جاء في تعريف النصيحة لابن الأثير: النصيحة كلمة يُعبَّر بها جملةً عن "إرادة الخير للمنصوح"، والنصيحة كما جاء في (لسان العرب) مشتقة من الفعل "نصح" أي: خلص، والناصح: النقي الخالص من كل شيء، والنصح: نقيض الغش، ويُقال: نصحت له أي: أخلصت وصدقت.

النصيحة من خصائص هذا الدين، وهي من دعائم استقامة الأمة واستقرارها، وعلامة من علامات النضج الفكري لمن يمارسها وكذلك من يستقبلها.

وما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا صورةٌ من صور النصيحة، التي يستقيم بها حال المأمور بالمعروف والمنهي عن المنكر (المنصوح)، فيتبدَّل سلوكه من الخطأ إلى الصواب:

﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.. [آل عمران: من الآية 110]

 وفي المقابل:

﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [79المائدة].

 وبالتالي فإن التمسك بأدائها والحرص على ممارستها يُدلِّل على حياة الأمة ورغبتها في التقدم والتصدُّر والاستمرار في الخيرية.

 كانت النصيحة الوظيفة الرئيسية التي جاء بها الأنبياء والمرسلون لأقوامهم، متلمِّسين هدايتَهم وتصحيحَ مسارهم وإصلاحَ دنياهم وآخرتهم.

 فلقد نصح نوح عليه السلام قومه قائلاً:

 ﴿قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [63الأعراف].

وجاءت النصيحة على لسان هود لقومه قائلاً:

﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) (الأعراف)، وعلى لسان صالح لقومه قائلاً: ﴿فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾ [79الأعراف].

 إنها مهمة من أشرف المهمَّات التي يقوم بها العبد، ذلك أن خيرها يتجاوز مؤديَها والقائمَ بها، فالأصل في تأديتها إرادة الخير والحق للمنصوح، فهي تحمل معاني الحرص والحب والإخلاص والصراحة والوضوح مع من ننصحهم.

  ورغم أن النصيحة المراد بها الخير دائمًا للمنصوح، واستقامة أمره، وتصحيح مساره، إلا أن المنصوحين في بعض الأحيان يتمرَّدون على الناصح، ويرفضون نصيحته، استكبارًا وعلوًّا بغير الحق، بَيد أن هؤلاء المستقبلين للنصيحة قد تملَّكهم الشيطان، وسيطر عليهم الهوى، فأبوا إلا أن يذعنوا لنفوسهم الأمّارة بالسوء بدلاً من تصحيح مسارهم، وشكر من أبدى إليهم النصح.

 وفي حقيقة الأمر فإن الذي يرفض النصيحة ولا يستقبلها الاستقبال الصحيح إنما هو الخاسر الوحيد في هذه القضية؛ إذ إن الناصح متى أدَّاها بشروطها وآدابها، وأخلص في ذلك فقد وقع أجره على الله، أما الذي رفضها ولم يستقبلها فأقل ما يمكن قوله هو أنه سيظل على خطئه دون تصحيح، وسوف يَجني ما اقترفت يداه، إن كان في الدنيا أو في الآخرة.

 فها هم قوم نوح وقوم هود وقوم صالح عندما استكبروا وأبَوا أن ينصاعوا لنصيحة رسلهم كان العقاب في الدنيا والعذاب في الآخرة!!

 جاء على لسان نوح:

﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [63الأعراف]

فكان الغرق مصيرهم والهلاك في انتظارهم:

 ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ﴾ [64الأعراف].

 وهذا سيدنا هود يحذِّر قومه ومحاولاً إقناعهم:

 ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [69الأعراف]

فكان الخسران والضياع لهم:

 ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [72 الأعراف].

وهؤلاء قوم صالح حين قالوا له:

﴿إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) 76 (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [77الأعراف]

 فكان العقاب في انتظارهم:

 ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾ [79الأعراف]..

من هنا كان الخطر يحيط بمن لا يستجيب لنصح الناصحين.

