارك الجميع في هذه الانتفاضة.يُعتقل وائل، ويُعذب مع مجموعة كبيرة من الشباب، وتحت التعذيب يضعف عدد من رفاقه، وتحت ضغوط قاسية يقبل بعضهم (سالم أبو الفتوح) التعامل مع اليهود، ويتعاون معهم في تجنيد الشباب، ويحاول التأثير على (وائل) بعد أن يحشره اليهود في زاوية اليأس من نجاح المقاومة، وعدم جدوى الانتفاضة.في هذه الأثناء يلتقي بسائحة أمريكية شابة (ولعلها يهودية الأصل) تلتقط له صورة، ثم تقع مغشياً عليها على أثر محاولتها إنقاذ طفلين شاركا في قذف الحجارة لمّا داهمتهما إحدى سيارات الجيش الإسرائيلي. فيحملها (وائل) بين ذراعيه ليوصلها إلى المستشفى، وعندما تفيق من إغمائها تعلم (جين) ما حدث لها، فتحب (وائل) وتتعلق به، وتعده بعلاج قلبه المريض في محاولة لإغرائه بترك غزة، والذهاب معها ليعمل عند والدها في أمريكا، بعيداً عن الصراع مع اليهود، وما يسببه من مآسي.تحت إلحاح وضغوط (سالم أبو الفتوح) العميل المتعاون مع اليهود، وإلحاح الحبيبة (جين)، وواقع الحال المرة، يقرر (وائل) الهجرة إلى أمريكا. يحاول أهله ثنيه عن ذلك، معتبرين الهجرة هروباً من تحمل المسؤولية، وهو يحاول إقناعهم أنها فترة لتكوين المال ومن ثم أخذ أسرته إلى مكان أكثر أمناً، فيعتبرون هذا التفكير – أو السلوك – خيانة للقضية، فيبرر ذلك أنها فترة زمنية لن تطول، ثم يرجع إلى قتال اليهود في حالة أكثر قوة وصلابة!!.كل هذه الحجج لا تقنع أهله، ويرى منهم إعراضاً وصدوداً، ويقرر السفر، ويساعده المتعاونون مع اليهود على السفر، ويلتقي في الطائرة بالدكتورة (هيلين جيرن) امرأة عجوز مثقفة تدرس اللغات الشرقية، وتدور بينهما حوارات تتجلى فيها التباينات بين عقليتين ومنحيين للتفكير، وربما كانت هذه الحوارات أقوى ما في الرواية.يصل إلى مطار المدينة التي تقيم فيها (جين)، لكنه يشاهد على شاشة التلفاز المعلق في صالة القادمين (فلماً) عن الانتفاضة ضمن نشرة الأخبار، ويشاهد الجنود الإسرائيليين وهم يحطمون عظام فتى من قطاع غزة، يقترب من الصورة، فإذا هذا الفتى أخوه الأصغر (عليّ)...
يثور ثورة عارمة، ويصرخ وهو يركض باتجاه التلفاز المعلق، ثم يسقط مغشياً عليه، لاسيما وقلبه ضعيف مريض لا يتحمل هذا الانفعال.يفيق من إغمائه ليجد نفسه في أحد المستشفيات، وفي غرفة العناية المركزة تحيطه (جين) بحبها وحنانها، وتتوسل إليه ألا يبذل جهداً زائداً، يستغل فترة خروجها من الغرفة، فيرتدي ملابسه، ويهرب من المستشفى عائداً إلى المطار، ليستقل أول طائرة تعيده إلى الأراضي المحتلة، ليشارك أهله في التصدي للعدو، بعدما تبين له خطأ قراره بالسفر للبحث عن مكان آخر، إلاّ أنه يموت وهو في قاعة الانتظار قُبَيْلَ إقلاع الطائرة.