.
الوصية الأولى
( طلب النجاة في طريق الاستقامة )
ما أحوجنا اليوم أيُّها الأحبة الكرام بأن نتواصى بما يعيننا على أداء رسالتنا
ومهمتنا التي خُلقنا من أجلها، في ظل طغيان المادة والشهوات وغياب القيم
والأخلاق، ولنعلم أيها الأحباب أننا أصحاب دعوة حق؛ لها من المبادئ والقيم
والأخلاق التي تُؤثِّر في المجتمع ولا نتأثر بما يسود في المجتمع من ظواهر
سلبية من ظواهر سلبية وعلل وأمراض؛ ولذا فإن النجاةَ لنا في طريق الاستقامة
مصداقاً لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ
اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)﴾ (الأحقاف)،
ومصداقاً لقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "قل آمنت بالله ثم استقم"
(أخرجه مسلم).
وأصل الاستقامة كما ذكر العلماء من ثلاثة (اتباع الكتاب، والسنة، ولزوم
الجماعة)، وهذه الأمور الثلاثة تحتاج إلى عُدة تُعين على ذلك تتمثل في الإخلاص
والعلم وبذل الجهد واعتدال السلوك بين الإفراط والتفريط، كما أوضح لنا رسول
الله- صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن ينجوا أحدٌ
منكم بعمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله
برحمةٍ منه وفضل"، وفي ذلك يقول ابن القيم رضي الله عنه: "المطلوب من العبد
الاستقامة، وهي السداد فإن لم يقدر عليها فالمقاربة، فإن نزل عنها: فالتفريط
والإضاعة".
فالاستقامة كلمة جامعة آخذة بمجامع الدين، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة
الصدق والوفاء، كما قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: "الاستقامة: أن تستقيم
على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعلبان"، وقال الحسن بن علي- رضي الله عنهما-:
"استقاموا على أمرِ الله فعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته"، وقال شيخ الإسلام
ابن تيمية: "استقاموا على محبته وعبوديته فلم يلتفتوا عنه يمينه ولا يسره"، وما
أشمل وأجمل من قول الله تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ
مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)﴾ (هود).
فبيَّن أن الاستقامةَ ضد الطغيان، وهي مجاوزة الحدود في كلِّ شيء، وعندما سُئل
صديق الأمة أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- عن الاستقامة؟ فقال: "أن لا تشرك
بالله شيئًا"، وهذا مصداقاً لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ
وَاسْتَغْفِرُوهُ﴾ (فصلت: من الآية 6).
ومما ذُكر أيها الأحبة الكرام نستخلص أن الطريق إلى الاستقامة يستلزم عدة أمور
أساسية لا غنى عنها منها:
أولاً :
التوبة إلى الله عز وجل، والإنابة إليه، ودوام الاستغفار.
ثانيًا :
الدعاء وطلب العون من الله "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"، "اللهم
اغفر لي ما فات، واعصمني مما هو آت، وارزقني تقواك".
ثالثًا :
تدبر آيات القرآن الكريم والوقوف على أوامره ونواهيه، فتذكر قول عبد الله بن
مسعود- رضي الله عنه-: "عندما أسمع قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا﴾ أقف مستعدًا لأمرٍ فأُنفِّذه، أو لنهي فأنتهي عنه".
رابعًا:
التخلق بأخلاق النبي- صلى الله عليه وسلم- واتباع سنته مصداقًا لقول السيدة
عائشة- رضي الله عنهما-: "كان النبي- صلى الله عليه وسلم- خُلقه القرآن، كان
قرآنًا يمشي على الأرض".
خامسًا :
الإخلاص والصدق في الأقوال والفعال والأحوال والنيات، وهذا يتطلب المراقبة
والمحاسبة للنفس في دقائق الأمور صغيرها وكبيرها، فالرياء في الأعمال يخرجه عن
الاستقامة، والفتور والتراخي يخرجه عنها أيضًا، ولا يحصل هذا إلا باليقظة
الدائمة والتعهد المستمر لحال القلب.
سادسًا :
الإكثار من الطاعات واجتناب المعاصي: "اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك
المنكرات.."، وكما يقول ابن القيم: "فكل الخير في اجتهادٍ باقتصاد، وإقران
مقرون بالاتباع"، ويقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ لكل عملٍ شرة،
ولكلِّ شرة فترة، فمَن كان فترته إلى سنته أفلح، ومن كانت فترته إلى بدعةٍ خاب
وخسر".
سابعًا :
لزوم الجماعة، والمراد به لزوم الحق وأهله ولو قلُّوا، لا لزوم أكثر الناس، هذا
يتطلب بصيرة وعلم وعمل مع لزوم مجالسة الصالحين وأهل الحق والصلاح في إطارٍ من
الحب في الله والعمل لدين الله.
-ثامنًا :
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بفقهٍ وعلمٍ واتباعٍ لسنة الحبيب المصطفى- صلى
الله عليه وسلم- ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ
أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي﴾ (يوسف: 108).
ويقول المحاسبي- رضي الله عنه-: "وكُنْ قائلاً بالحق عاملاً به يزدك الله نورًا
وبصيرةً، ولا تكن ممن يأمر به وينأى عنه فتبوء بإثمه وتتعرَّض لمقتِ الله"،
ويقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "مَن وعِظ ولم يتعظ، وزُجِر ولم يزدجر،
ونُهِى ولم ينتهِ فهو عند الله من الخائبين".
تاسعًا :
البذل والإنفاق في سبيل الله بكل غالٍ وثمين مصداقًا لقوله تعالى: ﴿لَنْ
تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ
شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)﴾، ويقول الشهيد سيد قطب رحمه الله
(عندما أُعطي إنما آخذ)، فمَن أراد القُرب من الله فعليه بالتضحية والعطاء بكل
ما يملك بصدقٍ وإخلاصٍ لله عز وجل.
عاشرًا :
التحلي بالصبر، فالطريق إلى الله تحتاج إلى الصبر الجميل كما في قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا
اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)﴾ (آل عمران)، وكما في قوله ﴿وَبَشِّرْ
الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: من الآية 155)، وفي ذلك يقول ابن القيم: "للصبر مراتب،
أن تصبر أن تتعلم أمور دينك، وأن تصبر على أن تدعو بما علمت وعملت، وأن تصبر
على أذى الناس".
أيها الإخوة الكرام: إن الطرق إلى النجاة لن يكون إلا بالاستقامة على أمر الله،
ولن تتحقق فينا الاستقامة إلا باتخاذ الخطوات الموصلة إليها، ولن يكون ذلك إلا
بحمل النفس على المكاره، فحُفت الجنة بالمكاره وحُفت النار بالشهوات، ولكن
ينتظرنا أمر عظيم ينسينا شدة الطريق، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ
قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ
الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ
الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾ (فصلت)، يا لها من عظيم البشرى! ويا له من
وعد صدق عند مليك مقتدر! فرجاؤنا في الله كبير، وثقتنا في الله ووعده عظيمة.
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن نكون من أهل الاستقامة على طريق الله، وأن
نفوز بالشهادة في سبيله، وأن يرزقنا نعيم الجنة والنظر إلى وجهه الكريم.. اللهم
آمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الوصية الثانية
قوة القلوب وغذاء الأرواح
نستكمل اليوم حديثنا عن "وصايا إلى أحبة القلوب"، ونتحدث عن الوصية الثانية
"قوة القلوب وغذاء الأرواح".
فالمحبة هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى
علمها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون وبروح نسيمها تروَّح العابدون، فهي
قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون.
وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو من
بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي مَن
لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام.
* ما أجمل هذه الكلمات التي ذكرها الإمام ابن القيم والتي تُعبِّر عن حال قلب
العبد مع ربه، وقد امتلأ حبًّا لله عز وجل يبغي رضاه، وفي ذلك فليتنافس
المتنافسون، ولقد تربَّى جيل الصحابة والرعيل الأول من المسلمين على بذل
الأرواح والأموال، وكل ما يملكون حبًّا لله وفي الله، ولقد ضربوا لنا أروع
الأمثلة في ذلك، فخليفة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أبو بكر الصديق ينفق كل
ماله وعندما يسأله رسول الله صلي الله عليه وسلم ماذا أبقيت لعيالك؟ فجاءت
الإجابة المُعبِّرة عن حال القلب الموصول بالله فقال: "أبقيت لهم الله ورسوله".
عند ذلك قال سيدنا عمر- رضي الله عنه-: "لا طاقة لي بأبي بكر ما سبقته إلى شيء
إلا وجدته أسبق مني"، هكذا كان الجيل القرآني الفريد الذي يعيش بالقرآن في واقع
حياته وسلوكياته اليومية، والتي ما زلنا حتى يومنا هذا نتعلم منه الكثير، والتي
منها: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ
اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ
الْجَنَّةَ﴾ (التوبة: من الآية 111).
* إن القلب إذا أحبَّ شيئًا أقبل إليه وخضع له، وأطاعه في كل ما يأمر، إن المحب
لمَن يُحب مطيع، وهذه حقيقة العبودية: الخضوع والطاعة، وليس للقلب إلا وجهة
واحدة وليس للإنسان إلا قلب واحد، قال تعالى ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ
قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ (الأحزاب: من الآية 4)، وإذا كان أقبل بها على مولاه
أعرض عمَّا سواه وكان عبدًا له حقيقة، وإذا أقبل على هواه أعرض قطعًا على مولاه
وكان عبدًا لسواه، والحق سبحانه لا يرضى لعبده أن يكون عبدًا لغيره.
* فمحبة الله لعبده تقريبه واجتباؤه، ومحبة العبد لله طاعته بامتثال أمره
واجتناب نهيه، ومحبة العبد على قسمين أولها: عن شهود الإحسان، فلا شك أنَّ
العبدَ إذا نظر إلى إحسان الله تعالى وإنفاقه عليه بضروب النعم الحسية
والمعنوية أحبه لا محالةَ؛ لأن القلوب مجبولة على حسب من أحسن الله إليها، أما
القسم الثاني فناشئ عن شهود الجمال: فإن العبد إذا كُشف الحجاب عن قلبه، وزالت
عنه الموانع والقواطع رأى جمال الحق وكماله، وأشرقت أنواره على قلبه، والجمال
محبوب بالطبع، فانعقدت المحبة بينه وبين مولاه، وفي ذلك أشارت رابعة العدوية في
قولها:
أحبك
حبين
حب
الهوى
وحبًّا
لأنك أهلٌ
لذاكا
فأمَّا الذي هو حبُّ الهوى فشُغلِي بذكرك عمَّن سواكا
وأمَّا الذي أنت أهلٌ له فكشفُك لي الحُجبَ حتَّى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن
لك الحمد في ذا وذاكا
* والمحبة في ثلاثة أشياء:
- محبة المؤمنين في الله عز وجل، وعلامتها كف الأذى وجلب المنفعة.
- محبة الرسول- صلي الله عليه وسلم- لله عز وجل، وعلامتها اتباع سنته مصداقًا
لقوله عز وجل ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ (آل عمران: من الآية
31).
- محبة الله عز وجل في إيثار الطاعة على المعصية، وعلامتها ذكر النعمة يورث
المحبة والامتثال لأوامره، واجتناب نواهيه بحيث لا يفقدك فيما أمرك به، ولا
يجدك فيما نهاك عنه، فإذا وقعت المخالفة ذهب الاعتراف بها والانقلاب عنها في
الحين.
