التربية الروحية : هي  تنمية الروح التي نفخها الله في الإنسان ، قال تعالى [ فإذا سويته  ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ]  ص 72وأخرج الشيخان يرحمهما الله تعالى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق [ إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ....الحديث ]  صحيح البخاري رقم 3036 ، ومسلم 2643والإنسان جسد وروح ، يغلب جسده روحه إذا ضعفت هذه الروح ، ويقترب الإنسان عندئذ من الحيوان ، فيصير عبداً وأسيراً لشهوات الطعام والشراب والجنس والنوم وغيرها من الشهوات الحسية . وتذبل الروح وتذوي وتضمر ويغلبها الطين الذي تجذبه الأرض إليها فيهبط الإنسان ، ويسلك في حياته ما يشبع جسده من عناصر الطين ، ويحبس نظره وآماله في هذه الأرض ، وهذه الحياة الدنيا ، كما هو عند ( الغافلين ) الذين لايبصرون إلا بعيونهم الحسية ، بعد أن ران على قلوبهم ماكانوا يكسبون . أما إذا قويت الروح فتغلب الجسد ، وتقوده لما فيه خير الإنسان في الدنيا والآخرة ، وتحافظ عليه من الإفراط أو التفريط ، وعندما تسيطر الروح فإنها لاتكبت الجسد ، ولاتظلمه ، بل تسوسه بما يصلحه ، وينقاد الإنسان عندئذ لربه عزوجل الذي نفخ فيه الروح ، ويصير الإنسان عندئذ ( إنساناً ) يبتعد عن صفات الحيوان ، ليقترب من مهمة الخلافة التي خلقه الله من أجلها .( والطاقة الروحية في الإنسان هي أكبر طاقاته ، وأعظمها ، وأشدها اتصالاً بحقائق الوجود ، وطاقة الجسم محدودة بما تدركه الحواس ، وطاقة العقل أكثر طلاقة ؛ لكنها محدودة أيضاً بالزمان والمكان ، أما طاقة الروح فلاتعرف الحدود والقيود ، وهي وحدها تملك الاتصال بالله )  محمد قطب ، منهج التربية الإسلامية (1/44) ويعنى الإسلام عناية خاصة بالروح ، وهي نقطة الأساس للإنسان ، لأنها صلة الإنسان بالله ، وطريقة الإسلام في تربية الروح هي أن يعقد صلة دائمة بينها وين الله عزوجل ، في كل لحظة ، وكل عمل وكل فكرة وكل شعور .والعبادة هي الوسيلة الفعالة لتربية الروح، لأننا في العبادة نكون على صلة بالله عزوجل ، ولأن العبادة تعقد الصلة بالله عزوجل ، والشعائر التعبدية كالصلاة والصوم والحج والزكاة ، من حكمها الأساسية ربط العبد بربه ، وتمتين الصلة بين العبد وربه عزوجل ، ومن نعم الله على الإنسان أن العبادة يومية كالصلاة ، ولها مواسم سنوية كالصيام ، وموسم في العمر كالحج ، والشعائر التعبدية مواسم لتمتين الصلة بالله سبحانه وتعالى ، ومنها الحج . فالحج دورة في العمر يصقل الروح ويقوي صلتها بالله عزوجل ، ويشحنها بمراقبة الله عزوجل . دور الحج في التربية الروحية :عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل ؟ قال : " إيمان بالله ورسوله " قيل ثم ماذا ؟ قال : " الجهاد في سبيل الله " قيل ثم ماذا ؟ قال : حج مبرور " [ متفق عليه ] .ويقترن الجهاد بالحج بأنهما من الأعمال المقربة إلى الله عزوجل ، وهما من أفضل الأعمال بعد الإيمان .وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : يارسول الله ، نرى الجهاد أفضل العمل ، أفلا نجاهد ؟ فقال : لكن أفضل الجهاد حج مبرور [ رواه البخاري ]  ، وفي رواية : قلت : يارسول الله هل على النساء جهاد ؟ قال عليهن جهاد لا قتال فيه : الحج والعمرة " [ رواه ابن خزيمة ] . الحج تجرد مؤقت من الدنيا :-  يبدأ الحج بالإحرام والتجرد من الثياب المخيطة ويتجنب استعمال العطور طيلة مدة الإحرام ، ويلبس الحجاج لباساً موحداً وهو الإزار والرداء من اللون الأبيض وفي الإحرام تجرد من الدنيا وزينتها وزخرفها ، والاكتفاء منها بما يستر العورة على الجسد ، والأقبال على الله عزوجل .