ورغم أن الرواية تتأرجح بين الواقعية والعاطفية (الرومانسية) إلا أنها خُتمت خاتمة مثالية فيها شيء من الافتعال غير المحمود، بَيْدَ أَنَّ أهم ما في الرواية الأفكار الخاصة التي طرحتها الكاتبة عبر السرد الحكائي، وهذا ما يعنينا بالدرجة الأولى، والرواية التي تخلو من فكر تظل حكاية طويلة للتسلية، ولا تصعد إلى درجة الرواية الفاعلة. وقد أَثْرت الكاتبة روايتها بمجموعة من الأفكار نقتطف منها ما يلي:1- ملكية الأرض:هل الأرض (الوطن) لمن يحبها، ويكتفي من الحب بتعليق صورتها (الخريطة)، وتقبيل هذه الصورة؟ أم لمن يبذل فيها الروح، والغالي والنفيس حتى تُستفرغ له وحده؟وترى السيدة رجبي أن الوطن والأرض لمن يقيم عليها ويدوسها بقدميه، لا للغائبُ عنها بحثاً عن المال، أو الأمن والاطمئنان في غيرها، مكتفياً بالحب وتعلق القلب [ الرواية ص 11 ] وكل الذي يتركون الأرض – تحت أية ذريعة – لا يخدمون القضية، فالقضية زرع الأجساد في تربتها، لا بالركض هنا وهناك للبحث عنها، في ردهات الفنادق، وملفات المباحثات، ومظآن جمع الأموال.ولقد أدرك اليهود هذه الحقيقة، فكان أول شيء فعلوه، أن ربطوا اليهودي المهاجر من أصقاع الدنيا بالأرض، بتثبيته في مستعمرة (مستوطنة) يحرث ويزرع ويقلع ويحصد، حتى يرتبط القلب بالأرض، وينغرز الجسد فيها، فلماذا يفعل بعض الفلسطينيين عكس ما هو مطلوب تحت ذرائع شتى؟2- مساعدة اليهود:اليهود وحدهم لا يستطيعون اختراق الحاجز الفلسطيني. ولذا يتوسلون لذلك باستعمال عملاء من الداخل، والفلسطيني الذي يتعامل مع اليهود ضد وطنه وناسه خائن بكل المقاييس. والذي يُفَرِّغُ لهم الأرض، ويخلي لهم الساحة بالهجرة خارج الوطن – تحت أية ذريعة – لا يقل خيانة عن الأول، ذلك أنه مَهَّدَ لهم الطريق، ويَسَّرَ سُبل الإقامة، بعد أن كان شوكة في حلوقهم، ونصلة في خواصرهم، وصخرة تعترض طريقهم [الرواية ص 21].3- الصراع مع اليهود عقائدي:مخطئ من يظن أن القضية قضية أرض سُلِبَتْ [الرواية ص 60] وإنما الصراع صراع عقيدتين وعقليتين، عقيدة ترى أصحابها متميزين بشهادة رب العالمين (شعب الله المختار) وعقيدة يرى أصحابها أن الناس كلهم من بني آدم، والناس سواسية، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، لأن الناس لآدم وآدم من تراب.هذا الاختلاف العقائدي طبع الناس بطابعه، فنتج عنه سلوكيات، فأما اليهود، فقد نظروا لغير اليهودي أنه من طبقة أخرى تقل عن درجة الحيوان، وقد خلقهم الله لخدمة بني إسرائيل (راجع كتاب جذور البلاء لعبد الله التل). والمسلمون نظروا لهم نظرة احترام، لأنهم أتباع موسى (u) وأهل كتاب. وخلال سنوات طويلة ممتدة عبر التاريخ، حاول المسلمون إثبات حُسن النية، فلم يجدوا منهم إلا الصدود والنُّكْرَان والخيانة والغطرسة، فصرح اللبن عن الزبد، واتضح الطريق الأزلي إلى قيام الساعة، عداءٌ أبديٌّ، وحذرٌ شديدٌ، حتى تنتهي الدنيا، حيث لا أمل في الإصلاح (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [المائدة: 