* وقد ذُكِر عن علي بن أبي طالب عنه أنه كان يقول: "إن لله في أرضه آنية، وإن
آنيته فيها القلوب، فلا يُقبل منها إلا ما صفا وصلُب ورقَّ"، ومعنى ذلك أن صفاء
القلب لله عز وجل باتباع أمره ونهيه، ومشاهدة الصدق والإشفاق، وصفاءه لرسول
الله صلى الله عليه وسلم بقبول ما أتى به قولاً وعملاً ونيةً، وصفاءه للمؤمنين
بكفِّ الأذى وإيصال النفع.
* وللمحبة آثار وشواهد فكما يقول ابن القيم: "إذا غُرست شجرة المحبة في القلب،
وسُقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب أثمرت أنواع الثمار، وأتت أكلها كل حينٍ
بإذن ربها، أصلها ثابت في قرار القلب، وفرعها متصل بسدرة المنتهي".
ومن هذه الآثار والشواهد:-
- الميل الدائم بالقلب الهائم وإيثار المحبوب على جميع المصحوب.
- موافقة الحبيب في المشهد والمغيب.
- استكثار القليل من الجناية، واستقلال الكثير من الطاعة.
- أن تهب كلك لمَن أحببت، فلا يبقى لكَ منك شيء، فتهب إرادتك وعزمك وأفعالك
ونفسك ومالك ووقتك لمَن تُحبِّه، وتجعلها حبًّا في مرضاته ومحابه، فلا تأخذ
لنفسك منها إلا ما أعطاك، فتأخذه منه له.
وما أجمل ما وصف به الجنيد- رحمه الله- ذلك الأمر حين قال: "عبد ذاهب عن نفسه،
متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، فإن تكلَّم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن
تحرَّك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله وعلى الله".
أيها الأحبة في الله
بعد أن تعرضنا لمنزلة المحبة ومفهومها وآثارها وشواهدها، فكيف السبيل إلى منزلة
قال عنها ربنا عز وجل: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ والتي ما أحوجنا إليها
كأمةٍ مسلمةٍ وكأصحاب دعوة تحمل عبء هذه الأمة وتعلم للتمكين لدين الله،
فالسبيل إلى هذه المنزلة العظيمة فيما ذكره العلامة الفيروز أبادي- رحمه الله
تعالى- في "كتابه بصائر ذوي التمييز" إن الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى
عشرة:-
أولاً:
قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه والتعظيم لمراد الله منه.
ثانيًا:
التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض فإنها توصلُ إلى درجة المحبوب بعد
المحبة.
ثالثًا:
دوام ذكره سبحانه على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال، فنصيب المحبُ من
المحبة على قدر نصيبه من هذا التذكر.
رابعًا:
إيثار محابه سبحانه على محابك عند غلبات الهوى.
خامسًا:
مطالعة القلب لأسمائه سبحانه وصفاته أو مشاهدتها، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته
وأفعاله أحبه لا محالة.
سادسًا:
مشاهدة بره وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة.
سابعًا:
انكسار القلب بكليته بين يديه.
ثامنًا:
الخلوة به سبحانه وقت النزول الإلهي "أي وقت التجلي الإلهي وهو في الأسحار قبل
الفجر" لمناجاته وتلاوة كلامه والوقوف بالقالب والقلب بين يديه، ثم ختم ذلك
بالاستغفار.
تاسعًا:
مجالسة المحبين الصادقين والتقاط أطايب ثمرات كلامهم وأن لا يتكلم- أي المحبُ-
إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلم أن فيه مزيدًا لحاله.
عاشرًا:
مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.
فمن هذه الأسباب وصل المحبون إلى منازل المحبة
* أحبة القلوب..
إن الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى لا تُحصى ولا تعد، ولكنها تحتاج إلى مَن
يدركها بقلبه قبل لسانه وبأفعاله قبل أقواله، وبعزمه وإرادته قبل كلامه، فهل من
مشمر؟ فهل من عامل؟ فهل من مجاهد ؟ ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ نسأل الله
العظيم أن نكون منهم، وأن نحيا بقوت القلوب وغذاء الأرواح، وقرة العيون حتى
نلاقيه فتنكشف لنا الحجب فنرى نور ربنا جل جلاله وعظيم سلطانه.. آمين، وصلِّ
اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الوصية الثالثة
حسن السلوك وترك الفضول
إن نهضة الأمم والمجتمعات
وتكوين الشعوب ومناصرة المبادئ وتحقيق الآمال تحتاج إلى ركائز أساسية لتشييد
حضارة إنسانية تكون لها الأستاذية في العالم ومن هذه الركائز :حسن الخلق
والسلوك وما أجمل ما تحدث به الشاعر عندما قال:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فان همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا .
*ونحن اليوم نموذج في
حالة من الانهيار القيميي والأخلاقي لدى عموم المجتمعات التي نعيشها، وتتوارث
حالة الضعف تلك أجيال متعاقبة، بل تضفي عليها ضعفا فوق ضعف، فإلى أين نجن
سائرون؟
* وإذا كان هذا هو حال
العموم فما هوا حال أصحاب المبادئ والدعوات الذين يحملون علي ظهورهم عبء إصلاح
هذه الأمة وبناءها وريادتها، ربما يقول البعض نحن بلا شك جزء من هذا المجتمع
ونسيج منة نتأثر بسلوكياته وأخلاقه ؟! ولكن علينا أن ندرك أن أصحاب الدعوات
وحاملوا لواء الإسلام وناشروه هم أصحاب التأثير في مجتمعاتهم بلسان الحال أكثر
من لسان المقال ..حال رجل في ألف رجل خير من كلام ألف رجل لرجل .
أحبة القلوب ...
* ما أجمل هذا التعبير
القرآني الرائع {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} إنها إشارة ربانية
لإعلاء قيمتة ومكانة الخلق في ديننا الحنيف، ولقد سئلت السيدة عائشة"رضي الله
عنها " عن خلق النبي "صلي الله علية وسلم"..( فقالت كان خلقه القرآن ). وعندما
نعيش في آيات القرآن نجد أنها تحض علي مكارم الخلق وان آية واحدة جمعت ذلك في
قوله تعالى{خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ
الْجَاهِلِينَ } وعندما سئل النبي "صلي الله علية وسلم" عن البر والإثم
فقال (البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع علية الناس ) ويقول
النبي "صلي الله علية وسلم" ( إن من أحبكم إلى وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة
أحاسنكم أخلاقا ) وقوله "صلى الله علية وسلم" (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة
الصائم القائم) فما أعظمها مكانة ورفعة يبلغها العبد بحسن خلقه، إنها منزلة
عظيمة يتنافس فيها المتنافسون ويشمر لها المجتهدون ويعمل لها العاملون حتى يصدق
فيهم قول رسولنا الحبيب"صلي الله علية وسلم"(ما من شيء أفضل في ميزان المؤمنين
يوم القيامة من حسن الخلق) وقوله عندما سئل النبي "صلي الله علية وسلم" عن أكثر
ما يدخل الناس الجنة فقال :( تقوى الله وحسن الخلق ).
*إن أصعب ما علي الطبيعة
الإنسانية:تغير الأخلاق التي طُبعت النفوس عليها، وتحتاج إلى مجاهدات شاقة حتى
تبرز تلك الأخلاق علي طبائع النفوس وان تزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان
واشد، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا بإتباع الطريق الذي سار علية الأنبياء
من قبل وبمحض الانقياد والتسليم كما في قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا
فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ
وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا
تَعْلَمُونَ} ، وقوله تعالى { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ
رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
أحبة القلوب ..
وأساس الأخلاق أن تعرف
مقام الخلق ،ونستفيد بهذه المعرفة ثلاثة أشياء (أمن الخلق منك ، ومحبه الخلق
إياك ، ونجاة الخلق بك ) ، وان مدار حسن الخلق مع الحق ومع الخلق في هذا القول
الجامع (كن مع الحق بلا خلق ، وكن مع الخلق بلا نفس ).
* إن حسن الخلق يمن
وسعادة، وسوء الخلق شؤم وشقاء، وان سعة الخلق وبسطة الخاطر نعيم وسرور حاضر لمن
أراد الله به خيرا ومن كان عنده أدب جم، وذوق سليم ،وخلق شريف،أسعد نفسه وأسعد
الناس ونال صلاح البال والحال ،ومن أراد أن يسعد مع الناس فيجب أن يعاملهم بما
يحب أن يعاملوه،وألا يبخس أقدارهم،والكلمة الطيبة صدقة لأنها تفتح النفس، وتسعد
القلب ، وتدمل الجراح وتذهب الغيظ وتعلن السلام.
أحبة القلوب...
فأما ترك الفضول فنحن به
مأمورن ، كما يقول النبي "صلي الله علية وسلم" (إن الله عند لسان كل قائل فاتقي
الله أمرءٌ علم ما يقول ) وقول ابن مسعود رضي الله عنة (أنذركم فضول الكلام،
حسب أحدكم ما يُبلغ به حاجته فان الرجل يُسال من فضول كلامه كما يُسال عن فضول
ماله) وقول ابن عباس رضي الله عنة( لا تتكلم فيما لا يعنيك،ودع أكثر ما يعنيك)
وقال الإمام الشافعي رحمة الله(أربعة تزيد في العقل، ترك الفضول من
الكلام،والسواك،ومجالسة الصالحين،ومجالسة العلماء) وقال الإمام المحاسبي رحمه
الله(اعتزل الفضول تسلم).
إن القلب مثل البيت له ستة
أبواب ثم قيل احذر أن يدخل عليك من أحد الأبواب شيء فيفسد عليك البيت فالقلب هو
البيت والأبواب هيا اللسان،والسمع،والشم،واليدان،والرجلان،متي انفتح عليك باب
من هذه الأبواب بغير علم ضاع البيت..فمن منا يريد أن يضيع نفسه أو يفسد قلبه!!
إن حفظ الجوارح فريضة،وترك
الفضول فضيلة،وفضول السمع يخرج إلى السهو والغفلة ،وفضول البصر يخرج إلى الغفلة
والحيرة،وفضول اللسان يخرج إلى التزيد والبدعة،وفضول الغذاء يخرج إلى الشرة
والرغبة،وفضول اللباس يخرج إلى المباهاة والخيلاء،وفضول المسكن يخرج إلى
الإسراف والفخر،ولا ينبغي للإنسان أن يحمل علي بدنه مالا يطيق فان البدن
كالراحلة إن لم يرفق بها لم تصل بالراكب، وان سفرنا طويل وعبئنا ثقيل وزادنا
قليل فهل من مجاهد لنفسه علي ترك الفضول . فالأمر عظيم ويحتاج إلى أصحاب الهمم
والعزائم والنفوس الصادقة والقلوب الخاشعة كما يحتاج إلى أصحاب المجاهدة كما في
قوله{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ
اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}
يقول الإمام المحاسي رضي
الله عنه(ففرض اللسان:الصدق في الرضا والغضب وكف الأذى في السر والعلانية وترك
التزيين للناس بالخير والشر)(وفرض البصر: الغض عن المحارم وترك التطلع فيما حجب
وستر)،(وفرض السمع تبع للكلام والنظر فكل ما لا يحل لك الكلام فيه ولا النظر
إليه: لا يحل لك استماعه ولا التلذذ به ،البحث عما كتم عنك تجسس،وسماع اللهو
والغناء وأذي المسلمين حرام كالميتة والدم)،(وفرض الشم تبع للسمع والبصر فكل ما
حلل الله استماعه والنظر إلية جاز لك شمه)،(وفرض اليدين والرجلين أن لا تبسطهما
إلى محظور ولا تقبضهما عن حق،وما خط العبد خطوة إلا كتبت حسنة أو سيئة).