 فالنصيحة لا يمكن الاستغناء عنها إطلاقًا، أو التفريط في أدائها، فهي صمّام الأمان من الانحراف والاعوجاج، ومن التحريف أو التبديل، والنصح كله خيرٌ ما دام يؤدَّى بالطريقة المُثلى والأسلوب الأرقى، فهو خيرٌ للناصح والمنصوح بكل تأكيد.

 وإن خطر ترك النصيحة يتعدَّى المنصوح في بعض الأحيان، ففي بعض الحالات يجب على الناصح أن يأخذ على يد المنصوح حتى يستجيب، وإلا كان الضياع والهلاك لكليهما، ولعل حديث السفينة يوضح ذلك: عن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

"مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا" [صحيح البخاري].

 وحتى النبي عليه الصلاة والسلام فقد جاءت بعض النصوص القرآنية موجِّهةً له وهو خير البشر على الإطلاق، تحمِل ضمنَ ما تحمل من معاني التوجيه والإرشاد، وهو نوع من أنواع النصح وإرادة الصواب والحق له وهذه بعضها:

·  قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً﴾ [3الأحزاب]

·  ويقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿يا أيُّها النَّبِي اتَّقِ اللَّهَ﴾ بطاعته، وأداء فرائضه، وواجب حقوقه عليك، والانتهاء عن محارمه، وانتهاك حدوده ﴿وَلا تُطِع الكافِرينَ﴾ الذين يقولون لك: اطرد عنك أتباعك من ضعفاء المؤمنين بك حتى نجالسك﴿وَالمُنِافِقِينَ﴾ الذين يُظهرون لك الإيمان بالله والنصيحة لك، وهم لا يألونك وأصحابك ودينك خبالاً، فلا تقبل منهم رأيًا، ولا تستشِرهم مستنصحًا بهم، فإنهم لك أعداءٌ ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ يقول: إن الله ذو علم بما تضمره نفوسهم [تفسير الطبري: آية 1 من سورة الأحزاب].

 ويقول تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)﴾ [عبس].

 ورغم أن رسول الله في هذه الحادثة لم يقصد إلا الخير للدعوة، والرغبة القوية في إسلام عِِلية القوم؛ طمعًا في إسلام تابعيهم، إلا أن التوجيه الإلهي نزل بالنصح والتوجيه لرسول الأمة- صلى الله عليه وسلم- فعن عائشة قالت: أنزلت ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ في ابن أمِّ مكتوم، قالت: أتى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجعل يقول: أرشدني، قالت: وعند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من عظماء المشركين، قالت: فجعل النبيّ- صلى الله عليه وسلم- يُعْرِض عنه، ويُقْبِل على الآخر ويقول: "أتَرَى بِما أقُولُهُ بأسًا؟ فيقول: لا، ففي هذا أُنزلت ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾.

ففي ذلك دلالة على ضرورة توجيه النصيحة مهما كان حجم الشخص أو وزنه، فأحيانًا ما يخجل إنسان من توجيه النصح لشخص ذي وجاهة، أو خوفًا على توتر علاقاته به وتعرضها لعدم الاستقرار، أو خوفًا من غضبه وإيثارًا لسلامة العلاقات معه، وهو في الحقيقة مؤشر غير صحي، وبالذات في صف الدعاة إلى الله تعالى.

 قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

"إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا وَقَعَ فِيهِمْ النَّقْصُ كَانَ الرَّجُلُ فِيهِمْ يَرَى أَخَاهُ عَلَى الذَّنْبِ فَيَنْهَاهُ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ لَمْ يَمْنَعْهُ مَا رَأَى مِنْهُ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَخَلِيطَهُ، فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَنَزَلَ فِيهِمْ الْقُرْآنُ فَقَالَ ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ قَالَ: وَكَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ لَا حَتَّى تَأْخُذُوا عَلَى يَدِ الظَّالِمِ فَتَأْطُرُوهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا".

 من أسباب رفض النصيحة واعتبارها نقدا:

*أن المنصوح يعتبرها موجَّهة لشخصه ولكفاءاته وإمكاناته، وهذا أمرٌ له سلبياته، ويعكس خللاً تربويًّا كبيرًا لدى من يَعتبره كذلك، وشرخًا في تكوينه؛ إذ إن ذلك سيحرمه من الاستجابة للنصيحة، ويؤخره عن تدارك خطئه، وتقويم نفسه.

 ولا عيب فيها في الحقيقة ولا نقصان، وهؤلاء يُحمِّلون أنفسهم فوق طاقتها، فكل ابن آدم خطَّاء كما أخبر بذلك النبي- صلى الله عليه وسلم- في الحديث عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

"كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ" [سنن الترمذي].

*استصغار من قدَّمها، ووصفُه بقليل الخبرة، قليل العلم، صغير السن، ومِن ثَمَّ الاستعلاء والاستكبار بالنزول على نصيحته؛ إذ كيف يستجيب لها وهو من سادة القوم وكبرائهم، والناصح ممن هم دونه في المسئولية والمكانة.

 *تمكن الشيطان من المنصوح، ورغبته في الاستمرار على الباطل، وعدم الانصياع للحق؛ إذ إن ذلك يجعله لا يقبل نُصحًا، ولا يسمع توجيهًا:

 ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [206البقرة].

 *سوء عرضها من الناصح الذي قد يعرضها بطريقة يُفهَم منها التعالي على المنصوح، وازدرائه وإهانته، فتحسُّس الناصح للجوّ النفسي المناسب لقبول النصيحة أمرٌ له أهميته بالنسبة للمنصوح.

 *أن تكون النصيحة على رؤوس الأشهاد، وفي العلن، وأمام الآخرين؛ مما يدفع المنصوح إلى محاولة الدفاع عن نفسه، ورفْض محتوى النصيحة بكاملها، وصدق الإمام الشافعي رحمه الله حين قال: "مَنْ وَعَظَ أخَاهُ سِرًّا فقد نَصَحَه وزَانَه، ومَنْ وَعَظَهُ عَلانِيَةً فَقَدْ فَضَحَهُ وشَانَه"، ومن أجمل ما قيل في هذا المعنى:

تغمَّدني بنصحك في انفرادي        وجنّبني  النصيحة في الجماعة

فإن  النصح بين الناس نوع         من التوبيخ لا أرضى استماعه

  والقاعدة المهمة التي يجب أن يعيَها الاثنان (الناصح والمنصوح):

 "أن يؤديها الناصح في أكمل وجه وأن يقبلها المنصوح على أي وجه".

 فالأصل في الناصح أنه يريد الخير لمن ينصحه لا النَّيل منه أو تجريحه، وكذلك فإن المنصوح يجب أن يعتقد أن المستفيد الحقيقي من هذا التوجيه حتى وإن كان جارحًا هو نفسه.

 آداب الناصح

1- الإخلاص...

2- العلم.. ؛ فعَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلاً مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: "قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ- شَكَّ مُوسَى- عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ".

3- الأمانة...

4- الحكمة.. ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيْلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾[النحل].

5- الذكاء.. فالنسبة الأكبر في فشل النصيحة تقع على الناصح؛ لأنه لم يعرف كيف يدخل إلى قلب من ينصح، فعلينا أن نعرف مفاتيح القلوب ونستخدم لكل قلب مفتاحه الخاص.

 آداب المنصوح

1- النصيحة وسيلة للمراجعة والتصحيح حتى لا نسترسل في خطأ وقعنا فيه، أو هوى انسقنا إليه، فالنصيحة بمثابة وقفة مع النفس لمراجعتها والسير على بصيرة.

2- حين يتخذ الواحد منا أفكارًا أو قناعاتٍ يتمسك بها ويُرسِّخها بداخله فلا يحيد عنها، فتتحرك الجبال الشم الرواسي عن قواعدها ولا تتحرك تلك القناعات أو الأفكار، فلا يقبل المراجعة فيها أو النصح في بنودها، فحينئذ ستكون بداية النهاية، ولن يسلم من هوى يطغيه أو فساد في الرأي يُرديه.