82]، (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) [المائدة: 13]، (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [آل عمران: 75]، وغيرها من الآيات القاطعات، التي لا تُبدلها ولا تُلغي حقيقتها الأزلية معاهدات ولا اتفاقات.4- السلام مع اليهود:ولا يتحقق السلام مع اليهود، وتُبنى صداقات مع أفرادهم إلا في حالة واحدة (وعلى حذر أيضاً) هي أن يكونوا ضُعفاء، فيعيشوا بيننا أهل ذمة، ما راعوا شروط هذا العهد، ولم ينقضوا شرطاً من شروطه – على ما عُرِفَ عنهم من نقض العهود – تقول السيدة رجبي على لسان الجد:"قد نصبح يوماً أصدقاء، ولكن ليس هنا، ليس في فلسطين يا وائل، وليس في زمن يكون ميزان القوة فيه بأيديهم"[ الرواية ص 72 ].بَيْدَ أَنَّ الحقيقة المرة، أن اليهود شعب متغطرس، تمده التوراة والتلمود بعقيدة تبرر له هذه الغطرسة، فهو إن كان ضعيفاً كان منافقاً منعزلاً في حارات لا يدخلها إلا هم، فلا يذوبون في أي مجتمع، ويتحينون الفرص السانحة لخيانة هذا المجتمع والاستفادة منه، والإثراء على حسابه. وإن كانوا أقوياء، تصلبوا وتغطرسوا وسفكوا الدماء وانتهكوا الأعراض.ولن يتخلى اليهود عن هاتين الحالتين (العزلة عند الضعف، والجبروت عند القوة) والذوبان في المجتمعات التي يعيشون فيها إلا إذا تخلوا عن توراتهم وتلمودهم – أي المصدر الذي يمدهم بهذه النزعة الفوقية – ولذا رأينا بعض من اعتنق الإسلام مخلصاً لله دينه، يعيش عيشة سوية مثل الصحابي الجليل عبد الله ابن سلام (t) في القديم، واليهودي النمساوي الذي أصبح اسمه (محمد أسد) -رحمه الله- في العصر الحديث، وربما غيرها ممن لم تصلنا أخبارهم.أما من اعتنق الإسلام في الظاهر، ليكيد للمسلمين من الداخل وفي الخفاء مثل (عبدالله بن سبأ) أيام الإمام علي بن أبي طالب (t)، ويهود الدونمة في تركيا الذين أفرزوا كمال أتاتورك، في العصر الحديث، فقد كانوا بلاءً على الإسلام والمسلمين.5- الانتفاضة عمل جماعي:ليس المنتفضين هو ذلك الشاب أو الصبي أو الطفل الذي يقذف اليهود بحجر، بل كل من يفعل فعلاً يساعد هؤلاء في عملهم فهو منتفض أيضاً، ومشارك في الانتفاضة، وعامل عملاً إيجابياً فيها (الانتفاضة كلمة، رصاصة، حجر، نظرة حاقدة، وأمل واثق بالنصر، اختر ما تشاء وقاوم) [ الرواية ص 82 ] فليس هناك بعد ذلك عذر لمتقاعس، فالمرأة التي تصنع الخبز وتعطيه لأطفال الحجارة، وأهل البيت الذين يساعدون الشاب على الهروب من رصاصة تلاحقه، بتغيير ملابسه، أو تيسير قفزه من النافذة إلى الشارع الآخر، أو تضميد جرح المجروح، أو إهداء الطعام المفيد لشاب مصاب في الحارة في حاجة لتغذية من نوع خاص، أو تفقد أهل المعتقل، أو عدم التجاوب مع رغبات اليهود، أو تقديم المال، أو المشاركة في تشييع جنازة شهيد، أو الهتاف ضد المحتلين، أو قتل المتعاونين، أو... أو...