وإليكم يا أحبة القلوب بعض
الوصايا العملية منها:
* أعف عمن ظلمك،وصل من
قطعك، وأعط من حرمك،واحلم علي من أساء إليك،تجدالسرور والأمن.
* إياك وتجريح الأشخاص
والهيئات،وكن سليم اللسان وطيب الكلام. عذب الألفاظ مأمون الجانب .
*تيقن أن كل من تعاملهم من
أخ وابن وزوجة وقريب وصديق لا يخلو من عيب فوطن نفسك علي تقبل الجميع.
*لا تغضب فان الغضب يفسد
المزاج،ويغير الخلق،ويسئ العشرة،ويفسد المودة،ويقطع الصلة.
*كن مهذبا في مجلسك،صموتا
إلا من خير،طلق الوجه ،محترما لجلاسك،منصتًا لحديثهم،ولا تقاطعهم أثناء الكلام.
* تبسمك في وجه أخيك
صدقة،لان الوجه عنوان الكتاب وهو مرآة القلب، ورائد الضمير .
* من ترك الخلاف،واجتنب
التفاخر،وسلم من الكذب،ورضي بالقدر،وهجر الحسد،عكف الله عليه قلوب عباده.
*طهر قلبك من الحسد،ونقه
من الحقد،وأخرج منة البغضاء،وأزل منة الشحناء.
*أحسن إلى الناس،وقدم
الخير للبشر،لتلقى السعادة من عيادة مريض،وإعطاء فقير،والرحمة بيتيم.
*لا تتأثر من القول القبيح
والكلام السيئ الذي يقال فيك،فإنه يؤذي قائله ولا يؤذيك.
*بسط وجهك للناس تكسب
ودهم،وألن لهم الكلام يحبوك،وتواضع لهم يحبوك.
*ادفع بالتي هي أحسن،وترفق
بالناس،وأخفي العدوات،وسالم أعداؤك وكثر اصدقاءك.
*اقبل الناس علي ما هم
عليه،وسامح ما يبدر منهم،واعلم أن هذه هي سنة الله في الناس والحياة.
*من صفت نفسه بالتقوى،وطهر
فكره بالإيمان،وصقلت أخلاقه بالخير نال حب الله وحب الناس.
*التحلي بحسن
الاستماع،وعدم مقاطعة المتحدث،ولين الخطاب،ودماثة الخلق،أو سمة علي صدور
الأحرار.
* رُب أكلة تمنع أكلات،
وكلمة تجلب عداوات،وسيئة تمنع خيرات،ونظرة تعقب حسرات.
*لا يكن حبك كلفا،ولا
بغضك سرفا،ولا حياتك ترفا،ولا تذكرك أسفا،ولا قصدك شرفًا.
*البر يستعبد
الحر،والإحسان يفيد الإنسان، والحلم يقهر الخصم،والصبر يطفئ الجمر.
*فضول العيش أشغالٌ،الزائد
عن الحاجة أثقالُ،وعفافٌ في كفافٍ خيرٌ من بذخ وإسراف.
*المسلم من سلم المسلمون
من لسانه ويده ،والمؤمن من أمنه الناس علي دمائهم وأموالهم،والمهاجر من هجر ما
نهي الله عنه.
*نسأل الله العظيم أن نكون
من أحاسن الناس أخلاقا وان يتقبلنا عنده من الشهداء اللهم آمين
الوصية الرابعة
لا تخف إلا ذنبك ... ولا ترجُ إلا ربَّك
ونحن سائرون إلي الله عز وجل تحتاج قلوبنا إلي الخوف والرجاء . خوفٌٌ يحول
بيننا وبين محارم الله عزوجل ، ورجاءٌٌ نستشعر به فضل الله علينا وكرمة وجوده
ورحمته بنا ، فالخوف والرجاء جناحان ، ومتي فقد الجناحان فالقلوب عرضة للضياع ،
الاعتدال بينما هو أكمل الأحوال ، وبه تصل القلوب إلي مرضات الله ، والله هو
الموصل بمنه وكرمه.
* فالخوف هو اضطراب القلب وحركته وانصداعه لذكر الله ، خوفٌٌ مقرونٌٌ بالمعرفة
والتعظيم والإجلال ، خوفٌٌ مقرونٌٌ بالمحبة والاشتياق ، خوفٌٌ كالسراج في
القلب يبصر ما فيه من الخير والشر ، خوفٌٌ إذا سكن القلوب احرق مواضع الشهوات
منها وطرد الدنيا عنها ، خوفٌٌ من الله وليس من العباد [فَلا تَخَافُوهُمْ
وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ، [فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] ، [فَلا
تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي] ، خوفٌٌ قال عنه النبي صلي الله عليه
وسلم : [ لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، وبكيتم كثيراً ، ولما تلذذتم
بالنساء علي الفرش ولخرجتم إلي الصعدات ، تجأرون إلي الله تعالي].
* خوف الصائمون القائمون المتصدقون العاملون المجاهدون إلا إن يقبل منهم
أعمالهم ، كما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها قالت :( قلت يا رسول الله قول
الله " والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجله" أهو الذي يزني ويشرب الخمر ؟
قال : [لا يا ابنة الصديق ، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف إلا يقبل
منه]) .
* خوفٌٌ نتذكر فيه قوله تعالي : [يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ
(34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ] ، خوفٌٌ نتذكر به يوم الحساب [
... ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)
وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ
نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا
الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ].
* خوفٌٌ تريد به بلوغ الجنان [وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ]
، خوفٌٌ ذكرنا به نبينا صلي الله عليه وسلم [ من خاف أولج ، ومن أولج بلغ
المنزل ، ألا ان سلعة الله غاليه ، آلا إن سلعة الله الجنه] .
* أحبة القلوب .....
* إن ذنوبنا كثيرة ، وأعمالٌٌ قليلة ، وزادنا قليل ، وسفرنا طويلٍ ، وطريقنا به
الكثير من الصعاب . فهل من خائف يسارع إلي مغفرة من الله وجنات تجري من تحتها
الانهار؟ فهل من خائف يذكر الله كثيراً ؟ فهل من خائف يستغفر لذنوبه ؟ فهل من
خائف يدعو الله أن يغفر الله له ما فات ويعصمة مما هو آت ويرزقة تقواه ؟ نسأل
الله الكريم الجواد أن نكون من الخائفين الخاشعين، الذين يؤتون ما آتو وقلبوهم
وجلة .... آمين .
* وأما الرجاء فهو رجاء من أذنب ذنوباً ثم تاب منها فهو راج لمغفرة الله تعالي
وعفوه وإحسانه ، رجاء من عمل بطاعة الله علي نور من الله فهو راج لثوابه ،
رجاءُ من يستشعر لقاء ربه ويعمل عملاً صالحاً ، رجاءٌٌ من محب لمجبوبه ويرجو
رضاه ، وعلي حسب المحبه وقوتها يكون الرجاء ، فكل محب راج خائف بالضرورة ،
فخوفه أشد ، ورجاؤه ذاتي للمحبة.
* رجاءٌ يبعث العامل علي الاجتهاد ، ويولد التلذذ بالطاعة ، ويوقظ النفس
والطباع فينشطة ببذل جهده لما يرجو من ثواب ربه ، رجاءُ أرباب القلوب بلقاء
الخالق الباعث علي الاشتياق [فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ
فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً].
رجاءٌ كلما اشتد إزداد العبد حباً لله تعالي ، رجاءٌ يجعل القلب يتعلق بذكره
سبحانه ، رجاءٌ حاد يحدو به في سيره إلي الله جل علاه ، رجاءٌ يلهم العبد
الشكر راجياً لتمام النعمة من الله عليه في الدنيا والآخرة.
* رجاءُ من الداعين إياه بسرهم ونجواهم ، ويحبيهم بحكمته ولطفه بما يشاء ، ووقت
ما يشاء فهو السميع البصير القدير علي كل شئي ، فبابه مفتوح دون حجب أو موانع ،
وهو الذي يرجى في جميع الأمور ويعلم ما في القلوب . فهل نرجو سواه !
* رجاءٌ من يعلم [ إن الله تعالي يبسط يده بالليل ليتوب مسئ النهار، ويبسط يده
بالنهار ليتوب مسئ الليل حتي تطلع الشمس ] .
* رجاءُ من يستجيب لنداء ربه : [إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك علي ما كان منك
ولا آبالى]، ويستشعر عفوه وكرمه [ لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت
لك ] ، ويعلم عظمة توحيده [ إنك لو آتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك
بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة] .
آحبة القلوب ....
* إن العبد دائر بين ذنب يرجو غفرانه ، وعيب يرجو إصلاحه ، وعمل صالح يُرجي
قبوله ، واستقامة يرجو حصولها ودوامها ، وقرب من الله ومنزله عنده يرجو وصولها
إليه.
* وكل محبة لله مصحوبه بالخوف والرجاء ، وعلي قدر تمكنها من قلب المحب يشتد
خوفه ورجاؤه ، لكنه خوف المحب الذي لا يصحبه وحشة ، ورجاء المحب الذي لا يصحبة
علة.
خوفٌ ورجاءً يذكرنا بما يجب أن تكون عليه كما في هذه الأبيات الجميلة :-
لا تخف وحشة الطريق إذا جئت **** وكن في خفارة الحب سائر
واصبر النفس ساعة عن سواهم **** فإذا لم تجب لصبر فصابر
وأفطم النفس من سواه فكل العيش **** بعد الفطام نحوك صائر
يا أخا اللب ، إنما السير عزمٌ **** ثم صبر مؤيد بالبصائر
يا لها من ثلاثة من يَنَلها **** يرق يوم المزيد فوق المنابر
* فيالها من معاني ترقي بها النفوس والقلوب ، وتحتاج منا إلي بذل الجهود حتي
يتحقق فينا المراد فهل من سائر بعزم، وصابر مؤيد بالبصائر؟
* وما أعظم وأجمل من هذه المناجاة التي نظمها الامام الشافعي رحمة الله في
أبيات من الشعر:
فلما قسا قلبي وضاقت مذاهبي *** جعلت الرجا مني لعفوك سلماً
تعاظمني ذنبي فلما قرنته *** بعفوك ربي كان عفوك أعظم
فما زلت ذا جود وفضل ومنة *** تجود وتعفو منة وتكرماً
فياليت شعري هل أصبر لجنة *** أهنأ وإما للسعير فأتدما
* فيآحبة القلوب .... هل لنا من وقفة مع النفس نراجع ما مضي وننظر فيما هو آت؟
فهل لنا أن نستشعر قول رسولنا صلي الله عليه وسلم [ من سرته حسناته وساءته
سيئاته فهو مؤمن] ؟ هل لنا أن نعيش مع هذه المعاني التي ذكرها ابن مسعود رضي
الله عنه [ المؤمن يري ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، والعاجز يري
ذنوبه كذباب وقع علي آنفه فقال به لا هكذا فاطاره] ؟. فهل لنا من عمل صالح يكون
لنا زاد عند لقاء ربنا يوم التناد؟ [ فمن كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله
لآت] .
