بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد
الحمد لله الذي جعل للعلم أهل وللإيمان ترتيب ، وجعل للعلوم وأهليها فنون
وأذواق وتجاريب ، له الفضل كل الفضل ، بيده الخير كل الخير .
إياك يا أخي أن تنظر بغيرية طلعة البهاء والجمال ، يكمل نقصان القبيح جماله ،
فما ثَمَّ نقصان وما ثَمَّ باشع ، لك الحمد يا رب .
الحمد لله ألذي أغدق على قلوب أحبابه من مواهب أسراره ، ومن فضائل إنعامه ،
فخاضوا التجربة وأبحروا المعاينة ، اختيارا منه ، واجتباءا اليه ، واصطفاءا
له ، فهم يا رب بك ومنك وإليك ، لاحول ولا طول ولا قوة لهم إلا بما أردت ،
جعلتهم عبادا لك ، فهم ملوك بحق ، ملَّكتهم سيف القطع ، وإن كانوا في نظر
الجاهلين غير ذلك ، ونعتّهم بأوصاف منك ، لا يلامسها إلا من تطهر، ثم تيمّمَ
بصعيد ٍ الصخر أو توضّأ بماء الغيب ،
( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )
.
ورد في صحيح السُّنَّة الطاهرة المباركة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
:
( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) .
أخي إن الهوى في بدايته هوَ : اجتماع واستماع وإتباع ، وفي وسطه استغراق في
الفكر والشهود ( إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) ولا يعقلها إلا العالمون (
وتعيها أُذنٌ واعية ) وفي نهايته حرية في عبودية ، وعبودية في حرية ، وذلك
على هوى المحبوب ، وهو الله سبحانه في نزوله وفي دنوه ، ( إن الله ينزل إلى
السماء الدنيا من كل ليلة.... ) ( وهو معكم أينما كنتم ) ( وهو أقرب إليكم من
حبل الوريد ) ، على هوى المحبوب وهو الله لا على هوى العبد السالك المحب ،
يارب لك الحمد ، سبحانك أنت الكريم وأنت الله ، أشهد بما شهدت أنت به لنفسك،
وشهدت به الملائكة وأولو العلم لك ، وأنت الغني عن شهادة غيرك .
ولا يكن الهوى تبعا لما جاء به الحبيب النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ما لم
تنسجم حركة قلبك وعقلك وروحك مع حركة الوجود بأسره ، والتي تنسجم هي أيضا
تبعا لما أنزل الله من حق ، فالوجود هو صفحات منظورة وغير مقروءة ، من كتاب
الله عز وجل ، فهذا هو الخط المستقيم الذي رسمه الحبيب صلى الله عليه وسلم ،
ثم رسم عن يمينه وعن شماله خطوطا ، وقال : على رأس كل طريق منها شيطان .
إن القلب السالك المحب إن صدق في هواه ، ينقله حبيبه مولاه ، من طور إلى طور
، ومن مشهد إلى آخر ، ومن مقام إلى مقام غيره ، ومن حال إلى حال ، وهو لا
يلتفت مطلقا إلى أي منها ، إذ كيف يلتفت قلب ، وهو في رحلة الروح متوجها إلى
الحجِّ الأكبر والجمع الأعظم ، قاصدا الكعبة وعرفات والنحر والصفا ؟ .يارب لك
الحمد ، فافهم المُراد .
( وما قدروا الله حق قدره ) .
فسبحانه هو الظاهر في كل شيء ، وهو الباطن في كل شيء وهو الأول ليس قبله شيء
، وهو الآخر ليس بعده شيء ، وهو الغني عن كل شيء ، كان سبحانه ولا شيء معه
وهو الآن على ما كان عليه ، يُعزُّ أقواما ويُذلُّ آخرين ، له الحكمة البالغة
، إليه يرجع الأمر كله ، من شدّة ظهوره اختفى في ستوره ولكن أكثر الناس لا
يعلمون .
جعل كأس حبه ومودته في التذلل بين يديه ، طاعة وتقربا ، وخوفا ورجاءا ، ربنا
ما عبدناك حق عبادتك .
جعل أقصر الطرق إليه ، مداومة الصلاة والسلام على الحبيب محمد صلى الله عليه
وعلى آله وصحبه وسلم .