كلها أعمال إيجابية تصب في مجرى المقاومة، والتي هي لب الانتفاضة وعمودها الفقري.فكل من فعل شيئاً من ذلك فهو مشارك إيجابي في الانتفاضة، أما المتفرجون، الباكون المتألمون أمام مشاهد الانتفاضة في التلفاز، والمكُتفون بالتأوهات الحَرَّى، والحسرة البليدة، فهؤلاء سلبيون، وليسوا من أهل الانتفاضة.6- أصدقاء العرب:الدين واللغة والحضارة، جذبت الكثيرين، وربما وصلت الحال ببعضهم إلى إيثار هذه الأمة على ما سواها، باعتناق الإسلام، أو الزواج من المسلمين أو العرب، وفي الذهن هذه الصورة المضيئة لابن هذه المنطقة التي حباها الله بكل شيء، من الدين القويم، إلى الترابط الإنساني، والتوسط العالمي، إلى الغنى المادي.بَيْدَ أَنَّ فئة من أبناء هذه الأمة – وما أكثرهم – لم يعرفوا من هذه المقومات إلا أسماؤها فقط، فكان لباسهم لباس العرب والمسلمين، وقلوبهم قلوب الضائعين الضالين في أي ملة أو مجتمع، فرسموا صورة سيئة عن الإسلام والمسلمين، فَنَفَّروا الأصدقاء، وانقلب المحبون إلى كارهين مبغضين، ولا زالت كلمة ذلك الألماني المسلم الذي جاء إلى بلاد العرب والمسلمين لدراسة اللغة والدين، فَصُدِمَ في الناس، تَرِنُّ في الأذن، وتبعث الحسرة والألم، حيث قال: الحمد لله أنني عرفت الإسلام قبل أن أعرف المسلمين.وهذا الموقف يذكرنا بعجزنا في كسب قلوب الأمم الأخرى لقضيتنا، وإذا كسبنا بعضاً منها لا نستطيع الاحتفاظ بها، بينما العدو خطط ونَفَّذَ حتى استطاع استقطاب قلوب الآخرين ووقَّفها معه، فكانت أية دعوى يُطلقها اليهود – بعد ذلك – تجد صدىً وتصديقاً ومؤازرة من الآخرين، بينما عَجِزْنَا نحن بكل دولنا وسفاراتنا وإعلامنا وأموالنا عن تكوين رأي عالمي مساند لنا (هكذا نحن دائماً يا سيدتي لا نحسن كسب أي شيء... حتى الأصدقاء) [ الرواية ص 95 ].7- الذوبان الاجتماعي:يظن كثير من الناس، أنه إذا هاجر خارج مجتمعه لتحقيق هدف ما، يستطيع أن يحافظ على نفسه نقياً في الفكر والسلوك. وما درى أن المخالطة تؤدي - مع طول المدة – إلى تقليد السواد الأعظم من الناس المحيطين به، وبالتالي التنازل التدريجي عن كثير من الخصائص التي كان يتميز بها، ليكتشف بعد فترة أنه لم يعد هو، بل أصبح مسخاً جديداً، لا يحمل ميزات القوة في الشخصية الأولى، ولا ميزات القوة في الشخصية الثانية، فجاء كائناً مشوهاً نتيجة تزاوج غير متكافئ بين عقليتين منتميتين إلى حضارتين مختلفتين، أو دينين متناقضين[قصة القزم والمارد ص 96 من الرواية].8- سفسطة النساء العربياتالإسلام أعطى المرأة من المكانة والحقوق ما لم يعطها دين لأتباعه من الناس، ولا مكانة تحلم بها امرأة في أي مكان من العالم، ولذا نجد الواعيات من نساء العالم يدركن هذا، ويغبطن المرأة المسلمة العربية على مكانتها تلك.بينما نجد في حياتنا نحن، المرأة المسلمة العربية – ولنقل بعضهن – تتطلع بشوق إلى تقليد المرأة الغربية، وربما ركبت بعضهن رؤوسهن مفتونات بحرية التفلت عند نساء الغرب، فأردن تقليدهن، والوصول إلى ما وصلن إليه. فنجد زعيقاً وصياحاً للمطالبة بحريات مزعومة، أو مساواة غير طبيعية أو إنسانية، فكأن الواحدة منهن تريد أن تهبط من علياء الاحترام الذي أحلها الإسلام فيه إلى واقع الركض في الحافلات، والبحث عن عمل، ومزاحمة الرجال، وترك الأطفال للخادمات والحاضنات، يحصدون العقد النفسية، وفي النهاية ستصل إلى ما وصلت إليه المرأة الغربية، من تَحَلُّلِ الأسرة، وكثرة الجرائم، وضياع الأبناء، واستغلالها استغلالاً جسدياً ونفسياً بصورة بشعة، في عمليات الكسب المادي، واللهاث العصري وراء لقمة عيش مغموسة في ذُلٍّ حقيقي، ومعاناة صادقة، مغطاة بشيء من غرور تحقيق الذات، أو الخروج من تحت عباءة الرجل، أو مظلة الأسرة (لا تقولي: أنك غير راضية عن المكاسب التي حققتها المرأة في الغرب، على الأقل، لا تفعلي ذلك في بلد عربي، حتى لا يتهمونك بالتخلف، فالنساء يبحثن عندنا عن المساواة، ولا يمكن لأي شيء أن يوقفهن عن العراك في شوارع المعارضة النسائية...