* أملنا في الله كبير ، ورجاؤنا فيه عظيم ، فهيا بنا نشمر ونجتهد حتي ننال رضي
ربنا ...[ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا
وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ]
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
الوصية
الخامسة
اصبروا و صابروا
ما أعظم هذا التوجيه الربانى اصبروا و صابروا الذى يحمل فى حياته الكثير من
المعانى التى تعين على مواصلة السير إلى الله عز و جل و ما أحوجنا الى الله و
نحن نعيش أجواء غلبت عليها المادية و الشهوات و ساد فيه الظلم و الإيذاء
للمصلحين و أصحاب الدعوات و المبادئ و القيم و بات فيها الاسلام غريبا كما بدأ
غريبا فطوبى للغرباء.
* و لقد أمرنا الله عز وجل بالصبر}
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ
وَالصَّلاةِ
{
}
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ
بِاللَّهِ
{و
الصبر من الزم الامور فى طريق محبة الله و هو اثبات للمحبة و صحتها فاعظم الناس
محبة لله اشدهم صبرا و لهذا و صف الله تعالى بالصبر خاصة اولياءه و احبابه
}
إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً {
صبرٌُ مبعثه محبة الله و التقرب اليه لا لاظهار قوة قوة النفس و الاستحماد إلى
الخلق فصبر العبد بربه لا بنفسه فهو المعين و المصبر
* و الصبر هو حبس النفس عن المكروه و الصبر اللجميل هو الذى لا شكوى فيه و لا
معه و الشكوى لا تنافى الصبر
}
قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
{
}
وَأَيُّوبَ إِذْ
نَادَى
رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}
و إنما ينافى الصبر شكوى الله لا الشكوى الى الله
كما يقول الشاعر:
و اذا غرتك بلية فاصبر لها صبر الكريم فانه بك اعلم
و اذا شكوت الى ابن ادم انما تشكو الرحيم الى الذى لا يرحم
* و الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسم فاذا قطع الراس ذهب الجسد كله و
الصبر يجعل النفس و قفا على اوامره و محابه و هو من اعظم الدرجات و اصعبها على
العبد فالمسير من النفس الى الله صعب شديد و يحتاج الى اصحاب العزائم و الهمم
العالية و كما قيل :}الصبر
لله غناء و بالله تعالى بقاء وفى الله بلاء و مع الله وفاء و عن الله جفاء و
الصبر على الطلب عنوان الظفر و فى المحن عنوان الفرج{
* و الصبر يكون على طاعة الله و عن معصية و على امتحان الله و ما احوجنا و نحن
نحمل هذه الدعوة المباركة و الرسالة العظيمة و نحن نسعى لتمكين دين الله فى
الارض ان نتزود بالصبر الذى يعيببا على فعل الطاعات و التى تقربنا الى الله عز
وجل و تجنبنا المعاصى و الاثام التى بها يت؟أخر النصر و التمكين فان كنا نريد
عزة لهذا الدين و لهذه الامة فلابد ان نتحلى بخلق الصبر حتى نكون نماذج مشرفة و
معبرة لما ندعو اليه من مبادئ و قيم و اخلاق سامية جاء بها اسلامنا الحفيف و
تحققت فى سلفنا الصالح على مدار التاريخ
}
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ
الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ }
* و الصبر على الطاعة يحتاج الى دوام الطاعة و الاخلاص فيها و وقوفها على مقتضى
العلم كما ان الخوف من يوم الوعيد يحمل المرء على الصبر عن المعاصى و الاثام و
البعد عنها اما الصبر فى المحن على اذى الظالمين وعند النوازل و البلاء يستلزم
عدة امور اساسية منها:
اولا: ملاحظة حسن الجزاء و عظيم الثواب على صبره و ثباته و
على قدر اهل العزم تاتى العزائم
}و لمن صبر و غفر ان ذلك لمن عزم الامور{
و معرفة ان النعيم لا يدرك بالنعيم و على قدر التعب يكون الراحة كما قال النبى
صلى الله عليه و سلم
}ان
عظم الجزاء مع عظم البلاء{
و حلاوة اجر الشدةى تنسنا شدتها.
ثانيا: انتظار الفرج و مطالعته وترقبه يخفف حمل المشقة وتبعات
الطريق و ما يتعرض له من ابتلاءات ومحن.
ثالثا: تهوين البلية بامرين هما :
1- بأن نعد نعم الله و اياديه عندنا و إن البلاء
لقطرة من بحر.
2-
تذكر سوالف النعم التى أنعم الله به علينا فيما
مضى.
* و أختبار الله تعالى لعباده تارة بالمسار ليشكروا و تارة بالمضار ليصبروا
}عجبا
لأمر المؤمن فإن أمره كله خير و ليس لأحد إلا المؤمن فإن اصابته سراء شكر فكان
خيرا له و إن اصابته ضراء صبر فكان خير له
{
فصارت المنحة و المحنة جميعا بلاء فالمحنة مقتضية للصبر و المنحة مقتضية للشكر
و القيام بحقوق الصبر يسر من القيام بحقوق الشكر فصارت المنحة أعظم البلاءين و
لذا قال عمر رضى الله عنه
}
بلينا بالضراء فصبرنا و بلينا بالسراء فلم نصبر{
و يقول شيخ الاسلام ابن تيمية:}
من تمام نعمة الله على عباده المؤمينين ان ينزل بهم من الشدة و الضر ما يلجئهم
الى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين و يرجونه و لا يرجون احدا سواه فتتعلق
قلوبهم به لا بغيره{
و الجنة حفت بالمكاره و النار حفت بالشهوات و العبد الصالح يجرب بالبلاء و لا
ينا ما يريد الا بترك ما يشتهى و لن يبلغ ما يؤمل الا بالصبر على ما يكره و
العبد لا يدرى الخير اين
}
اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ {
و يقول سيدنا عمر رضى الله عنه
}لا
آبالى على أى حال أصبحت على ما أحب أم على ما أكره ذلك لأنى لا أدرى الخير فيما
أحب أو فيما أكره{
* و للصبر ثمار عظيمة الاصل منها :
اولا:
الثناء على أهله:}
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ
{
}
وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ
{
ثانيا:
محبة الله لهم :}
وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ
{
ثالثا:
معية الله لهم
}
وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
{
رابعا:
عظيم الجزاء و الثواب}
وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ
}{
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا....}{
إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ
حِسَابٍ
}{
وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ
}{
وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ
{
خامسا:
تدبر الايات و العمل بها}
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
{
سادسا:
الفوز بالجنة و النجاة من المكروه
}
سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى
الدَّارِ
{
سابعا:
المكانة العظيمة
}
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا
لَمَّا صَبَرُوا
{
احبة القلوب ....
أاصبروا بنفوسكم على طاعة الله و صابروا بقلوبكم على البلوى فى الله أصبروا
على النعماء و صابروا على الباساء و أصبروا على المشلق و المكاره و أصبروا على
تحمل التبعات العظام و أنتم تحملون أمانة و مسؤولية هذه الدعوة المباركة أصبروا
على السراء و الضراء تدخلون الجنة بسلام و هذا يتطلب منا عدة امور منها:
اولا:
ان نصبر على ان نتعلم امور ديننا الحفيف.
ثانيا:
أن نصبر على ان نعمل بما عملنا من امور ديننا.
ثالثا:
أن نصبر على ان ندعوا بما عملنا و عملنا.
رابعا:
أن نصبر على اذى الناس و نحن ندعوهم بما عملنا و علمنا.
* أن طريقنا يحتاج إلى صبر ساعة حتى نحقق الأمال العظام و الأهداف السامية و
الصبر يحتاج إلى رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه كما يحتاج الى أصحاب الهمم و
العزائم العالية... فهل ثمرنا و اجتهدنا حتى نكون من الصابرين فى الباساء و
الضراء و حين الباس..... فهل أدينا ما علينا حتاى نكون أمناء و أوفياء لما
عاهدنا الله عليه.
}
ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا
وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
{
فليكن هذا شعارنا الذى نعيش به و نعمل به و ندعو إليه.
و الله المستعان
الوصية
السادسة
لا تحزن بالبلاء ولا تفرح بالرخاء
ما أجمل هذه النصيحة الغالية التي أعلنها الإمام علي كرم الله وجهه في تلك
العبارة البليغة كلماتها ، الرائعة معانيها فيقول : [ يا ابن آدم لاتفرح
بالغنى ، ولا تقنط بالفقر ، ولا تحزن بالبلاء ، ولا تفرح بالرخاء ، فإن الذهب
يجرب بالنار ، وإن العبد الصالح يجرب بالبلاء ، وإنك لا تنال ما تريد إلا بترك
ما تشتهي ، ولن تبلغ ما تؤمل إلا بالصبر على ما تكره ، وابذل جهدك لرعاية ما
افترض عليك ، وارض بما أرادك الله له ] .
والفرج لذة تقع في القلب فيتولد من إدراكها حالة تسمح بالفرح والسرور ، ولا شيء
أحق أن يفرح العبد به من فضل الله ورحمته التي تتضمن الموعظة وشفاء الصدور من
أدوائها بالهدى والرحمة، فذلك خير من كل ما يفرح به الناس من أعراض الدنيا
وزينتها، والفرح تابع للمحبة والرغبة وهو أعلى أنواع نعيم القلب ولذته وبهجته،
والدنيا لا تتخلص أفراحها من أحزانها وأتراحها البتة، بل لا من فرحة إلا ومعها
ترحة سابقة أو مقارنة أو لاحقة ، وخير الفرح هو ما في أمور الآخرة كقوله تعالى
: ( فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) ، (
فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ) .
وسرور قلب المؤمن يذهب بثلاثة أحزان كما يقول الإمام ابن القيم رضي الله عنه
:-
الأول:
حزن أورثه خوف الانقطاع ، وهذا هو حزن المتخلفين عن ركب المحبين وهذا الحزن
يذهب بذوق طعم الإيمان.
الثاني:
حزن يذهب سرور الذوق، وهو حزن ظلمة الجهل [ جهل معرفة وعلم ، وجهل عمل وغي
].
الثالث:
حزن تفرق الهم والقلب عن الله عز وجل ، ففي القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على
الله ، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا
السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار
إليه.
فالبلاء لا يُحزن ، والرخاء لا يفرح ، ولكن ما يفرح القلب ويدخل السرور عليه هو
عظيم اقباله على الله ، وأنسه وقربه من الله ، وإدراكه لفضله عليه ونعمته التي
لا تعد ولا تحصى ، فهنيئاً لكل قلب يفرح بما أتاه الله من فضله ويستشعر رحمات
الله عليه ولطفه به.
