في تفسير قوله سبحانه وتعالى " وإذا قرأت القرآن جعلنا
بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً "
عَنْ أَسْمَاء بِنْت أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَتْ :
لَمَّا نَزَلَتْ سُورَة " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب
" أَقْبَلَتْ الْعَوْرَاء أُمّ جَمِيل بِنْت حَرْب وَلَهَا وَلْوَلَة ، وَفِي
يَدهَا فِهْر وَهِيَ تَقُول : مُذَمَّمًا عَصَيْنَا وَأَمْره أَبَيْنَا وَدِينه
قَلَيْنَا – تقصد بذلك الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وحاشاه أن يكون مذمماً
بل هو محمد في الدنيا والآخرة - وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَاعِد فِي الْمَسْجِد وَمَعَهُ أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ; فَلَمَّا
رَآهَا أَبُو بَكْر قَالَ : يَا رَسُول اللَّه , لَقَدْ أَقْبَلَتْ ، وَأَنَا
أَخَاف أَنْ تَرَاك ! قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (
إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي ) وقرأ قوله تعالىمن سورة
الإسراء " وَإِذَا قَرَأْت الْقُرْآن جَعَلْنَا بَيْنك
وَبَيْن الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَابًا مَسْتُورًا " .
فَوَقَفَتْ عَلَى أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَلَمْ تَرَ رَسُول اللَّه
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا أَبَا بَكْر , أُخبِرْتُ أَنَّ
صَاحِبك هَجَانِي ! فَقَالَ : لا وَرَبّ هَذَا الْبَيْت مَا هَجَاك . قَالَ :
فَوَلَّتْ وَهِيَ تَقُول : قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْش أَنِّي اِبْنَة سَيِّدهَا . وَفي
رواية سَعِيد بْن جُبَيْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : لَمَّا نَزَلَتْ "
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب وَتَبَّ " جَاءَتْ
اِمْرَأَة أَبِي لَهَب إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ
أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , فَقَالَ أَبُو بَكْر : لَوْ تَنَحَّيْت عَنْهَا
لئلا تُسْمِعك مَا يُؤْذِيك , فَإِنَّهَا اِمْرَأَة بَذِيَّة . فَقَالَ النَّبِيّ
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّهُ سَيُحَالُ
بَيْنِي وَبَيْنهَا ) فَلَمْ تَرَهُ . فَقَالَتْ لأبي بَكْر : يَا أَبَا
بَكْر , هَجَانَا صَاحِبك ! فَقَالَ : وَاَللَّه مَا يَنْطِق بِالشِّعْرِ وَلا
يَقُولهُ . فَقَالَتْ : وَإِنِّي لَمُصَدِّقَة ; فَانْدَفَعَتْ رَاجِعَة . فَقَالَ
أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : يَا رَسُول اللَّه , أَمَا رَأَتْك ؟ قَالَ : (لا
مَا زَالَ مَلَك بَيْنِي وَبَيْنهَا يَسْتُرنِي حَتَّى ذَهَبَتْ ) . وَقَالَ
كَعْب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَة : كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَتِر مِنْ الْمُشْرِكِينَ بثلاث آيَات : : الآية الَّتِي
فِي الْكَهْف " إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبهمْ
أَكِنَّة أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانهمْ وَقْرًا ", وَالآية فِي النَّحْل
" أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّه عَلَى قُلُوبهمْ
وَسَمْعهمْ وَأَبْصَارهمْ ", وَالآية الَّتِي فِي الْجَاثِيَة "
أَفَرَأَيْت مَنْ اِتَّخَذَ إِلَهه هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ
اللَّه عَلَى عِلْم وَخَتَمَ عَلَى سَمْعه وَقَلْبه وَجَعَلَ عَلَى بَصَره غِشَاوَة
". فَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَرَأَهُنَّ
يَسْتَتِر مِنْ الْمُشْرِكِينَ . قَالَ كَعْب رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ :
فَحَدَّثْتُ بِهِنَّ رجلاً مِنْ أَهْل الشَّام , فَأَتَى أَرْض الرُّوم فَأَقَامَ
بِهَا زَمَانًا , ثُمَّ خَرَجَ هَارِبًا فَخَرَجُوا فِي طَلَبه فَقَرَأَ بِهِنَّ
فَصَارُوا يَكُونُونَ مَعَهُ عَلَى طَرِيقه ولا يُبْصِرُونَهُ . قَالَ
الثَّعْلَبِيّ : وَهَذَا الَّذِي يَرْوُونَهُ عَنْ كَعْب حَدَّثْتُ بِهِ رجلاً مِنْ
أَهْل الرَّيّ فَأُسِرَ بِالدَّيْلَمِ – مكان في فارس- , فَمَكَثَ زَمَانًا ثُمَّ
خَرَجَ هَارِبًا فَخَرَجُوا فِي طَلَبه فَقَرَأَ بِهِنَّ حَتَّى جَعَلَتْ
ثِيَابهنَّ لَتَلْمِس ثِيَابه فَمَا يُبْصِرُونَهُ .
قال القرطبي رحمه الله : وَيُزَاد إِلَى هَذِهِ الآي أَوَّل سُورَة يس إِلَى
قَوْله " فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ " فقد خَرَجَ
رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بيته والناس متحلقون حوله
ينتظرون خروجه ليقتلوه ، فيذهب دمه بين القبائل ، فلا يستطيع بنو هاشم إلا أن
يقبلوا الدية فيه . فَأَخَذَ حَفْنَة مِنْ تُرَاب فِي يَده , وَأَخَذَ اللَّه عَزَّ
وَجَلَّ عَلَى أَبْصَارهمْ عَنْهُ فلا يَرَوْنَهُ , فَجَعَلَ يَنْثُر ذَلِكَ
التُّرَاب عَلَى رُءُوسهمْ وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الآيات مِنْ يس : "
يس . وَالْقُرْآن الْحَكِيم . إِنَّك لَمِنْ
الْمُرْسَلِينَ . عَلَى صِرَاط مُسْتَقِيم . تَنْزِيل الْعَزِيز الرَّحِيم - إِلَى
قَوْله - وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْن أَيْدِيهمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفهمْ سَدًّا
فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ". حَتَّى فَرَغَ رَسُول اللَّه
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذِهِ الآيات , وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ
رَجُل إلا وَقَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسه تُرَابًا , ثُمَّ اِنْصَرَفَ إِلَى حَيْثُ
أَرَادَ أَنْ يَذْهَب .
د.عثمان قدري مكانسي