الإسلام أعطى المرأة عندكم أكثر مما تستحق [الرواية ص 35].نكتفي بهذا القدر من الأفكار الثَّرَّةِ في الرواية، حتى لا نثقل المقالة طولاً، ولا نحرم القارئ متعة اكتشاف هذا الينبوع الثَّرِّ وحده، فإن لدهشة الاكتشاف طعمها الخاص المميز.أفكار معاصرة تطرحها رواية"لن أموت سُدى"الفائزة بالجائزة الأولى في مسابقة رابطة الأدب الإسلامي العالميةأجرت رابطة الأدب الإسلامي العالمية مسابقة في الرواية منذ سنتين، وفازت بالجائزة الأولى رواية"لن أموت سُدى"للكاتبة السيدة/جهاد الرجبي. والرواية تقع في مئة وعشرين صفحة من القطع الكبير (17 × 24) وصدرت عن دار البشير بعمان – الأردن، ضمن منشورات رابطة الأدب الإسلامي العالمية، حيث تحمل الرقم المتسلسل سبعة.الرواية تتحدث عن الانتفاضة الفلسطينية، ومعاناة الناس من الاحتلال اليهودي، وتدور أحداثها في مدينة غزة، حيث الشخصية الرئيسية"وائل"الشاب الجامعي الذي يقاوم الاحتلال، فيتعرض للاعتقال والتعذيب، ومن ثم الضغوط النفسية لإقناعه بعدم جدوى الانتفاضة والمقاومة، ويُسلط عليه اليهودُ بعض زملائه المتعاونين معهم. ويلتقي بالسائحة الأمريكية الشابة (جين) وتقع في حبه، وتقنعه بترك القطاع ليعيش معها في أمريكا، وليعمل عند والدها هناك. كل الأحداث تصب في مجرى واحد تؤدي إلى اقتناعه بالسفر وترك القطاع، والتخلي عن الانتفاضة تحت زعم التقاط الأنفاس، وتكوين المال، والعودة للقتال!!. يرفض هذا المنطق أهله وأصدقاؤه المخلصون، ويعتبرون ذلك خيانة للوطن والقضية والمبادئ، وهروباً من المعركة والمواجهة. في الطائرة المسافرة إلى أمريكا يلتقي بالدكتورة (هيلين جيرن)، امرأة عجوز تدرس اللغات الشرقية، وكمتجاورين في الطائرة يزجيان الوقت بالحديث والحوار، يظهر لنا الحوار شخصية الدكتورة هيلين، أنها امرأة كبيرة، عالمة، مجربة، تحب العرب والمسلمين، وعندها إيمان بحتمية النصر لهم، لدرجة أنها دفعت ابنتها لتتزوج من عربي، وهي من داخلها مؤمنة مسلمة وإن لم تعلن ذلك صراحة. بينما يظهر (وائل) على أنه شاب فج السلوك والتصرف، محدود الفهم، مع شيء من العدوانية والاستهتار بالآخرين – لاسيما الغربيين منهم – من باب الاعتزاز بالعرب، لكن بطريقة تقنع القارئ بسطحية العربي في مقابل عمق الشخصية الغربية، حيث يعتمد العربي في مناقشته على العواطف الجياشة والصوت العالي، بينما يعتمد الغربي على العلم والواقع والتفكير المنظم، وهذا السلوك أو التفكير من وائل يجعله يسيء للعرب والمسلمين والإسلام حتى مع الذين يحبون العرب والمسلمين، ويتعاطفون مع حضارتهم.يصل وائل إلى المطار في أمريكا، لكنه يشاهد صورة تلفزيونية عن الانتفاضة في نشرة الأخبار، وجنود اليهود يحطمون ذراع أخيه (عليّ) فيصرخ يريد العودة، ولكنه يُغمى عليه، ويُنقل إلى المستشفى برعاية حبيبته (جين). يستغل فرصةً سنحت له فيهرب من المستشفى عائداً إلى المطار، ليستقل أول طائرة تقله إلى الأراضي المحتلة ومن ثم إلى غزة، إلا أنه يموت في صالة الانتظار قبل إقلاع الطائرة.هذه مجمل أحداث الرواية، بَيْدَ أَنَّ الرواية ليست أحداثاً ممتعة أو مؤلمة فحسب، ولكنها ميدان واسع لطرح الأفكار وتوصيلها إلى القراء، وهو الشق الثاني الذي يقوم عليه البناء الروائي (الإمتاع / الإفادة) وقد طرحت السيدة الرجبي أفكاراً كثيرة، سنقتصر – في هذه المقالة – على عرض بعضها، وإن كانت لا تُغني عن قراءة الرواية، واستجلاء أفكارها كلها.أولاً: الوطن:ما هو الوطن؟ هل هو قطعة الأرض الممتدة التي وُلِدَ عليها الآباءُ والأجدادُ؟