أما حقيقة البلاء والمحن فهي سنة الله في خلقه ، كما في قوله تعالى : (
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ
بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ
الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ( الأنعام :165) ، وقوله تعالى :
(إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ
أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ( الكهف :7) ، والابتلاء مرتبط بالتمكين
ارتباطاً وثيقاً ، فلقد جرت سنة الله تعالى ألا يمكن لأمة إلا بعد أن تمر
بمراحل الأختيار المختلفة، وإلا بعد أن ينصهر معدنها في بوتقة الأحداث، فيميز
الله الخبيث من الطيب، وهي سنة جارية علي الأمة الإسلامية لا تتخلف ، كما هي
سنة كل الدعوات علي مدار التاريخ والإنسانية ، فقد شاء الله تعالي أن يبتلي
المؤمنين ويختبرهم ليمحص إيمانهم، ثمر يكون لهم التمكين في الأرض بعد ذلك ،
ولقد سئل الأمام الشافعي رضي الله عنه : أيهما أفضل للمرء ، أن يمكن أو يبتلي؟
فقال : لا يمكن حتي يبتلي ، فإن الله تعالي ابتلي نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى
ومحمداً صلوات الله وسلامة عليهم أجمعين فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أن يخلص
من الألم البتة، ولنا في رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم القدوة والمثل فقد
وضع الأذي علي رأسه وأدميت قدماه وشج وجهه، وحوصر في الشعب حتي أكل ورق الشجر،
وطرد من مكة وكسرت ثنيتة، واتهم في عرضة كما اتهم بأنه ساحر أو كاهن ، فيكون
الجواب الشافي للقلوب بقوله تعالي (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)
وقوله : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، وقوله جل شأنه ( وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ )
.
ولنا أيضاً في الصحابة الكرام النموذج والمثل فقد ضيق عليهم في الرزق ،
وسحبواعلي الرمضاء ، وحبس آخرون في العراء ، ومنهم من تفنن الاعداء في تعذيبه ،
وسلبوا أوطانهم ودورهم وأهليهم وأموالهم ، وابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً
شديداً وبلغت القلوب منهم الحناجر وظنوا بالله الظنونا، حتي قالوا للحبيب
المصطفي صلي الله عليه وسلم : ألا تدعو لنا ، ألا تستنصر لنا ، فما يكون من
النبي صلي الله عليه وسلم إلا أن يعطيهم الأمل والثقة في نصر الله ، وقد تحقق
لهم ما وعدهم به الله ورسوله صلي الله عليه وسلم.
والابتلاء قد يكون بالنعمة والسراء أو بالنعمة والضراء فكلاهما فتنة وإبتلاء من
الله عز وجل لعباده ، وقد يكون اختيار الله تعالي لعباده تاره بالمسار ليشكروا
، وتارة بالمضار ليصبروا ، فصارت المحنة والمنحه جميعاً بلاء، فالمحنه مقتضية
الصبر ، والمنحة مقتضية الشكر ، والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق
الشكر، فصارت المنحة أعظم البلاءين، ولهذا قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه [
بلينا بالضراء فصبرنا ، وبلينا بالسراء فلم نصبر] ، ومن تمام نعمة الله
علي عباده المؤمنين أن ينزل بهم من الشدة والضرّ ما يلجئهم إلي توحيده، فيدعونه
مخلصين له الدين، ويرجونه ولا يرجون أحداً سواه، فتتعلق قلوبهم به لا بغيره،
فيحصل لهم التوكل عليه، والأنابه إليه، وحلاوة الإيمان، وذوق طعمه، والبراءة من
الشرك.
والشدائد تقوي القلب ، وتمحو الذنب ، وتقصم الصجب ، وتشف الكبد ، وفيها من
إشكال للتذكر، وجلب عطف المخلوقين ، ودعاء من الصالحين. ومن خلق الله للجنة لم
تزل هداياها تأتيه من المكاره ، ومن خلق الله للنار لم تزل هداياها تأتيه من
الشهوات، والبلاء ليس لهلاك العبد ولكن امتحان للصبر والإيمان (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ
وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ
مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)
أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ
الْمُهْتَدُونَ ).
وقوله تعالي ( وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ
وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً).
وإن الله ليجرب أحدكم بالبلاء وهو أعلم به ، كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار فمنهم
من يخرج كالذهب الإبريز- أي الذهب الخالص – فذلك الذي نجاه الله تعالي من
السيئات ومنهم من يخرج كالذهب الأسود ، فذلك الذي قد أفتتن ، فسبحان من يرحم
ببلائه ويبتلي بنعمائه :
قد ينعم الله بالبلوي وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
ودوام الحال من المحال ، ولابد أن يمر الإنسان بالأحوال الثمانية التي عناها
القائل :
ثمانية تجري علي الناس كلهم ولابد للإنسان يلقي الثمانية
سرور وحزن ، واجتماع وفرقة وعسر ويسر ، ثم سقم وعافية
ومن النماذج الرائعة في الصبر علي البلاء وتحويل المحنة إلي منحة ، شيخ الإسلام
ابن تيمية رضوان الله عليه ، فإنه لما نزلت به المحنه وحبس ، يوصف بأنه كانت
حاله في إرتياح وسرور ، ورضا غامر فكان له بصائر من النور يبصر بها ، وحقائق من
العلم ينطق بها ، ودلائل من اليقين يعبر عنها ، فكان السجن له خلوة ، وكان يشكر
الله علي ذلك شكراً عظيماً ، وكان يقول : [ ماذا يصنع أعدائي بي
؟ فأن جنتي ومقامي في صدري ، أين رحت فهي معي لا تفارقني . إن حبسي خلوة ،
وقتلي شهادة ، وإخراجي من بلدي سياحة ] ، وكان يكثر في سجوده وهو محبوس : [
اللهم أعني علي ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ] ، وكان يقول لمن اشتد الخوف
عليهم وساءت منهم الظنون وضاقت بهم الأرض : [ إن في الدنيا جنة – يعني
بها جنة الإيمان بالله وما جاء به رسول الله صلي الله عليه وسلم ، من لم
يدخلها -
أي يتغلغل قلبه بها في الدنيا -
لا يدخل جنة الأخرة]
وكان يقول أيضا : [
المحبوس من حبس قلبه عن
ربه تعالي ، والمأسور من أسره هواه
] ، ونماذج الصبر والثبات في المحن والابتلاءات كثيرة علي مدار التاريخ ، وفي
سيرة الحبيب المصطفي صلي الله عليه وسلم والصحابة الكرام والسلف الصالح
والتابعين ، وواقعنا المعاصر به الكثير من هذه النماذج الرائعة ، وتتوالي
الأجيال وتبرز القدوات المؤثرة فيه بمدي صبرهم علي البلاء والمحن علي طريق
الدعوات ومناصرة المبادئ وتحقيق الآمال ، فهنيئاً لمن كان من هؤلاء ، وادراك
جنة الله في الدنيا حتي يدرك جنة الله في الأخرة.
إن ما يعين العبد على المحن وعند البلاء أمور عدة منها :-
أولاً:
اليقين : بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وأن
هذه الحياة سجن للمؤمن ودار للأحزان النكبات.
ثانياً:
الإيمان : بالقدر كله خيره وشره [ ونبلوكم بالخير والشر فتنه ] ،
والعلم بأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه
الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله
عليك .
ثالثاً:
تفويض الأمر إلى الله : والتسليم بأختيار الله لنا فهو الخير ، وكما
يقول سيدنا عمر رضي الله عنه : [ما أبالي علي أي حال أصبحت ، أعلى ما أحب ؟
أم على ما أكره ؟ ذلك لأني لا أدري الخير فيما أحب أو فيما أكره].
رابعاً:
التوكل على الله والثقة بوعده : وترك التدبير ، فللعقل حدود ينتهي بصر
العقل عندها ، وإنما علينا التسليم لله في تدبيره مع الأخذ بالأسباب ، ثم تفويض
الأمر إليه سبحانه وتعالى في عاقبة ما يقدره الله لنا من عطاء أو حرمان ، فإنه
أرحم بنا من أنفسنا ، وأعلم بما يضرنا وما ينفعنا ، فالله يعلم وأنتم لا تعلمون
.
خامساً:
الرضا بما قدر وانتظار الفرج : لأن القضاء مفروغ منه ، والمقدور واقع
فكل شيء بقضاء وقدر فإنه لا يقع في الكون إلا بعلم الله وبإذنه وبتقديره ،
وأفضل العبادة انتظار الفرج كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم .
سادساً:
الصبر على البلوى : والتحلي بالصبر من شيم الأفذاذ الذين يتلقون المكاره
برحابة صدر وبقوة إرادة ، والمؤمن مختبرٌ صدقه في كل حال، والثبات على مودة
الحق تأتينا مودة الخلق ، ولن نبلغ ما نأمله إلا بالصبر على ما نكره ، واصبر
وما صبرك إلا بالله ، فإن النصر مع الصبر ، وإن الفرج مع الكرب ، وإن مع العسر
يسراً.
سابعاً:
الإكثار من الذكر والاستغفار : فعن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال :
[ من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ، ومن كل ضيق مخرجاً
] .
ثامناً:
الدعاء بما ورد عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم : [ اللهم إني أسألك
إيماناً يباشر قلبي حتى أعلم أنه لا يصيبني إلا ما كتب لي ، ورضا عن المعيشة
بما قسمت لي ]
تاسعاً:
جلب السرور واستدعاء الانشراح ، وسؤال الله العيشة الراضية ورحابة البال فإنها
نعم عاجله.
اللهم إني أسالك نفساً بك مطمئنة تؤمن بلقائك ، وترضى بقضائك ، وتقنع بعطائك ،
وآخر دعوانا عن الحمد لله رب العالمين .
الوصية السابعة
اتقوا الله وكونوا مع الصادقين
ما
أعظم هذا النداء الإلهى من رب العالمين إلى عباده المؤمنين بأن يكونوا من
المتقين الصادقين الذين يراقبون الله عزوجل فى جميع الأقوال والأفعال، والذين
يصدقون فى الدين نية وقولاً وعملاً.
والتقوى هى الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والرضا بالقليل والإستعداد ليوم
الرحيل ، وهى تلك الحساسية فى النفس والشفافية فى الضمير التى تفرق بين الحق
والباطل وبين الحلال والحرام ، وبين الصواب والخطأ ، وبين الصلاح والفساد :
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ
فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ
ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) ] الانفال.
والتقوى هى نتاج طاعة الله عز وجل ولإجتناب معاصيه وهى التى تجعل فى القلب
الهداية والنور، ولقد تربى الصحابة الكرام على هذا المعنى الجميل، ولقد تبعهم
فى ذلك السلف الصالح والتابعين ثم سرعان ما تغيرالحال وتبدل، وأخلت القربة
برأسها، وظهرت البدع، وتطلع الناس إلى المال والجاه والسلطان وطلبوا الشهرة ولو
على حساب دينهم وعز وجود الاتقياء الأخفياء، وغابت حقيقة أن الله يحب الأتقياء
الأخفياء الأبرار الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا حضروا لم يعرفوا، مصابيح
الهدى يخرجون من كل غبراء مظلمة، والأتقياء الأخفياء هم قوم استقاموا على كتاب
الله وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحرصوا على الإخلاص فى العمل والصدق
مع الله فى كل قول وفعل وعمل.
والتقوى تستلزم أن تؤدى بحقها كما فى قوله تعالى : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ (102) ] آل عمران، وحق تقاته هو ان يطاع الله عز وجل فلا
يعصى وإن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر، كما تستلزم أيضاً مراقبة الله فى
جميع الأحوال والأقوال، والقول المستقيم المرضى لله عز وجل كما فى قوله :
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً
(70) ] الاحزاب.
