من فقه الدعاء مواقف إيمانية
(1)
يقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أنا
لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل
همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه).
وهذا فهم عميق أصيل، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو
على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم؛ لأنهم ينافسوه في تجارة، أو لأن رزقهم أوسع
منه، وكل دعاء من هذا القبيل، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على
الآخرين.
والدعاء
مخ العبادة، وقمة الإيمان، وسرّ المناجاة بين العبد
وربه، والدعاء سهم من سهام الله، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة
إلى ربها، راغبة فيما عنده، لم يكن لها دون عرش الله مكان.
جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل، بعد أن أجهده
السعي والطواف على الرعية، والنظر في مصالح المسلمين، ثم اتجه إلى الله وقال:
(اللهم
قد كبرت سني، ووهنت قوتي، وفشت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون،
واكتب لي الشهادة في سبيلك، والموت في بلد رسولك).
انظر
إلى هذا الدعاء، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة
من شهوات الدنيا في هذا الدعاء، إنها الهمم العالية، والنفوس الكبيرة، لا تتعلق
أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب،
ويخطب وده الجميع، حتى قال فيه القائل:
يا من رأى عمرًا تكسوه iiبردته
يهتز كسرى على كرسيه فـرقًا |
|
والـزيت أدم له والكوخ iiمأواه
مـن بأسه وملوك الروم تخشاه |
ماذا
يرجو عمر من الله في دعائه، إنه يشكو إليه ضعف قوته،
وثقل الواجبات والأعباء، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن، والتقصير في حق الأمة، ثم
يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله، والموت في بلد رسوله، فما أجمل هذه الغاية، وما
أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
(أن
يكون مثواه بجواره).
يقول
معاذ بن جبل رضي الله عنه:
(يا
ابن آدم أنت محتاج إلى
نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة، مرّ
بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا، فات
نصيبك من
الآخرة، وأنت من الدنيا على خطر).
وروى
الترمذي بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال:
(من
أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله، وجعل غناه في
قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته،
وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له).
وأخيرًا..
أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه،
وصدق الله العظيم إذ يقول:
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي
فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي
وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾
(البقرة: 186).