أم مسقط رأس الإنسان نفسه، ولو كانت بلاد الآباء والأجداد بعيدة؟ أم أنه المكان الذي يجد فيه المرء عيشه بأمن واطمئنان وعزة نفس؟هذه الأسئلة الثلاثة تشكل الإشكالية الأزلية في تعريف الوطن، ولن تحسم القضية حتى نهاية حياة الدنيا، ذلك أن لكل إنسان تصوراً معيناً تمليه عليه وقائع حياته التي كونت قناعته، بغض النظر عن الأحلام والحنين.والخط الذي تبنته الرواية في تعريف الوطن، هو الخط الأقل مشاغبة، والأقرب للمهادنة، لأنه يوافق عواطف الناس في تلك المرحلة، وإن كان الأمر مقنعاً في حالة فلسطين، فليس كذلك في حالات أخرى يعيش فيها المرء مقهوراً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً من أهله وناسه.وكما قلت: هي اتجاهات ثلاثة قديمة أزلية لا متناهلة، ما بقى إنسان على وجه الأرض، وقد قيل في تبرير كل اتجاه شعر نحفظه منذ الطفولة، لا أرى داعياً لإيراده هنا لأنه معلوم لغالبية المثقفين والقراء.ثانياً: موقف الكنيسة من المرأة:من الأمور التي يركز عليها العلمانيون عموماً، والغربيون خصوصاً في مهاجمتهم للإسلام، موضوع المرأة، إذا يعتبرون هذا الموضوع مدخلاً مهماً لضرب الإسلام، زاعمين أن الإسلام في نصوصه وتطبيقاته كان وما يزال يستعبد المرأة، خانقاً لحريتها، مهيناً لكرامتها. فيثيرون عدة قضايا تتعلق بالمرأة، كالميراث، وتعدد الزوجات، وشهادتها، ولباسها، والقوامة عليها... إلخ هذه الأمور، منطلقين في مواقفهم هذه من الإسلام من قاعدة تقوم على ركائز: الحقد ضد الإسلام، الجهل به، سوء سلوك بعض المسلمين، بريق خُلَّب لحرية مزعومة أعطوها للمرأة تمظهرت في عُريها وانفلاتها.ولو تخلى هؤلاء عن حقدهم، وقَدِموا للإسلام دارسين بوعي وتجرد، دون النظر لواقع المسلمين الآن، منصفين الحقيقة، لاكتشفوا عظمة الإسلام، وتقديره للمرأة تقديراً تغبطها عليه نساء الغرب المنصفات – على ما عندنا الآن من تجاوز – ورغم ذلك فهو أحسن مما عندهم.فالكنيسة عندهم منذ القدم تعتبر المرأة إنساناً نجساً، تخلو من الروح الناجية من عذاب جهنم، ما عدا أم المسيح [ الرواية ص 40 – 41 ] – وانظر أيضاً كتاب "المرأة بين الفقه والقانون" للدكتور السباعي رحمه الله ص 20 – وعندما أعطوها شيئاً من الحرية، كانت فقط في اللباس، واقتناص اللذة. ورغم ذلك فما زالت المرأة هناك مهانة، يُعتدى عليها، وتُغْتَصب بكثرة، وتُضرب بقسوة، لدرجة الهروب من زوجها، ومن الأماكن التي قد يجدها فيها، وفضائح رغبة بعض النساء في العيش مع مثيلة لها قانوناً، وتبني طفل يخصهما الاثنتين معاً، تزكم الأنوف، وتثير المجالس (البرلمانية) والتشريعية والمجامع العلمية، والدراسات الأخلاقية. ولذلك هم يفرحون إذا وجدوا امرأة – كانت مسلمة – تلحد وتنتقص الإسلام والقرآن كما فعلت (تسليمة نسرين) البنغالية، فيحتضنونها، ويروجون لأقولها، ويمنحونها شهادات التقدير، والجوائز تحت مسميات كثيرة.وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا تتلاعب الكنيسة – وهي المرجع الديني عندهم – بالعقيدة والتشريعات، فتبيح الطلاق حيناً، وتحرمه أحياناً، وتبيح التعدد لفئة، وتحرمه على فئة أخرى، كما تفعل في أفريقيا؟ وأسئلة أخرى كثيرة [ الرواية ص 41 ].ثالثاً: اختلاف المفاهيم حول حرية المرأة:ويتبع النقطة السابقة نظرة العرب والمسلمين لحرية المرأة المعارضة لما عند الغربيين تماماً، فإذا كان الغربيون يعتبرون المراقصة مع الرجال، والأحضان، والمعانقة، والقبلات، والسهر، والسفر منفردة، والخروج والدخول بلا ضابط... كل ذلك من حرية المرأة التي يتباهون بها أمامنا، أو يُدِلُّون بها علينا، فالمسلمون يعتبرون ذلك من الانفلات والسفه والحيوانية ص 103.