والتقوى لها ثمار عظيمة وآثار كبيرة يفرج الله بها الكروب، ويكشف بها عنا
الخطوب، ويغفر لنا بها الذنوب، ويرزقنا بها من حيث لا نحتسب: [وَمَنْ
يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا
يَحْتَسِبُ ] .
فياأحبة القلوب لابد لنا من عودة مخلصة لمعالم الهدى والتقى، إصلاحاً للظاهر
والباطن والسر والعلانية ولا بد من العمل بطاعة الله على نور من الله راجين
ثوابه، فما سعدت الدنيا بمثل تقوى الله عز وجل، ولنتذكر قول الحبيب المصطفى صلى
الله عليه وسلم :- [ إن الله عز وجل يحب العبد التقى الخفى] نسأل الله
العظيم أن نكون منهم.
وأما الصدق فهو المردود العملى والسلوكى لهذه القيمة العظيمة والصفة النبيلة،
إلا وهى تقوى الله عزوجل ، والإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب، ويم
القيامة لا ينفع العبد ولا ينجيه من عذابه إلا صدقه كما فى قوله تعالى : [
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ] المائده
119.
والصدق يكون فى الأقوال والأعمال والحال فالصدق فى الأقوال هو إستدعاء اللسان
على الأقوال، والصدق فى الأعمال هو إستدعاء الأفعال على الأمر والمتابعة،
والصدق فى الأحوال هو إستدعاء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص وإستفراغ الوسع
وبذل الطاقة فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق.
والصدق يهدى إلى البر وإن البر يهدى إلى الجنة وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق
حتى يكتب عند الله صديقاً وإن الكذب يهدى إلى الفجور وإن الفجور يهدى إلى النار
وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً وهكذا علمنا الحبيب
المصطفي صلي الله عليه وسلم قيمة الصدق وآثرها في حياة الأمم والشعوب وما
أحوجنا اليوم ونحن نعيش في أجواء من الكذب الذي يهدي إلي الفجور، سواء كانوا من
بني ديننا أو وطننا أو كانوا غير ذلك، فحديثهم كذب، وأفعالهم كذب، وأحوالهم
كذب... وحريُُ بنا نحن أصحاب الدعوات والمبادئ والقيم والأخلاق أن نتحلي بقيمة
الصدق كما كان عليه صحابة الرسول صلي الله عليه وسلم والسلف الصالح من بعدهم،
وإن نعمل بما نقول ونصدق فيما نعهد، ونعلم أن الله مطلعُُ علينا يعلم خفايا
الأنفس والصدور، ونستشعر قول ربنا سبحانه وتعالي: [فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ
لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ ] محمد 21 وقوله : [لِيَجْزِيَ اللَّهُ
الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ
يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ].
ومن علامات الصدق طمأنينة القلب، وفي ذلك يقول النبي صلي الله عليه وسلم [دع
ما يريبك إلي ملا يريبك ، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة]، وأعلي مراتب
الصدق الصديقية وهي كمال الأخلاص والانقياد، والمتابعة للخبر والأمر ظاهراً
وباطناً، ومثلنا في ذلك سيدنا أبو بكر الصديق، الذي وصل بصدقة وتسليمه وانقياده
إلي مرتبة الصديق فكانت له هذه المنزله العظيمة والمكانة الكبيرة.
ومن الصدق الوفاء لله بالعمل، وموافقة السر العلانية، وقول الحق في مواطن
الهلكة، وكلمة الحق عند من نخافة أو نرجوه، وأول الصدق صدق النية وبه يتلاقي كل
تفريط ، ويتدارك كل فائت ، ويعمر كل خراب.
والصادق حقيقة :
هو الذي قد انجذبت قوي روحة كلها إلي إرادة الله وطلبه، والسير إليه،
والاستعداد للقائه، ومن تكون هذه حالة : لا يحتمل سبباً يدعوه إلي نقض عهده مع
الله بوجه ، وكذلك لا يصبر علي صحبة أهل الغفلة، فإن قلب الصادق قوي الإحساس
يستشعر صدق الأخرين فيقبل بقلبه عليهم ، كما يستشعر كذب الكاذبين فينفر قلبه
منهم.
والصادق مطلوبه رضا ربه وتنفيذ أوامره، وتتبع محابه فهو متقلب فيها يسير معها
أين توجهت إلي أنواع القرب والمنافع ، وحمل الصدق كحمل الجبال الرواسي لا يطيقة
إلا أصحاب العزائم، والصادق لا تراه إلا في فرض يؤديه أو فضل يعمل به، والصادق
يسير علي نهج الحبيب المصطفي صلي الله عليه وسلم في ظاهره وباطنه، والأقتداء
به، والتعبد بطاعته في كل حركة وسكون مع إحلاص القصد لله عز وجل، فإن الله
تعالي لا يرضيه من عبده إلا ذلك.
وحقيقة الصدق أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب، وإن أشرف خصال الرجل صدق
اللسان، ومن عَدمَ فضيلة الصدق فقد فجع بأكرم أخلاقة والصدق والكذب يعتركان في
القلب حتي يُخرج أحدهما صاحبه، والصدق قد يبدو في القلب ضعيفاً، فيتفقده صاحبة
فيزيده الله تعالي حتي يجعله الله بركة علي نفسه ويكون كلامه كله صدق، فالصدق
يكون في ثلاثة أشياء لا تتم إلا به: صدق القلب بالأيمان تحقيقاً، وصدق النيه في
الأعمال، وصدق اللفظ في الكلام، فالصدق لو وضع علي جرح لبرئ، ويقول الله عز وجل:[
وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ]
الزمر33.
واعظم درجات الصدق وأعلاها مرتبة:
من سأل الله تعالي الشهادة بصدق كما علمنا رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم في
قوله:[ من سأل الله تعالي الشهادة بصدق بلغة الله منازل الشهداء وإن مات علي
فراشة]، ولا يكون ذلك إلا لمن أطاع الله والرسول صلي الله عليه وسلم وجاهد في
سبيل نصره دينه كما قال الله عزوجل :[ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ
فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ
رَفِيقاً] النساء : 69.
والصدق منزلة عظيمة عند الله عزوجل، وله ثواب جزيل وأجر كريم، وفي ذلك يقول
الله عزوجل:[ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ
لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]
المائدة: 119 ويقول الله تعالي :[ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ
قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ] يونس :2 ويقول أيضاً : [إِنَّ
الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ
مُقْتَدِرٍ (55)] القمر.
فياآحبة القلوب ونور العيون :
هلم بنا إلي صدق ينجينا من عذاب ربنا ، هلمَّ بنا إلي صدق يدخلنا جنة ربنا،
هلمَّ بنا إلي مقعد صدقٍ عند ربنا، هلمَّ بنا إلي مرضات ربنا، هلمَّ بنا إلي
صدق يجعلنا من الشهداء عند ربنا، هلمَّ بنا إلي يوم ينفع الصادقين صدقهم، هلمَّ
بنا إلي قول ربنا :[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)]، نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن
نكون من الصادقين المجاهدين الأوفياء لدينهم ولدعوتهم، والرافعين لراية الحق
والمضحين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، ويصدق فينا قول ربنا :[ مِنْ
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّه عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ
مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً
(23) ] اللهم آمين
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الوصية الثامنة
أدم ذكر الله تنل قربه
إن القلوب فى سيرها إلي
الله عز وجل تحتاج إلي زاد يعينها علي مشاق الطريق ، ويجعلها تصفوا إلي خالقها
وبارئها في ظل هذه المتع والشهوات الزائلة التي تسود في حياتنا وتجعل قلوبنا
تصدأ مما قد يعلق بها من شوائب هذه الدنيا الفانية ، ولذا فإن قلوبنا تحتاج إلي
جلاء لها مما علق بها أو أثر فيها ، ولكل شئ جلاء ، وخير جلاء لهذه القلوب هو
ذكر الله تعالي ، والذي يطمئن القلوب وتخشع لخالقها ، وبدوام ذكره تنل قربه
فيهون عليها ما في هذه الدنيا من متاع الغرور ، وتوقن بأن الآخرة هي خيرٌ للذين
يتقون.
* فالذكر هو جلاء القلوب وصقالها ودوائها ،وكلما ازداد الذكر في المحبه التي
تجعلنا نصبر علي تلك المكاره والمصاعب التي تعترض طريقنا الي جنه الرضوان ،فالجنه
حفت المكاره والنار حفت بالشهوات.
* والذكر هو حياة القلوب
التي لا يذيب قسوتها إلا ذكر الله ،ومتي فارق ذكر الله تلك القلوب صارت الأجساد
لها قبورا ، فتحرم هذه القلوب من الأنوار الألهية التي تجعلها موصولة بربها ،
والتي تهتدي بها وتخرجها من الظلمات إلي النور ، ومن ضيق الدنيا إلي سعة الآخرة
، وللذكر نور في القلب والوجة والأعضاء كما هو نور العبد في دنياه وآخرته.
* وبالذكر ندفع الآفات
والأمراض التى تعترى قلوبنا وأجسادنا ، وبالذكر نستكشف الكربات وتهون علينا
المصيبات ، والذكر هو رياض الجنة التي فيها نرتفع ، وتتقلب بها قلوبنا وتجعل
القلوب الحزينة ضاحكة مسرورة ، وصدق رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم في قوله
:( أيها الناس إرتعوا في رياض الجنه ، قولنا يا رسول الله وما رياض الجنة ؟
جالس الذكر ).
*وللذكر منزلة عظيمة وفضل
كبير ولهذا أمرنا الله عز وجل به في قولة تعالي :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً )(41)( الأحزاب) ، والذكر الكثير
هو الذي لا يفارق القلب و اللسان ، بل هما فى ذكر دائم لله عز وجل ، وفي جميع
الأوقات والأحوال كما في قوله جل شأنه :( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ
قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ
فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)(191)
( آل عمران) ، ولقد سئل
الني صلي الله عليه وسلم أى الأعمال أفضل ؟ فقال ( أن تغادر الدينا ولسانك رطب
بذكر الله).
* وعندما أمرنا الله عز
وجل بالذكر ، فقد نهانا سبحانه وتعالي أن ننشغل عن ذكره بقوله عز وجل :( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ
عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ)
(9) ( المنافقون) ، وقد تمر علينا الأوقات ونحن في شغل عن ذكر الله ، سواء كان
ذلك لهوا أو نسياناً أو إنشغالاً بالأموال والأولاد ، وتلك هي طبيعة الحياة كما
هي طبيعة الإنسان ، فهل لنا من يقظة لقلوب غافلة عن ذكر الله؟ وهل لنا من عزم
وصدق في إتباع أوامر الله ونواهية ومنها ألا نتبع من أغفل قلبه عن ذكر الله كما
في قوله تعالي : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (28)(الكهف).
* ومن أراد الفلاح في
الدنيا والآخره فعليه بالذكرالدائم الكثير كما ذكر الله عز وجل في قوله
(وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (10)(المنافقون)
والعلاقة بين الذكر والفلاح علاقة طردية ، أى كما زاد الذكر زاد الفلاح ، وكلما
دام الذكر تحقق الأمان من نسيانة ، الذي هو سبب شقاء العبد في معاشة ومعاده ،
وإذا نسي العبد نفسه أعرض عن مصلحتها ونسيها ، وإشتغل عنها فهلكت وفسدت
للأبد...
