من كرم الله سبحانه أنه منحنا أوقاتاً، وهيأ لنا مناسبات أعطانا فيها ما لا يعطي في غيرها – وهو الذي لا ينقطع عطاؤه ولا تغيض رحمته ونفحاته – وأتاح فيها سبحانه ما لا يتاح في غيرها. وهي مناسبات من محض الجود، ومن بحر الكرم الممدود. لم نستحقها بشيء قدمناه، فليس لأحد عنده سبحانه أو عليه حق بل هو المتفضل على الدوام. ومن ذا الذي يمكن أن يكون له حق على الملك المعبود الفرد الصمد المقصود..وهي مناسبات كثيرة، من فاته واحدة منها، جاءته الأخرى تسعى ليتدارك ما فاته ويعوض ما ضاع منه.

إنها مناسبات لنفحات المغفرة وتصحيح العلاقة معه سبحانه، وأسواقٌ ومحطات للتزود السهل، وشحن القلب بالمدد النوراني الذي يعين على الإبصار، ويمنح المرء قوة على السير في طريق السعادة الأبدية التي لا يشقى من فاز بها. وذلك هو الفوز الكبير. ومن هذه المناسبات العظيمة عشر ذي الحجة، ويوم عرفة، والحج.1- أما تصحيح العلاقة مع الكريم الرحيم سبحانه فهو أمر في متناول الناس كل الناس على الدوام، وبابه مفتوح لا يغلق إلا بطلوع الشمس من مغربها، أو عند الغرغرة. والصلح معه دوماً ميسور لمن يسره الله عليه، وهو دائماً سبحانه أكرم وأرحم فمن تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً، ومن تقرب إليه ذراعاً تقرب إليه باعاً، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة. ولا مسافة ثمة ولا مشي، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. لكن تجليات هذه المناسبات، ونفحات هذه الأوقات وأنوارها، تبلغ حداً من الإشراق يكشف الطريق للسارين، ويزيح الغشاوة عن الأبصار، فتظهر المعالم والحدود واضحة لا يزيغ عنها إلا هالك، فيسهل على الشارد الضال أن يتوب ويؤوب. فها هو السبيل ممهد مستبين والأبواب مفتوحة واسعة تستوعب حشود الراجعين المنيبين مهما كثروا تسوقهم إلى حظيرة الرضا وتأخذ بهم إلى روضات القرب وأفياء المحبة والأنس. إنها مناسبات للصلح وتصحيح العلاقة مع رب كريم يعلن في كتابه العظيم:) قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً(.2- وهذه المناسبات من بحار السخاء وفيض العطاء الذي لا يحده حد، ولا يستوعبه مقدار، هي فرصة يتزود فيها المؤمن لسفر طويل مديد، ورحلة بعيدة لا رجعة منها.