والحكم على ذلك ليس الآن فقط، فيما ظهر من أقوال المنصفين والمنصفات، ولكن في الواقع المر الذي انزلقوا إليه، من كثرة جرائم الاغتصاب، والعلاقات الأثنية الشاذة، وتشريد الأطفال، وكثرة الزنى، وتفشي الطلاق، وكثرة العشيقات، وتنوع الأمراض، وتناقص المواليد.ومن هنا نقول: إن شروط جواز الزواج من الكتابيات الذي أباحه الإسلام بنص القرآن، لم تعد متوفرة الآن للمسلم في الغرب، لفقدان أهم شرط فيها وهو الإحصان (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) [المائدة: 5]، فعلى المسلمين التحوط والحذر من الوقوع في المعصية (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [النور: 63].رابعاً: تفريغ مفهوم العبادة عند المسلمين:جعل الله العبادة في الإسلام مدارج للرقي الإنساني نحو الكمال، فهي تُزكي النفس، وتخلصها من شوائبها. فإذا كانت الصلاة صلة بين العبد وربه، فهي كذلك حاجز يمنع العبد من ارتكاب المعاصي، ابتداءً من نظرة عابرة تسجل عليه، ومروراً بكل الموبقات، وانتهاءً بأكبر الكبائر. فالمسلم المحافظ على صلاته لا يغلبه الشيطان، وبالتالي لا يقارف شيئاً من هذه القاذورات.والزكاة عبادة تُخَلِّصُ النفس من رذيلة الشُّحَّ، والصيام عبادة تُوَطِّنُ النفسَ على الاستقامة، وتقوي فضيلة المراقبة، ومراعاة التقوى. والحج عبادة فيها جماع ما في العبادات السابقة، وزيادة عليها تعود تحمل المشاق في سبيل غاية شريفة.ولو حرص المسلم على تأدية هذه العبادات على وجهها الصحيح، لانعكس ذلك على سلوكه، ومِنْ ثَمَّ حياته، إنسانية، ورحمة، ورقياً، ومجداً. لكن المسلمين يؤدون هذه العبادات بآلية مطلقة، حفظوا لها الرسوم، وفرغوها من المضمون ص 49.خامساً: عظمة الإسلام التي يجهلها المسلمون:ومن منطق الغفلة التي تشيعها الطمأنينة لما يملك المرء، والاقتراب الذي يحجب الرؤية، والتَّعَوُّدِ الذي يقضي على الدهشة، كان حال المسلمين مع الإسلام. دين عظيم لا يعرفون قيمته، لأنهم وُلِدُوا وشبوا عليه. وعلم بعض الواعين من العلماء وأهل الكفر الغربيين قيمته، وعرفوا طاقاته الكامنة، فهم إما مُغْبِطَاً للمسلمين على دينهم، أو حاقداً عليهم من أجله. فالواعون يقدرونه ويحترمونه ويبشرون به: القائد الأوحد للمجتمعات كافة، بل للكرة الأرضية كلها، والحاقدون خائفون منه، يضعون في طريقه كل العراقيل. الفئة الواعية الأولى تنظر للدين الإسلامي بإكبار ص 42 بينما المسلمون لا يعرفون قيمة هذه الجوهرة الغالية. والحاقدون يعادونه لجهلهم به، أو خوفهم منه، يدعمهم في هذا أنهم ينظرون إليه من خلال نظرتهم للمسلمين ص 49. ولما كان المسلمون إحدى ركائز تشويه الإسلام في العصر الحديث ص 98 فالواجب توضيح الإسلام وشرحه من خلال نصوصه وقيمه المجردة، ثُمَّ من خلال النماذج المضيئة التي أمكنها تطبيقه، لا من خلال السلوكيات الشائهة لكثير من مسلمي هذا العصر.