* والذكر يوجب القرب من
الله عز وجل فتكون له منزله عظيمة في السموات والأرض ولهذا جعله الله زكاوة
لعباده مرطباً بذكرهم له في قوله :
(فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (152)(البقرة) وفي الحديث
القدسي : (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير
منهم )
* والذكر فيه شفاء للقلب ودواؤه ، ومن ذكر الله عز وجل يُسهل الصعب ، وييسر له
السير، ويخفف المشاق ، وما ذكر العبد ربه علي صعب إلا هان ، ولا علي عسيرإلا
تيسير ، ولا مشقة إلا خفت ، ولا شدة إلا زالت ، ولا كربة إلا إنفرجت ، فذكر
الله تعالى هو الفرج بعد الشدة ، واليسر بعد العسر ، والفرج بعد الغم والهم ،
فمن أراد محبة الله تعالى فعليه بالذكر ، ومتى تعرف العبد بربه فى الرخاء عرفه
الله فى الشدة ، ومن أراد أن يختم أعماله الصالحة فعليه بالذكر كما فى قوله
تعالى : ( فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً
وَقُعُوداً ) ، وكما ذكر فى الجهاد : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ) (45)(الأنفال).
* وللذكر آداب يجب على العبد أن يلتزم بها ، ومن هذه الآداب :
·
حضور القلب وعدم الإنشغال بشئ عن ذكره.
·
الحرص على الذكر فى الأحوال والأوقات المفصلة مثل الثلث الأخير من الليل ووقت
السحر وإلخ...
·
إستقبال القبلة.
·
خفض الصوت بين المخافتة والجهر.
·
التضرع والخشوع فى الدعاء والذكر.
·
الإلحاح فى الدعاء.
·
التوبة ورد المظالم.
·
اليقين بالإجابة.
* وللذكر فوائد عظيمة ، وهو أيسر العبادات وأفضلها ، وهو غراس الجنة ، وهو نور
للعبد فى دنياه وقبره ويوم حشره ، ويؤمن العبد من الحسرة يوم القيامة ، وبه
تحصل العطايا والثواب من الله تعالى.
* فيا أحبة القلوب .... أكثروا من ذكر الله ، واحرصوا على المداومة عليه فى كل
الأوقات والأحوال ، واستشعروا حلاوته بقلوب خاشعة متضرعة لله عز وجل ولنوقن بإن
من آدام ذكر الله نال قربه ....
نسأل الله العظيم أن نكون من الذاكرين لله كثيراً .... اللهم إعنا على ذكرك
وشكرك وحسن عبادتك .... اللهم آمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله
رب العالمين
**************
القرآن بستان القلوب
إن القرآن الكريم دستور هذه الأمة وميثاقها ، ولقد بعث به الرسول صلى الله عليه
وسلم لهداية البشرية جمعاء ، ولقد تربت عليه صحابته الكرام ، وتعلموا أحكامه
وأوامره ، فكان لهم نبراساً يهتدوا به فى جميع شئونهم ، كما كان لهم نوراً
وشفيقاً فى آخرتهم ، فكانوا بحق ذلك الجيل القرآنى الفريد ، فهانت لهم الدنيا
كما سادت لهم البشرية جمعاء ، فحقق الله على أيديهم النصر والتمكين لهذه الأمة
ولهذا الدين العظيم.
ثم خلفهم من بعدهم سلفٌ صالح ساروا على نهجهم والتزموا بالقرآن دستوراً ومنهجاً
، وكان أسوتهم وقدوتهم الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم فنشروا هذا الدين ،
وتربى على أيديهم أبناء هذه الأمة الذين رفعوا راية الحق وضحوا فى سبيلها بكل
غال ونفيس ، فكانوا بذلك خير خلفاً لخير سالف.
ثم تبدل الحال على على مر الأزمان وهجر المسلمون القرآن ولم يلتزموا بمنهجه
وسنة النبى صلى الله عليه وسلم ، فتراجعت الأمة رويداً رويداً ، وتدهورت قيمها
وحضارتها حتى صارت إلى ما نحن عليه الآن من ضعف وتشتت ، وحتى أصبحنا أمة تتداعى
عليها كما تتداعي الأكلة على قصعتها ، فتمزقت الأمة إلى دويلات ثم إلى عصيبات
ومناهب وعريفات ، وسار بأسنا بيننا شديد ، وهنا ما قصده أعداء هذه الأمة وعملوا
على تحقيقه فى ظل غيابنا عن منهجنا ودستورنا. فإذا كان هذا هو الحال فهل لنا من
سبيل لرفعة هذه الأمة والتمكين لدين الله فى الأرض؟
إن السبيل لإنقاذ هذه الأمة والعمل على نهضتنا والتمكين لها يحتاج إلى اعداد
جيل يتمسك بالقرآن دستوراً ومنهجاً ، وأن يعمل على تحقيقه فى واقع الأمة ، وأن
يضحى من أجله ، ويعض عليه النواجز حتى يفعل الله أمراً كان مفعولاً ، وهذا
الأمر يلقى علينا بالتبعة الكبيرة والأمانة العظيمة ، وأن نكون نموذجاً وقدوة
يحتذى بها ، ويسير على هديها شباب هذه الأمة ، وحتى يتحقق ذلك فإننا بحاجة إلى
عدة أمور منها :
أولاً:-
أن ندرك فضل القرآن ومنزلته العظيمة حتى تنشغل به قلوبنا ، ويكون له مكانته فى
نفوسنا ، فيصبح بحق بستان القلوب وبستان العارفين ولتبيان ذلك يقول الحبيب
المصطفى صلى اله عليه وسلم فى أحاديثه النبوية ما يلى :-
1. "أهل القرآن أهل الله وخاصته" هكذا كان التوجيه النبوى لنا ، والذى
يحفزنا على أن نتسابق حتى نكون من أهل الله وخاصته ، ومن منا لا يريد ذلك ؟؟ بل
هو شغل العاملون للإسلام وجل همهم ومرادهم لتحقيق ذلك.
2. خيركم من تعلم القرآن وعلمه أليست هذه الخيرية هى التى أوصانا بهما رسولنا
الكريم صلى الله عليه وسلم تستحق منا بذل الجهود الكثيرة والطاقات العظيمة فى
تعلم القرآن وتعليمه لمن حولنا ولمن بعدنا ؟
3. مثل المؤمن الذى يقرأ القرآن مثل الأُتُرجة وهى الفاكهة : ريحها طيبة
وطعمها طيب ، ومثل المؤمن الذى لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح له وطعمها
حلو ، فمن منا لا يريد أن يكون ريحه طيب وطعمه طيب ، ومن منا يقبل بأن يكون بلا
رائحة وإن كان طعمه حلو ، فهلم إلى ما أعده الله لنا فإن القرآن مآدبة الله
فاقبلوا مأدبته ما اسطتعتم.
4. إن الذى ليس فى جوفه شيئ من القرآن كالبيت الحزب وكيف ذلك والله عز وجل
يدعوننا إلى ما يحى به القلوب كما فى قوله " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ "
فالقرآن حياة القلوب وبساتينها التى تتريض فيها النفوس ونرتقى إلى العلا.
5. إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد ، فقيل : يا رسول الله وما جلاؤها ؟ فقال
: "تلاوة القرآن وذكر الموت" وما أكثر الذنوب التى أثرت فى قلوبنا ، وهل
ما نحن فيه إلا بهذا الران الذى على قلوبنا ؟ فإن كان جلاء قلوبنا هو القرآن ،
فلنقبل عليه خاشعين متضرعين لله عز وجل حتى تلين قلوبنا ، ولنستشعر هذه الآية
الكريمة : " أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ
لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ...."
6. إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع آخرين ، إنها الرفعة العظيمة
والمنزلة الكريمة عند مالك الملك الذى يضر من يشاء ويذل من يشاء وهو على كل شيئ
قدير ، فهل لن من سعى حثيث وعمل دؤوب متواصل حتى نصل إلى هذه المنزلة التى
يرفعنا بها اللع ويعزنا بهذا القرآن العظيم
7. اقرؤا القرآن فإنه يأتى يوم القيامة شفيعاً لأصحابه ، أنه لجهد يسير لبلوغ
منزلة الشفاعة عند ربنا بهذا القرآن العظيم ، فهل تهنأ لنا عين بنوم بعد ذلك ؟؟
وهل ينصرف قلب عن قراءة القرآن ودوام تلاوته بالليل والنهار ؟؟
8. "الذى يقرأ القرآن وهو ماهراً به مع الصفرة الكرام البررة" فيالها
من مكانة رفيعة أن نكون مع الملائكة الأطهار الأبرار ، ولكن الأمر يحتاج إلى
يقظة القلب ، ثم قصد وعزم حتى نكون من الماهرين بالقرآن.
9. يقال لصاحب القرآن : إقرأ وإرتق ورتل كما كنت ترتل فى الدنيا فمنزلتك عند
آخر آية تقرؤها ، فيالها من درجات عليا يرتقى إليها العبد بحسن تلاوته وترتيله
لآياته القرآن وتدبره له ، ويقول النبى صلى الله عليه وسلم لابى ذر رضى الله
عنه : " عليك بتلاوة القرآن فإنه نور لك فى الأرض وذخر لك فى السماء".
10. "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشرة أمثاله...."
فهنيئاً لمن كثرت قراءته للقرآن فكثرت حسناته وتضاعفت ، فإنه كلام الله الذى
نتعبد به فى صلاتنا وقيامنا وذكرنا وجميع أحوالنا ، أنها نعمة عظيمة من الله
بها علينا ، فهل نكون لها شاكرين وعليها محافظين.
ثانياً :- الإكثار من تلاوته والتعبد بقراءته والتقرب إلى الله تبارك وتعالى به
، ومراعاة ما يلزم ذلك من آداب والتى منها :-
أن تكون على وضوء ونستقبل القبلة.
حسن الترتيل بما يحقق المقصودين القراءة.
إستحباب البكاء مع القراءة " رتلوا القرآن وابكوا وإن لم تبكوا فتباكوا".
تحسين الصوت ، والتوازن بين المخافتة والجهر إلى الحد الذى الذى يسمع به نفسه
" زينوا القرآن بأصواتكم".
الحرص على أن يكون لنا ورد يومى نختم به القرآن مرة فى الشهر على الأقل.
ثالثاً :-
الحرص على الفهم والتدبر لآياته ومعايشة معانيه وما فيه من عبر وهذا يتطلب
عدة أمور :
إستشعار عظمة الكلام وعلوه ، والتعظيم للمتكلم وأنه من كلام الله عز وجل.
حضور القلب وترك حديث النفس ، والتجرد له عند قراءته ، وتخلية القلوب من موانع
الفهم.
الجد والإجتهاد وإنصراف الهمة إليه " يا يحيى خذ الكتاب بقوة".
التدبر، وهو المقصود من القراءة قال على رضى الله عنه : "لا خير فى عبادة لا
فقه فيها ، ولا فى قراءة لا تدبر فيها".
التفهم وهو استيضاح من كل آية ما يليق بها ، دون تكلف أو إعتساف.
التخصيص لا التصميم : وهو أن يستأثر القلب بآثار مختلفة حسب إختلاف الآية فيكون
له بحسب كل منهم حال يتصف بها قلبه من الحزن والخوف والرجاء.
