عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا ، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ).  قال السندي في حاشية ابن ماجه : (غَرِيبًا) أَيْ لِقِلَّةِ أَهْله وَأَصْل الْغَرِيب الْبَعِيد مِنْ الْوَطــــَن ( وَسَيَعُودُ غَرِيبًا ) بِقِلَّةِ مَنْ يَقُوم بِهِ وَيُعِين عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ أَهْله كَثِيرًا (فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ) الْقَائِمِينَ بِأَمْرِهِ ، و"طُوبَى" تُفَسَّر بِالْجَنَّةِ وَبِشَجَرَةٍ عَظِيمَة فِيهَا . وَفِيهِ تَنْبِيه عَلَى أَنَّ نُصْرَة الإِسْلام وَالْقِيَام بِأَمْرِهِ يَصِير مُحْتَاجًا إِلَى التَّغَرُّب عَنْ الأَوْطَان وَالصَّبْر عَلَى مَشَاقّ الْغُرْبَة كَمَا كَانَ فِي أَوَّل الأَمْر، ونقل النووي في شرح صحيح مسلم عن القاضي عياض أنه قال في معنى الحديث أَنَّ الإِسْلام بَدَأَ فِي آحَاد مِنْ النَّاس وَقِلَّة ، ثُمَّ اِنْتَشَرَ وَظَهَرَ ، ثُمَّ سَيَلْحَقُهُ النَّقْص وَالإِخْلال ، حَتَّى لا يَبْقَى إِلا فِي آحَاد وَقِلَّة أَيْضًا كَمَا بَدَأَ ".

حينما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إليه، فلم يستجب له إلا الواحد بعد الواحد ، فكان حينذاك غريباً بغربة أهله ، لقلتهم وضعفهم مع كثرة خصومهم وقوتهم وطغيانهم وتسلطهم على المسلمين ، حتى هاجر من هاجر إلى الحبشة وحتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد ما ناله من شدة الأذى ما ناله رجاء أن يهيئ الله له من يؤازره في دعوته ، ويقوم معه بنصر الإسلام وقد حقق الله رجاءه ، وقامت دولة الإسلام وانتشر بحول الله في أرجاء الأرض وجعل سبحانه كلمة الكفر هي السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم  

واستمر الأمر على ذلك زمناً طويلاً ، ثم بدأ التفرق والوهن ودب بين المسلمين الضعف والفشل شيئاً فشيئاً حتى عاد الإسلام غريباً كما بدأ ، لكن ليس ذلك لقلتهم فإنهم يومئذ كثير، وإنما ذلك لعدم تمسكهم بدينهم واعتصامهم بكتاب ربهم وتنكبهم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فشغلهم بأنفسهم وبالإقبال على الدنيا فتنافسوا فيها كما تنافس من كان قبلهم وتناحروا فيما بينهم على إمارتها وتراثها ، فوجد أعداء الإسلام المداخل عليهم وتمكنوا من ديارهم ورقابهم فاستعمروها وأذلوا أهلها وساموهم سوء العذاب ، هذه هي غربة الإسلام التي عاد إليها كما بدأ بها.  

ولم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام بدعا من الرسل في اعتبار أن ما جاء به غريبا عن عرف القوم وما اعتادوا عليه، فهذه سنة الله في الدعوات كلها، وقد بين القرآن الكريم أن الرسل عليهم السلام قد كانوا غرباء في أقوامهم عندما دعوهم إلى الدين الحق وما جاءوا به ، فقد قال الله سبحانه وتعالى عن قوم صالح عندما واجهوا دعوته بالإنكار والشك: {قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}، لقد رأوا في الأمر ما يريب لأن في هذه الدعوة ما يكسر ألفتهم وعاداتهم، وهذا الموقف عينه يتكرر مع النبي شعيب عليه السلام فقد قالوا له: { يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}.

ولعل أوضح المواقف الدعوية في اعتبار غربة الدعوة وأفكارها الطاهرة النقية ، ذلك الموقف الذي وقفه سيدنا لوط من قومه عندما رأى الفعل الشنيع سنة متبعة في قومه والطهر والعفاف أمر غريب ، وقد سطر القرآن ذلك في هذه الآيات:{ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ، أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ، فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}.