سادساً: مفهوما الحق والخيانة:اغتصب اليهود فلسطين من أهلها بكل الوسائل الماكرة، وكل مقاييس الاغتصاب، فهم ظلمة معتدون. يا تُرى، إذا أخذ الفلسطيني أو العربي شيئاً من هؤلاء (اليهود المقيمين على الأرض المغتصبة) هل عليه إعادته، على اعتبار أنه مال اليهودي أو حقه؟ أم يعتبره العربي جزءاً من ماله وحقه استرده من غاصبه؟ وهذه إشكالية وقع فيها الناس بعد حرب 1967م، وكانت محل أسئلتهم، لا سيما الصالحون منهم، بعدما اختلطوا باليهود عُمَّالاً في المصانع والمزارع و (ورش) البناء، والنجارة، وتصليح السيارات، والمخابز، والمطاعم وغيرها. هل ينطبق على هذه الحالة حديث رسول الله (r):"ولا تخن من خانك"؟
أم تنطبق عليه واقعة ودوافع الخروج إلى بدر، ومن ثم المعركة المعروفة؟والروائية السيدة جهاد الرجبي تبنت الخط الثاني، فما يأخذه المسلم أو الفلسطيني أو العربي من يهود فلسطين، إنما هو استرداد جزء يسير من حقوقهم. فلا يجب إعادته إلى اليهود، حتى لو كان زراً صغيراً أخذه طفل عربي من طفل يهودي (الرواية ص 75).وهنا تبرز الحقيقة الغائبة عن أذهان الكثيرين، المعاملة مع اليهود تأخذ اتجاهين، يرتكز كل اتجاه على نقطة ارتكاز رئيسية تمثل حقيقة البداية في الانطلاق. الأول: التعامل مع اليهود كأهل كتاب مسالمين في مجتمع مسلم، مقرين بالسيادة للمسلمين، وهؤلاء لهم المودة والحماية لقوله تعالى: (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) [الممتحنة: 8]، وقد ورد في السنة والسيرة أن النبي (r) عاد خادمه اليهودي في مرض موته، وأن عبد الله ابن عمر كان يهدي من الشاة التي يذبحها لجاره اليهودي. وعليه، وفي هذه الحالة يحرم أخذ شيء منهم بالإكراه، أو ظلمهم أو اغتصاب أموالهم، لأن لهم ذمة رسول الله (r)، والمؤمنون لا يخفرون ذمة نبيهم، ولليهود حقوق المواطنة في الدولة الواحدة، وحقوق الجار الذمي.الثاني: اليهود الذين اعتدوا واغتصبوا وقتلوا وسفكوا وأخرجوا المسلمين من ديارهم، وظاهروا على إخراجهم، فهؤلاء أعداء، وليس لهم عهد، ولا ذمة، ولا مودة، ولا موالاة، فكل ما يؤخذ من هؤلاء حقٌ اسْتُرِدَّ، وغنيمة من عدو سبقت منه الإساءة، بقي أمر واحد، أن تؤخذ عياناً بياناً عنوة، أم يجوز أيضاً ما أُخذ غفلة وخلسة، وهم الذين يقولون (ﮛﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [آل عمران: 75].؟!هذه بعض الأفكار التي طرحتها السيدة جهاد الرجبي في روايتها"لن أموت سدى"والرواية غنية بالأفكار في مجالات شتى، تستحق مقالة أخرى، أو عدة مقالات.
المراجع
odabasham.net
التصانيف
أدب مجتمع