 3- الاستماع إلى النصيحة أو النقد بنية البحث عن الحق والوصول إليه، نحن لسنا بأفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، اقترح عمر بن الخطاب على أبي بكر رضي الله عنهما أن يجمع القرآن، ولم يقبل أبو بكر بذلك، فقال عمر: هو والله خير، قال أبو بكر: فلم يزل عمر يراجعني فيه، حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر. [صحيح البخاري]، فلم يمنعه منصبُه من قبول الصواب، والعدول عن رأيه الذي كان يراه صائبًا.

4- نحن لسنا أفضل من خير البشر محمد- صلى الله عليه وسلم- فبدلاً من رفض النصيحة وردِّها، كان الأجدر والأولى أن نطلبها ابتداءً ونسمع لها بعد ذلك حيث يقول عليه الصلاة والسلام: "إنما أنا بشرٌ مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكِّروني". [صحيح البخاري].

5-  لا تفرح بأهازيج المدَّاحين ، الذين يصفقون حتى مع الخطأ، ويُهللون مع الانحراف، بل الفرح بصدق ومن القلب إذا أَهدى إليك أحد بعض عيوبك، واعلم أنك على خير متى وفقك الله ووجدت مثل هذا الصاحب الأمين، والصادق النصوح.. جاء في الحديث:

"من ولاه الله عز وجل من أمر المسلمين شيئًا فأراد به خيرًا جعل له وزير صدق فإن نسى ذكرَّه وإن ذكر أعانه "[صحيح سنن النسائي للألباني].

 كان الحر بن قيس من مُقرَّبي عمر بن الخطاب، وهمَّ عمر أمامه بضرب عُيينة بن حصن لتطاوله عليه، فقال له الحر: "يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى قال لنبيه- صلى الله عليه وسلم : ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [199الأعراف] وإن هذا من الجاهلين".. يقول الراوي: "والله ما جاوزها عمر حين تلاها، وكان وقافًا عند كتاب الله". [صحيح البخاري]

6- إن رفض النصيحة يحمل ضمن ما يحمل من المعاني ادعاء العصمة، وهذا يناقض طبيعتنا البشرية التي يُعتبر الخطأ فيها جزءًا من تركيبتها وطبيعتها، فكل إنسان يؤخذ من كلامه ويُردُّ إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.

7- عدم الضيق ذرعًا بالناصحين حتى وإن اعتبرتَهم "ناقديك" فيما يوجِّهون إليك من نُصح أو نقْد، ولا تعتبره تعديًا على حريتك أو كرامتك أو شخصك، بل ينبغي تقبـل النقـد البنَّاء، الذي يهدف إلى البناء والنفع.

8- قبول النصيحة والاعتذار عن الخطأ وتصحيحه أفضل من التمادي فيه، فالعيب ليس في الرجوع عن الخطأ، وإنما البلاء الحقيقي يكون في الإصرار على الباطل، وقبول النصيحة ينفي عنك الاتصاف بالكبر والتعالي، ويُزيل من قلب الناصح الحقد والبغضاء، ويدفع عنك الاعتراض عليك وإساءة الظن بك حين يصدر منك ما ظاهره الخطأ.

 فلا يكن همك عند سماع نصيحة موجَّهة إليك هو كيف تدفعها، فيحملك هذا على اتهام الآخرين بما هم منه براءٌ، أو تبدأ في كيل الاتهامات في محاولةٍ لنقل أبصار الآخرين واهتماماتهم بعيدًا عنك إلى ناصحيك، ومحاصرتهم بعدد من أخطائهم لينشغلوا بغيرك، متناسيًا ما وُجِّه إليك من النصح أو التوجيه.

 ورضي الله عن عمر بن الخطاب القائل: "رَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي".

               


المراجع

odabasham.net

التصانيف

قصص  أدب  مجتمع   الآداب   قصة