وعليه فإن سنة الله في الدعوة أن تكون مستغربة لأنها تريد التغيير والتبديل وقلب الأوضاع كلها لتحل محلها أفكار جديدة بمفاهيم جديدة ، وسيكون مآل هذه الدعوة النصر والتمكين إن شاء الله، فكما نصر الله صالحا وشعيبا ولوطا ، ونصر دعوة محمد قديما سيكون النصر القادم لدعوة الإسلام، ولذا فقد رأى جماعة من العلماء أن في الحديث بشارة بنصرة الإسلام بعد غربته الثانية آخذين ذلك من التشبيه في قوله صلى الله عليه وسلم "وسيعود غريباً كما بدأ " فكما كان بعد الغربة الأولى عز للمسلمين وانتشار للإسلام فكذا سيكون له بعد الغربة الثانية نصر وانتشار.

ولكن، ما صفات هؤلاء الغرباء؟

بدأ الإسلام غريبا ثم يعود غريبا كما بدا فطوبى للغرباء قيل يا رسول الله ومن الغرباء قال الذين يصلحون إذا فسد الناس،  وقال الله تعالى: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم فإن الغرباء هم أهل هذه الصفة المذكورة في الآية،  وهم الذين أشار إليهم النبي في قوله: {بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل ومن الغرباء يا رسول الله قال الذي يصلحون إذا فسد الناس} ، وقال الإمام أحمد فيما يرويه عن النبي قال: {طوبى للغرباء قالوا يا رسول الله ومن الغرباء قال الذين يزيدون إذا نقص الناس، الذين ينقصون إذا زاد الناس} فمعناه الذين يزيدون خيرا وإيمانا وتقى إذا نقص الناس من ذلك.

وفي حديث ابن مسعود قال قالَ رسول الله {إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل ومن الغرباء يا رسول الله قال النزاع من القبائل} ، وفي حديث عبد الله بن عمرو قال قالَ النبي ذات يوم ونحن عنده {طوبى للغرباء قيل ومن الغرباء يا رسول الله قال ناس صالحون قليل في ناس كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم}، وعن النبي قال: {إن أحب شيء إلى الله الغرباء قيل ومن الغرباء قال الفرارون بدينهم يجتمعون إلى عيسى بن مريم عليه السلام يوم القيامة}.

وفي حديث آخر {بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل ومن الغرباء يا رسول الله قال الذي يحيون سنتي ويعلمونها الناس}. ودخل عمر بن الخطاب المسجد فوجد معاذ بن جبل جالسا إلى بيت النبي وهو يبكي فقال له عمر ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن هلك أخوك؟ قال لا ولكن حديثا حدثنيه حبيبي وأنا في هذا المسجد فقال ما هو؟ قال: {إن الله يحب الأخفياء الأحفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل فتنة عمياء مظلمة}.

والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع فهم غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة، ولكن هؤلاء هم أهل الله حقا فلا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين الذين قال الله عز وجل فيهم:{وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله}، فأولئك هم الغرباء من الله ورسوله ودينه، وغربتهم هي الغربة الموحشة وإن كانوا هم المعروفين المشار إليهم.

فغربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق وهي الغربة التي مدح رسول الله أهلها وأخبر عن الدين الذي جاء به أنه بدأ غريبا وأنه سيعود غريبا كما بدأ وأن أهله يصيرون غرباء  ولكن أهل هذه الغربة هم أهل الله حقا فإنهم لم يأووا إلى غير الله ولم ينتسبوا إلى غير رسوله ولم يدعوا إلى غير ما جاء به وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم ، فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون ولقلتهم في الناس جدا سموا غرباء فإن أكثر الناس على غير هذه  فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا فوليه الله ورسوله والذين آمنوا وإن عاداه أكثر الناس وجفوه.

جاء في الأثر أنه لما خرج موسى عليه السلام هاربا من قوم فرعون انتهى إلى مدين، وهو وحيد غريب خائف جائع فقال يا رب وحيد مريض غريب فقيل له يا موسى الوحيد من ليس له مثلي أنيس والمريض من ليس له مثلي طبيب والغريب من ليس بيني وبينه معاملة، وقال الحسن البصري رحمه الله: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها ولا ينافس في عزها،  للناس حال، وله حال، الناس منه في راحة، وهو من نفسه في تعب.