أخي : إن أهل المعرفة في الله ، يرتشفون من بحار العلوم والمعاني ، والأذواق
والمواجيد ، على قدر أرواحهم وما تتسع من الأنوار المتلقاة ، وهي تستمر في
السّعة وتزداد ، حتى تبلغ ، فإذا بلغت فقد بلغت ، فافهم المعنى إن كنت معنا ،
فكل ما في البستان من أزهار وورود ، محاطة بهالة الود والجمال ، فهو الذي خلق
فسوّى ، وأحسن كل شيء خلقه ، ولا فرق من حيث الخلق بين وردة وأخرى أو بين
زهرة وأخرى . فالناظر إلى البستان لا يرى غير آيات الجمال ، ولكن كل زهرة
ووردة لها من الغذاء بقدر قوة عودها ، والتراب واحد ، ويسقى بماء واحد ،
وكذلك مثل الصالحين .
هكذا مثل الصالحين في رياضهم يرتعون ، في نزهاتهم يتنزهون ، فكل أمر حبّب
الله إليه من يرعاه ويقوم به ، وجعل له رجالا اختصهم به ، الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ، جعل الله له رجالا ، والجهاد في سبيل الله جعل الله له
رجالا ، والصدقة جعل الله لها رجالا والصوم جعل الله له رجالا وهكذا ، ومن
وراء ذلك معاني لطيفة فأبحر بها وافهمها ، ولا تقف عند سطورها ومفرداتها فتكن
محجوبا بعقلك ، يا رب لك الحمد .
( من كان هواه تبعا لما جئت به ) ، فالتبعية هي الانقياد المطلق والغير مقيد
، وبدون ذلك ينقص معناها ، فالطفل يتبع أمه قلبا وروحا وعقلا وجسدا ،والخلق
عيال الله أحبهم عند الله أفضلهم لعياله ، ووراء ذلك معاني عظيمة ، لمن رقَّ
قلبه .
والتلميذ في مدرسته يتبع معلمه ومنهاجه ونظام مدرسته ، ولا يفلح إلا إذا كان
تبعا لمعلمه ومدرسته ، وفي موسم الحجِّ ليس كل من حجَّ فقد حجَّ ، كما أنه كم
من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه ، وكم من مصلي ترد عليه صلاته فلا صلاة له .
واستعن بالله على فهم المعاني الكامنة وراء ذلك .
أخي إني أحبك في الله ، اعلم أنه للعلم أهل ، وأن هذا العلم لا يُمنح لغير
أهله ، وإن بُعثر به هنا وهناك ، فعلم الحقائق في الحفظ والصون ، فالصابون
كثير ، ولكن هيهات من تنظف به ، والملابس من على الحبال منشورة ولكن هيهات من
لبس وفق صفاته ومقاسه ، ثم ستر عورته ، والحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو
أحق بها وأهلها ، ورب سامع لمقالة أوعى من مُبلِّغ لها .
ربما من اليسير لمن يسّر الله له ، أن تجتمع بالصالحين ، ولكن أن تدخل إلى
مدارسهم ، وتتعلم علومهم ، فهيهات إلا أن يأذن الله لك ، فمن قرع الباب بأدب
لا يُحرم من الجواب ، يا رب لك الحمد .
قال صلى الله عليه وسلم :( لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما
سواهما ) فهذا هو أدب السلوك والإتباع ، حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ،
ربما أنت بحاجة إلى مربّ ٍ ومرشد من أهل العلم والفضل والمعرفة ، يمتلك همّة
عالية ، يغمرك بسرّ مراقبته لك ، ويجود عليك بهمة تنشلك من أوحال نفسك ،
ويتنقل بك من طور إلى طور ، حتى تبلغ بسرِّه عبادة الهوى ، فتعبد ربك حينئذ
حق اليقين ، عبادة على هوى من يهوى ، لا هوى من تهوى أنت بنفسك ، عبادة هوى
في الحبيب ، هوى من ذاق فعرف ، وشاهد وعاين وجالس وعرف وفهم .
شاهد نورا ، وعاين حقا ، وجالس صفوة ، وعرف علما ، وإنما يأكل الذئب من
الغنم القاسية وقديما قيل : مَن لا شيخ له فشيخه الشيطان ( كما قيل ) .
وفي الختام أُقرُّ وأعترف، وأُشهد ربي، على أنني من أكثر الناس بعدا ومعصية،
وقسوة وغفلة وجهلا، وليس لي بحق إلا الله، فهو رجائي وأملي، ومنيتي وغايتي
وسؤلي، وصلى الله على محمد وعلى آل محمد، والحمد له رب العالمين.