التضرع والإبتهال لأنه يسمع الكلام من الله عز وجل ، وأنه ناظر إليه ويستمع
منه.
الحياء والتعظيم لأنه قلبه يشهد كأن الله يراه ويخاطبه ويناجيه.
أن يتبرأ من حوله وقوته ، والإلتفاف إلى نفسه ، فإذا تلا آيات الوعيد والمدح
للصالحين فلا يشهد نفسه عند ذلك ، بل يشهد الموقنين والصديقين منها ، ويتشوق
إلى أن يلحقه الله بهم ، وإذا تلا آيات المقت وذم العصاة وشهد على نفسه هناك ،
وقد رأى أنه هو المخاطب خوفاً وإشفاقاً.
رابعاً :-
التنطبيق العملى لإحكام القرآن فى جميع الأقوال والأفعال ويتطلب ذلك :
الوقوف عند أوامر الله وأحكامه ونواهيه ، وإستخلاص منها ما يجب القيام به
لتحقيق ذلك.
مراجعة واقع الحال ، وما يلزم من إستكمال وإستدراك حتى يتحقق بأوامره ونواهيه.
تحديد الوقت الكافى للتطبيق والممارسة العملية حتى تتحول العواطف والمشاعر إلى
سلوكيات وأفعال ، وما يلزم ذلك من أساليب ووسائل تعيين النفس على ذلك.
التقويم الدئم لواقعالممارسة العملية والتطبيق ، وتحديد أوجه القصور إن وجدت
وكيفية العلاج والمدى المناسب له.
كل هذه الخطوات بشكل مناسب يسهل الرجوع إليها والوقوف على مدى تحقق بها.
خامساً :-
إعداد وتربية الدوائر المحيطة على فهم وتدبرالقرآن والعمل به فى حياتهم
وسلوكياتهم ويتطلب ذلك :
توعية الأفراد بأهمية التمسك بالقرآن وإتخاذه منهجنا ودستوراً.
تعهد الأفراد المحيطين بنا ، وتعليمهم كيف يتعاملون مع القرآن ويجعلونه سلوكاً
فى واقعهم وكما قالت السيدة عائشة رضى الله عنها " كان صلى الله عليه وسلم
خلقه القرآن ، كان قرآناً يمشى على الأرض".
إستخلاص الدروس والعبر ، وتربية الأفراد عليها بما يحقق إعداد جيل يؤمن بتعاليم
القرآن ويعمل على إنفاذها فى واقع الأمة.
توجيه الأفراد لنشر التعاليم الإسلام داخل شرائع المجتمع المختلفة ، كما قال
الإمام المؤسس " أنتم روح جديد تسرى فى هذه الأمة بالقرآن".
فيا أحبة القلوب ونور العيون
... اقبلوا على كتاب ربكم واحفظوه فى قلوبكم ، ونوراً به عقولكم ... واعلموا
على تحقيقه فى واقعكم سلوكاً وعملاً
وتطبيقاً ... واعلموا بأن اسلافكم الكرام لم ينتصروا إلا بقوة إيمانها وذكاء
أرواحهم وصفاء نفوسهم واتباع لتعاليم دينكم والسير على نهج رسولكم صلى الله
عليه وسلم ، نسأل الله العظيم أن نكون من أهل القرآن وأهل الله وخاصته ...
الللهم آمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الوصية التاسعة
صلوا بالليل والناس نيام
إن القلوب تحتاج إلي زاد روحي تستطيع أن تتحمل به أعباء التكليف وهي في طريق
سيرها إلي الله عز وجل، وإنه لطريق طويل به الكثير من الصعاب والمشاق ولا يقدر
علي مواصلة السير فيه إلا أصحاب العزائم الصادقة والقلوب الموصلة بالله عزوجل،
وللذا وجب علينا أن نتزود روحياً لتقوية القلوب كما نتزود بالطعام والشراب
لتقوية الأبدان، وإن من أمراض القلوب ما هو أشد فتكاً من أمراض الأبدان، ولهذا
فإن قلوبنا تحتاج إلي رعاية وتعهد حتي تستقيم علي أمر الله، كما تحتاج أيضاً
إلي المراقبة والمحاسبة والمجاهدة حتي تبلغ العلا من الجنان ، ولنشتشعر قوله
تعالي:" وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ
اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)" ، إنه جهادُ طويلٌ مع النفس ، وتحتاج
إلي الصبر والمصابره كما يحتاج إلي القلوب المخلصة والنفوس الفتية لاصادقة في
إيمانها مع الله عزوجل ، ولنتذكر سوياً قوله تعالي :" أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (200)".
ومن هذا الزاد الروحي والايماني قيام الليل ، ولقد ربي النبي صلي الله عليه
وسلم الصحابة الكرام وجعلهم نماذج إيمانية رائعة يُضرب بها الأمثال حتي يومنا
هذا ، وأصبح الرجل منهم أمة ، وفي هذا يذكرنا النبي صلي الله عليه وسلم بفضل
صلاة الليل فيقول :" أفضل الصلاة بعد المكتوبه قيام الليل" ، ويجعل
الحبيب المصطفي صلي الله عليه وسلم الرجوله مرتبطة بقيام الليل فيقول : "
نعم الرجل عبد الله لو كان يُصلي بالليل" ، ولقد كان نبينا صلي الله عليه
وسلم قدوة وآسوة في ذلك ، وعن ذلك تحدثنا السيدة عائشة رضي الله عنها فيقول :
"كان النبي صلي الله عليه وسلم يقوم من الليل حتي تتفطر قدماه ، فقلت له :
لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، قال أفلا
أكون عبداً شكوراً" ، فمن أراد المغفرة من الذنوب والآثام فعليه بقيام
الليل ، ومن أراد أن يكون من الشاكرين لله علي نعمه وآلائه فعليه بقيام الليل ،
ومن أراد أن تتنزل عليه رحمات الله عليه وعلي آل بيته فعليه بقيام الليل ، ولقد
روي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال " رحم الله رجلاً قام من الليل فصلي
وأيقظ أمرأته ، فإن آبت نضح في وجهها الماء ، ورحم الله امرأة قامت من الليل
فصلت وأيقظت زوجها فإن آبت نضحت في وجهه الماء" ، ويقول أيضاً الحبيب المصطفي
صلي الله عليه وسلم : " إذا ايقظ الرجل أهله من الليل فصليا أو صلي ركعتين
جميعاً كتب في الذاكرين والذكرات " .
ولذا هنا نحتاج إلي وقفه متأمله نقارن فيها بين ما هو منشود وما هو كائن، فكم
منا حريصٌ علي قيام الليل ؟ ، وكم منا حريصٌ علي إيقاظ أهله لقيام الليل؟ ، وكم
منا حريصٌ علي أن يصلي بأهله ركعتين حتي يكتب هو وأهله في الذاكرين والذكرات؟
أنه وقفة مراجعة للنفس نستدرك بها ما فات ونحرص فيها علي ما هو آت حتي نبلغ
الجنان.
آحبة القلوب ...
لقد وصف الله تعالي المؤمنين بصفات في كتابه الكريم ، ومن هذه الصفات الجلية
صفة قيام الليل بما لها من منزله عظيمة عند الله عزوجل ، وما أجمل هذا التعبير
القرآني في قوله تعالي : " أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً
وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ" أنها حياة
المؤمنين الذين يرحون رحمة الله ويخافون عقابه ويبتغون ما في الأخرة من الأجر
والثواب والمنزله الرفيعة ، ويتكرر ذات المعني في قوله تعالي :" وَالَّذِينَ
يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً" أنها صورة جميلة للعبد
المؤمن الذي يبيت لربه ملبين ساجداً أو قائماً ، ثم تنتقل بنا الآيات إلي قوله
تعالي : " تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16)" أنه الحب الذي
يملأ القلب ويحرك المشاعر والجوارح فتتجافي جنوبها عن المضاجع، ويتضرعون إلي
الله عزوجل خاشعة قلوبهم ما بين الخوف والرجاء ، وهكذا يكون حال العبد المؤمن
من محبة وخوف ورجاء ، ثم يصف القرآن عباده الصالحين بقوله تعالي: " كَانُوا
قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ (18)" ، وما أجمل الاستغفار والمناجاة عند الاسحار والناس
نيام ، فتخبت قلوبهم لله عزوجل فيطهرها مما علق بها من الذنوب والآثار طوال
يومها ، ثم تكون الحكمة التي أراد الله لعباده من قيام الليل ، وذلك في قوله
تعالي: " وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ
يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً (79) " أنه المقام الرفيع الذي لا
يبلغه إلا أصحاب البصائر والقلوب الموصوله بالله عزوجل فهل يا تري تكون من
هؤلاء ، نسأل الله أن تكون من رهبان الليل أمين.
وقيام الليل قد يكون كله أو نصفه أو ثلثه أو أدني من ذلك ، وهذا يترتب علي
توفيق الله أولاً لعباده ثم الأخذ بالأسباب التي تعين علي قيام ، ومن هذه
الأسباب التي تعين العبد عم الإكثار من الطعام والشراب حتي لا يغلبه النوم ،
وأن يجتنب الاوزار بالنهار فإن ذلك مما يقسي القلب ويحول بينه وبين أسباب
الرحمه ، وأن يحرص علي تنظيم وقت الراحة حتي تستطيع الجوارح مواصلة قيام الليل
، ومن الأسباب أيضاً سلامة القلب من الاحقاد والضغائن، والحرص علي عدم الأنشغال
بهموم الدنيا ، والتفكر في حال الأخرة وأهوالها توقظ القلوب النائمة والغافله
عن ذكر ربها.
وهناك نماذج رائعه من الصحابه رضوان الله عليهم ومن السلف الصالح كان حالهم كما
وصفهم ربهم " كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون" ومن هذه النماذج ، عبد
الله ابن مسعود رضي الله عنه كان إذا هدأت العيون قام ، فيسمع له دوي كدوي
النحل حتي يصبح ، ويروي عن أحد السلف الصالح أنه إذا جن عليه الليل ، يأتي
فراشه فيمر يده عليه ويقول : إنك للين ، ووالله إن في الجنة لألين منك ولا يزال
يصلي الليل كله ، كما يروي عن القائد صلاح الدين الأيوبي أنه كان يتفقد الجند
أثناء المعارك فيمر علي الخيام فإذا سمع منها القرآن يقرأ وقيام الليل فيقول :
من هنا أتي النصر ، وإذا مر علي خيام أصحابها لاهون ويلعبون ويضحكون فيقول من
هنا تأتي الهزيمة ، فيآحبة القلوب ... يا من تريدون نصر الله لكم في دنياكم
وآخرتكم .. هل لنا من عزمٍ وجدٍ نحرص بهم علي قيام الليل كما قال الشاعر:-
يا رجال الليل هبوا رب صوت لا يرد
لا يقوم الليل
إلا
من
له
عزم
وجد
فيا آحبة القلوب
... هبوا لقيام الليل ، وتزودوا فإن خير الزاد التقوي ، واعلموا أن الله ناظرٌ
إليكم ويباهي بكم ملائكته ، فأحرصوا علي طاعة ربكم تبلغوا جنته ورضوانه.
نسأل الله العظيم أن يجعلنا من عباده الصالحين القائمين المستغفرين بلإسحار ...
آمين
وآخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين