عبد الرحيم البابلي (1876م ـ م) هو المرحوم الشيخ عبد الرحيم بن خالد البابلي ولد بمحلة سيدي صهيب بحي الميدان بدمشق سنة 1876م ودرس العلوم العربية وقواعدها وآدابها على العالم الشيخ محمد سليم سماره وتنقل في حلقات الدراسة فأخذ ما طاب له منها كالنخلة التي تحوم فوق الزهر الفواحة فتختار أشهاها طعماً واعبقها أريجاً، هكذا اجتنى الفقيد العلوم في عصره فبرع بما اخذه وفاق، وكان الكوكب الساطع في المجتمع بمواهبه الفنية.
أوصافه وأحواله
طويل القامة مرهف الملامح فتان المحيا ناصع البياض شديد سواد الشعر اسود العينين ادعجهما، يشع من عينيه بريق الاصالة والنجابة، تسامت نفسه بالعزة والكرامة كثير العطف والبر لذوي القربى والرحم، تعاطى تجارة العطارة في محلة باب المصلى بدمشق فكان راضياً بما قسمه الله من الرزق الحلال في حياته، وظل كذلك إلى ان التحق خلال الحرب العالمية الأولى.
ومن شمائله انه كان بعيداً عن ملق الأدباء والفنانين وعن الرياء الذي كانوا يعيشون في سجوفه.
نوادره الطريفة
كان بارعاً في اسر القلوب لا تفوته النكتة في الظروف المناسبة، ومن نوادره الطريفة انه دعي قبل الحرب العالمية الأولى إلى حفلة ضمت والي الشام وعظمائها وقد تميزت بكثرة المدعويين من كبار تجار دمشق بمناسبة واقعية وقد أنشد بصوته الرخيم الساحر بعض ابيات من نظم الشيخ عبد الغني النابلسي ضرب بها على الوتر الحساس فكانت اروع نكتة ظلت حديث المجتمع تتناقلها الألسن لاصابتها الهدف بأروع معناه واحكم مغزاه في ذلك الموقف الملائم منها قوله:
وبمهجتي والروح افدي تاجراً
يخفي ببهجته سنا الأقمار
سمحت محاسنه برؤية وجهه
ومن العجيب سماحة التجار
فنونه
لقد كان الفقيد فريداً بصوته النادر إذا غنى كالعندليب، فكم بتموجات صوته ورخامة نبراته وروعة القائه اشجى القلوب وابكى العيون، وهو واسع الاطلاع والعلم بقوافي الفن ورقص السماح الشائع في عهده، تزخر ذاكرته باخبار العرب ونوادرهم وتراثهم الشعري والادبي، يهوى شعراء الصوفية ويحفظ قصائدهم وموشحاتهم وينتقي منها ابدعها نظماً واقواها في النفوس تأثيراً وسحراً فيلحنها، يميل بالحانه إلى النغمات الحجازية وللصبا والرست، غناؤه طالما ترنمت له الأعطاف ونغماته الشجية طالما اهتزت للحنها المشاعر، تتهافت العظماء والكبراء للاجتماع به وسماع صوته وحلاوة حديثه وطرائف نوادره. فقد سافر إلى مصر ومكث فيها مدة ثلاث سنوات على أثر مجيء سلامة حجازي لدمشق وتعرف على أشهر الفنانين واستفاد من فنونهم.
ومن اجتماعاته الفنية المشهورة إن المرحوم الملك عبد الله بن الحسين زار دمشق قبل الحرب العامة الأولى وكان مبعوث الحجاز في مجلس المبعوثان التركي وحل ضيفاً عند عطا باشا البكري ومن ثم دعاه احمد باشا الشمعة إلى داره اقام له حفلة ما فتىء الناس يتحدثون بعظمتها وروعتها وكان الفقيد رحمه الله بلبل الحفلة وغريدها الساحر فأنشد امام الضيف العظيم بعض أبيات من قصيدة قديمة نظمت بمدح جده الرسول الأعظم منها قوله:
وما مصدر الأشياء إلا محمد
وناهيك طول المدح فيه قصور
بدائرة التكوين نور جماله
عليه جميع الكائنات تدور
وروى الذين حضروا الحفلة التاريخية المذكورة ان الملك عبد الله، شكر المترجم، بصوت متهدج وقد غلبته العبرات من روعة التلحين وبراعة الاختيار.
وكان إذا تردد للانشاد في الأذكار غصت التكايا بالسامعين من عشاق فنه، كثير الاتصال بحلقة العلامة والفنان المشهور الشيخ عبد الرزاق البيطار الدمشقي الفنية ومن عاداته انه إذا أراد الراحة انعطف لواد وسيم سح فيه الماء واعتل النسيم فحامت فوقه البلابل تشاركه الألحان والتنغيم.
وقصد مرة مع فريق من أصحابه رياض وادي بردى فتجلت عليه نشوة الفن واستهوته المناظر الخلابة فغنى هذا الموشح الرائع وهو عروض لموشح ابي خليل القباني (الغصن إذ رآك مقبل سجدا) فقال:
عيني نظرت لنحو شاطىء بردى
طيباً نظم الحسن بفيه بَرَدَا
يا من بصدوده رماني بِرَدَي
لو يسمح لي لهيب قلبي بِرَدا
ثم يعقبه بدور (فؤادي بالاحبة ما تهنى) المصري المشهور.
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر:
ان سجلت المراثي بنسبة الفواجع فحق لمرثية الفقيد ان تسجل بدم الأجفان، ان القلم ليعجز عن وصف الوقائع التي أودت بحياته، لقد استبعد قادة الجيش الفقيد الفنان عن ساحات القتال في الحرب العالمية الأولى ضناً بحياته فدعوها هبة ومشاعاً للمجتمع واستخدموه بالفرع الصحي في المستشفى العسكري بدمشق لينعموا بصوته وفنونه وانسه، فقد كانوا يرون بوجوده بالقرب منهم بلسماً لأفئدتهم وعزاء لاغترابهم ووحشتهم ولم يدر أحد ما تكنه صفحة القدر الغادر من مفاجئات موجعة.
كان رحمه الله كالطود الشامخ ممتلئاً قوة وصحة، وتفشت الحمى في البلاد العثمانية حتى غصّت المستشفيات بالجنود المرضى فكان يقوم بواجبه الانساني ويشرف على اسعافهم وراحتهم بنبل وحنان وفتكت الحمى فتكاً ذريعاً حتى بلغت الاصابات اليومية بالمئات بين الجنود وتطرق الوهم إلى النفوس وخشي الناس والجنود الأصحاء شر العدوى فكانوا يتهربون من حمل الموتى ونقلهم إلى المدافن، وعاتب الفقيد من تغلب عليهم الوهم والوهن قائلاً (ان خشيتم العدوى وتهربتم من حمل اخوانكم الموتى فمن يحملنا اذا نحن متنا) وهكذا قضت ارادة الله فأصيب الفقيد بعد فترة بعدوى الحمى فقضى نحبه شهيد الواجب والنجدة الانسانية، ونقل جثمانه في يوم عبوس محزن فدفن في مقبرة الشيخ رسلان وذلك في 26 كانون الثاني سنة 1916.
المراجع
alencyclopedia.com
التصانيف
الفنانون شخصيات الفنون العلوم الاجتماعية