وفي  هذه الفرصة، يكاد الزاد يصل إليك قبل أن تصل إليه، وتعجب حينما يغدو بسرعة عجيبة بين يديك، وكأنه يسعى نحوك سعياً ويحرص على أن يدركك قبل أن تدركه.زد على ذلك أن مقدار الزاد الذي كان يتطلب بذل الأموال وعمل الأيام وسهر الليالي في مشقة ونصب، يأتيك أضعافه بعمل يسير، إن الثمن الذي كنت تبذله لتنال شيئاً من الأجر والثواب في الأوقات الأخرى، لو بذلت مثله في هذه المناسبات لحظيت بأضعاف ذلك الأجر، وبالقناطير المقنطرة من الثواب، لعظيم بركة هذه الأوقات ونثر العطايا نثراً في هذه المناسبات واستمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتاز بيانه العذب العصور ويقطع الفيافي ليصل إلينا مبيناً هذا المعنى. فعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ما من أيام أفضل عند الله ولا العمل فيهن أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام – يعني أيام العشر- فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير وذكر الله، وإن صيام يوم فيه يُعْدَلُ بصيام سنة، والعمل فيهن يضاعف بسبعمائة ضعف).كلام لا لبس فيه.. العمل فيهن يضاعف بسبعمائة ضعف، فأي ربح يتخلى عنه الغافل وأي خسارة تحيق بالمعرض ويا فوز المقبل العامل المتملق الذي يجمع الزاد، وخير الزاد التقوى، ويستعد للسفر الطويل.3 - أما شحن القلب بالأنوار في هذه المناسبات العطرة فحدث عنه ولا حرج، لكأن شلالات النور وشآبيب الرحمة تنصب انصباباً وتنهمر انهماراً تروي الأرواح وتغمرها بفيضها الحلو المستعذب، والسعيد السعيد من كان يقظاً منتبهاً يغسل القلب من الران ويشحنه بالنور والعرفان.إن للسيارة مدخرة يمدها المولد بالطاقة فإذا توقف المولد عن شحنها وإمدادها لم تستطع أن تقوم بعملها وعجزت عن أداء واجباتها.وإن القلوب لتصدأ، وإن القلوب ليصيبها ما يصيب المدخرة من فراغ ونضوب يستدعي تداركها بنور الأعمال الصالحات، ومدد الخيرات والطاعات والمبرات، ليقود القلب المسيطر رعيته إلى الكمالات ويسير بها في طريق السعادة والنجاة.وأية أويقات أعظم لشحن القلب من هذه الأويقات. أويقات عشر ذي الحجة وساعاته المباركة، وأويقات يوم عرفة وأيام الحج المعلومات.4 - وهذه المناسبات علامة على كل ما مر من محطات للتجدد والتجديد، فالإنسان يبلى أو يخلق، ويود لو عاد جديداً مثلما كان في أول عهده عندما باشر الحياة، وعاين الدنيا ويتمنى لو ألقى أثقاله وتخفف من أحماله فتأتي مناسبات النفحات الإلهية وأسواق التجارة الربانية تمنح المرء الفرصة لتحقيق الرغبات والأماني العذاب فيجدد المرء فيها ذاته ويبدأ حياته غضاً طرياً، خفيفاً نشيطاً كأنما برز إلى الدنيا الساعة. قال صلى الله عليه وسلم:(من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه).وهنيئاً لمن يقتنص هذه الفرصة السخية الندية من الرب العظيم الكريم.وإليك أخي المسلم مجموعة من النصوص المباركة التي بينت فضل العشر ويوم عرفة والحج، لنعرف عظيم فضل الله علينا فيها، ونبادر إلى التسوق من أسواق الجود في هذه الأيام المباركات قال تعالى:)والفجر وليال عشر والشفع والوتر(.وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام – يعني أيام العشر - قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل –وفي رواية إلا رجلاً- خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء" رواه البخاري وغيره.وفي رواية الطبراني:"ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إلى الله العمل فيهن من أيام العشر فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير".أرأيت إلى مقدار الثواب وعظمته؟ إنه يعدل الجهاد إلا أن يجود الإنسان بنفسه وماله. ويالها من فرصة لنا وقد حيل بيننا وبين الجهاد وسُدّتْ أمامنا منافذه وسبله، لنغنم أجره من غير أن نخوض غماره، ونلج بحاره. فهل ترانا نغتنم الفرصة أم نغفل عنها ثم نندم عليها.وقد رأيتَ أنّ رواية الطبراني ذكرتْ ألواناً من الطاعات والعمل الصالح. لكن العمل الصالح أوسع من ذلك وأكثر، والمذكور في رواية الطبراني السابقة بعضه. فصلاة النافلة وصيام التطوع وقراءة القرآن والصدقات وصلة الأرحام وزيارة الأقارب وعيادة المرضى ومساعدة المحتاجين والفقراء والذكر بصيغه المختلفة كل ذلك من العمل الصالح.وهذا التنوع يمكّن المسلمَ من الفوز ببعضه إن لم يكن به كله. فلئن حالتْ ظروف المسلم دون نوع من الطاعات، استطاع أن يقوم بغيره، وأن يتناول ما يقدر عليه من أنواعه وألوانه الكثيرة.أما يوم عرفة فذلك يوم له شأن آخر، إنه من أيام الله المشهودة، فما رؤي الشيطان في يوم أذل ولا أخزى منه في يوم عرفة – إلا ما كان يوم بدر- وذلك لعظيم عفو الله تعالى ومغفرته لعباده من كانوا على عرفات ومن لم يكونوا عليها من المؤمنين المقبلين عليه الواقفين ببابه الملازمين لأعتابه الراجين رحمته وثوابه.وهذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين أجر صوم يوم عرفة لغير الحاج، عن أبي قتادة رضي الله عنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة فقال: يكفر السنة الماضية والباقية. رواه مسلم وغيره. ولفظ الترمذي "صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي بعده والسنة التي قبله" وفي هذا المعنى أحاديث شريفة كثيرة تحرض على صيامه وتبين ثوابه فلننو صيامه قبل مجيئه سائلين المولى أن يعيننا على ذلك وعلى كل خير وطاعة.أما الحج فحسبك من شأنه الحديث المشهور الذي سبق ذكره عنه صلى الله عليه وسلم:"من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه".فهل وضح السنا، وبان للعيان سهولة الصلح وتصحيح العلاقة ويسر التزود والشحن وكثرة الأجر على العمل في هذه المناسبات المباركات وأسواق الآخرة العامرة؟فإلى العمل أيها الأحبة وخالف النفس والشيطان واعصهما أيها المسلم فيما يدعوان إليه من راحة وكسل يجران الخسران والندم يوم لا ينفع الندم.وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.


المراجع

odabasham.net

التصانيف

قصص  أدب  مجتمع   الآداب   قصة