التلبية حث على التوجه إلى الله عزوجل :ويلبي الحاج بعد دخوله في الميقات فيعلن [ لبيك اللهم لبيك ، لاشريك لك لبيك ...] ، وكأنه يقول : تركت الدنيا ومافيها ، وعجلت إليك ربي لترضى ، وها أنا عبداً لك وحدك ، لا أهتم بغيرك ياربي ،  بعد أن تجرد من ثيابه وزخرف الدنيا ، ويعلن توجهه إلى ربه عزوجل . الحج هجر مؤقت للدنيا ومتعها الحسية :وفي الحج يترك المسلم ما تعوده من طعام وشراب ، ويأكل ويشرب ما تيسر له دون كلفة أو مشقة ،  ويتحرر من سيطرة العادات في المأكل والمشرب والنوم ففي المأكل اعتاد كثير من المسلمين على تعدد الأصناف وترتيبها على طاولة الطعام من مقبلات وفواكه وغيرها ، كما اعتادوا على وقت محدد للغداء وآخر للعشاء ،  كما اعتاد كثير من المسلمين على تعدد أصناف الشراب من المرطبات والماء المثلج مما يصعب توفيره في رحلة الحج  .وفي ترك هذه العادات محاولة لإخراج الإنسان من أسوار الدنيا وملذاتها الحسية ، ومحاولة أيضاً لإضعاف الجسد ، كي تسيطر الروح عليه ، وتقوده نحوه خيره في الدنيا والآخرة .كذلك اعتاد كثير من المسلمين على النوم في أوقات محددة وعلى فرش وثيرة ووسادة بعينها فإن تغيرت تلك الوسادة أرق وطار منه النوم ....! أين هذا من الحجيج !؟ الذين يتوسدون الحجارة أو أحذيتهم عندما يتاح لهم أن يخلعوا أحذيتهم من أرجلهم ، ويرقدون دقائق ولا يتح لهم أن يناموا في فراش واحد أكثر من ساعات قليلة حيث يرتحلون إلى مكان آخر .فالحج يعود على التحرر من سيطرة عادات الطعام والشراب والنوم المتحكمة في كثير من المسلمين ، عندما يتغير أسلوب الطعام ونوعيته على الحاج وكذلك الشراب والنوم . الروح في مناسك الحج :وتتصل الروح بربها عزوجل ، وتطول مدة الاتصال ، ففي الطواف حول الكعبة يشغل الحاج نفسه بذكر الله عزوجل ، وطلب العفو والمغفرة منه ، وطلب الجنة والنجاة من النار ، وتتألق الروح عندما تحس بصاحبها وهو يتوجه إلى الله عزوجل بقلب خاشع ، وعين دامعة ، يسأله العفو والمغفرة ، وتفرح الروح لما ترى صاحبها مهتماً بربه ومتعلقاً به .وكذلك عندما يصلي ركعتي الطواف ويتجه بالدعاء إلى ربه عزوجل ، أمام مقام إبراهيم عليه السلام ، والدعاء مخ العبادة ، وفي الدعاء تتحقق عبودية الإنسان لله عزوجل ، وبنفس الوقت تتحقق حرية الإنسان الحقيقية ، فعبد الله ليس عبداً لأحد غيره وهذا عين الحرية ولاحرية بعد ذلك .وعند السعي بين الصفا والمروة ، يلهج لسان العبد بالذكر والدعاء ، ويتذكر هاجر أم اسماعيل عليه السلام ، كيف كان تعلقها بالله عزوجل ، وقد صرحت بذلك وقالت لإبراهيم عليه السلام وهي تستفهم منه لماذا يتركهما في هذا القفر  : آلله أمرك بذلك ؟ قال : نعم . قالت : إذن لايضيعنا .وفي يوم عرفة عندما تجمع العصر مع الظهر ليتفرغ الحاج للدعاء ومناجاة ربه عزوجل ، وإلحاحه في الدعاء كي يغفر الله له ذنوبه ، ومن يغفر الذنوب إلا الله !؟ وكلما رأت الروح صاحبها متعلقاً بربه عزوجل نمت وكبرت وقويت ، وهذا ما يغذي الروح أثناء الحج .وفي ازدحام الحجيج عند النفرة من عرفة وفي مزدلفة وعند رمي الجمرات يتذكر الحاج يوم الحشر وأهواله ، ويزداد تعلقاً بربه عزوجل ، ليعينه في ذلك اليوم ، ويهون عليه أهواله ومشقاته . ويتذكر قدر نفسه ، فهو عبد لله ، مثل هؤلاء العبيد الكثيرين حوله ، ويحرر من مكانته المؤقتة في الدنيا .ويوم النحر يحلق الحاج شعره ، ليؤكد التجرد من الدنيا وزينتها ، وهذا سر تفضيل الحلق على التقصير ، ففي الحلق سمو على الدنيا ومظاهرها الفانية ، واستعداد وتجرد للإقبال على الله عزوجل ، الله الذي ينظر إلى قلوبنا ولاينظر إلى شعورنا وملابسنا .وكل مناسك الحج تؤكد هذا المعنى : تجرد من الدنيا وإقبال على الله عزوجل ، وهذا ماينفع الروح ، وينميها ، ويساعدها على قيادة الجسد والسيطرة عليه .أسأل الله عزوجل أن يجعل قلوبنا متعلقة به ليل نهار ، وان لايجعلنا من الغافلين ، وأن لايجعل الدنيا أكبر همنا ومبلغ علمنا ، إنه سميع بصير ، والحمد لله رب العالمين .                * باحث في التربية الإسلامية


المراجع

odabasham.net

التصانيف

قصص  أدب  مجتمع   الآداب   قصة