ولهذا جعل للمسلم الصادق في هذا الوقت إذا تمسك بدينه أجر خمسين من الصحابة، وهذا الأجر العظيم إنما هو لغربته بين الناس والتمسك بالسنة بين ظلمات أهوائهم وآرائهم، فإذا أراد المؤمن الذي رزقه الله بصيرة في دينه وفقها في سنة رسوله وفهما في كتابه، أراه ما الناس فيه من تنكبهم عن الصراط المستقيم ، فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه وطعنهم عليه وإزرائهم به وتنفير الناس عنه وتحذيرهم منه.

وعندما سُئل  الرسول عن الغرباء قال:(الذين يُحيون ما أمات الناس من سُنّتي). فالذي يحمل هذا الفكر في الوقت الذي طغت فيه الأفكار الدخيلة على الإسلام، حتى أصبحت عند البعض من المسلّمات مثل:الديمقراطية، والنفعيّة، والمصلحة، وموافقة العصر، وعصرنة الشرع، وتجديد الخطاب الديني، وغيرها من المصطلحات، فالذي يحمل الإسلام، ويحاول إيجاده في الحياة كنظام يصطدم بهذه المفاهيم والمصطلحات، يكون من الغرباء.

إن الذي لا يجزم بوقوع البلاء والمِحنة عندما يحمل أفكاراً كهذه يريد أن يغيّر بها هذا الواقع، يكون قد أخطأ خطأً ينعكس على حمله الدعوة، عندما تواجهه أوّل مِحنةٍ واختبار، لأنّ هذا الفكر ليس فكراً نظريّاً أو رياضةً عقليّةً أو ألعاب ذكاء. وإنّما هو مُمارسة فعليّة لهذه الأفكار، والالتزام بها بالقول والعمل، ودعوة صريحة لأن يلتزم الناس بها ويخلعوا ما ترسخ في عقولهم من مفاهيم وقناعات، فحامل هذه الأفكار عليه عبء حمل الإسلام وعبء الالتزام بالأوامر والنواهي، وعبء الصبر على تحمل المحن والاختبارات، فنظرة الناس إليه أنه يطلب ما لا يُمكن أن يُطلَب، إذ أن طلبه أكبر بكثير منه، ونظرته إليهم نظرة إشفاقٍ ولسان حاله يقول كما قال المؤمن من قوم فرعون(وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ).

ولا بد أن يحرص حامل الدعوة على أن يكون تكوينه للشخصية الإسلامية المتميزة تكوينَ شخصية إسلامية متميزة سياسية، وذلك أن الشخصية السياسية قوامة على المجتمع بفكرها ورأيها، تسوس الناس بهذا الفكر، ولا تقيم وزناً إلا لمبدأ الإسلام، تعرف أن الطريق الذي شقته أمامها شاق مليء بالعقبات، وأصناف العذاب، وقلة الراحة، وضعف الوسيلة؛ فلذلك تتسلح بسلاح الدعوة حتى تستطيع أن تجتاز تلك العقبات بقوة وصراحة وجرأة وفكر، فهي لا مجلس لها محمود في ظل وجود أناس مضبوعين بالثقافة الغربية يصدون عن سبيل الله، وهي شخصية غير مرغوبة في المجتمع عند من شربوا وأشربوا الغزو الثقافي الاستعماري، وهذا ما هو متفق مع قول الرسول عليه السلام: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء). فمن يحمل الإسلام حملاً سياسياً في هذا الزمان فإنه غريب غرابة غير مرغوبة؛ وذلك لأنه يحمل الناس على أمر خلاف ما اعتادوا عليه مدة عقود عجاف بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. فحامل الدعوة صاحب الشخصية الإسلامية المتميزة السياسية يأبى أن يكون الفكر في نفسه حبيساً، وهذا شأن الدعاة إلى الله في كل زمان ومكان.

               

 

فراس حج محمد


المراجع

odabasham.net

التصانيف

قصص  أدب   العلوم الاجتماعية