الخطبة الأولى:
أما بعد...
أيها المؤمنون اتقوا الله ربكم واعملوا بخصال التقوى، فإن لتقوى الله - جل وعلا - خصالاً لا تتم إلا بها ومن تلك الخصال يا عباد الله حسن الخلق وصالح السجايا والشيم، فإن من مقاصد البعثة المحمدية إتمام صالح الأخلاق، فإن الله بعث محمداً على حين فترة من الرسل ليتم به صالح الأخلاق وفاضلها، فعن أبي هريرة مرفوعاً: ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق))(1) رواه أحمد وغيره بسند جيد.وقد جعل الله تزكية النفوس وإصلاحها بالفضائل والمكرمات إحدى وظائف النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"لَقَد مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤمِنِينَ إِذ بَعَثَ فِيهِم رَسُولاً مِن أَنفُسِهِم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلالٍ, مُبِينٍ,\"(2).
أيها المؤمنون إن شأن الأخلاق عظيم في هذه الشريعة المباركة إذ هي مبنية على القيام بحقوق الله - تعالى -والقيام بحقوق العباد ابتغاء وجه الله - تعالى -، فبقدر ما معك من استقامة الخلق بقدر ما معك من استقامة الدين قال الله - تبارك وتعالى - في بيان أعظم آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - الدالة على صدق نبوته: \"وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ, عَظِيمٍ,\"(3) قال ابن عباس: أي على دين عظيم. وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حسن الخلق من دلائل كمال الإيمان فقال: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً))(4) رواه أحمد.
فحسن الخلق أيها المؤمنون صفة من صفات الأنبياء والصديقين والصالحين، بها تنال الدرجات، وترفع المقامات، وهو واجب من الواجبات الدينية، وفريضة من الفرائض الشرعية، وقد أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ففي حديث أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن))(5) رواه أحمد والترمذي.
أيها المؤمنون إن لحسن الخلق وطيب الشيم فضائل عديدة في الكتاب والسنة وكلام الأئمة فمن فضائل حسن الخلق أمر الله - تعالى -به في قوله - تعالى -: \"خُذِ العَفوَ وَأمُر بِالعُرفِ وَأَعرِض عَنِ الجَاهِلِينَ\"(6) فإن هذه الآية أجمع آية لمكارم الأخلاق وأصول الفضائل.
ومن فضائل حسن الخلق الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كل الخير والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة مرتهنة بالاقتداء به واتباع سنته، وهو - صلى الله عليه وسلم - أجمل الناس خلقاً، وأطيبهم شيماً قال الله - تعالى -: \"وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ, عَظِيمٍ,\"(7)
ومن فضائل حسن الخلق أيها المؤمنون أن به يبلغ المؤمن درجة الصائم القائم قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم))(8) رواه الترمذي.
ومن فضائل حسن الخلق أيها المؤمنون أنه يثقل ميزان العبد يوم القيامة ففي مسند الإمام أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من شيء أثقل في الميزان يوم القيامة من حسن الخلق))(9).
أيها المؤمنون إن من فضائل حسن الخلق أنه من أسباب القرب من النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، ففي صحيح ابن حبان قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أخبركم بأحبكم إلى و أقربكم مني مجلساً يوم القيامة: أحاسنكم أخلاقاً))(10).
عباد الله إن خيرية الرجل لا تقاس بصلاته وصيامه فحسب بل لا بد من النظر في أخلاقه وشيمه فعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشا ًولا متفحشاً وكان يقول: (خياركم أحاسنكم أخلاقاً)(11) متفق عليه.
أيها المؤمنون هذه بعض فضائل حسن الخلق ولولم يكن فيه إلا ضمان النبي - صلى الله عليه وسلم - بيتاً في أعلى الجنة لمن حسن خلقه لكان كافياً ففي سنن أبي داود قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه))(12) فاجتهدوا أيها المؤمنون في تحسين أخلاقكم لتحرزوا بذلك تلك الفضائل العظيمة والدرجات الرفيعة والأجور الوفيرة فقد صدق من قال:
لو أنني خيرت كل فضيلة *** ما اخترت غير محاسن الأخلاق
الخطبة الثانية:
أما بعد..
فاتقوا الله عباد الله وحسنوا أخلاقكم فإن تقوى الله وحسن الخلق أكثرُ ما يدخل الناس الجنة واعلموا أيها المؤمنون أن حسن الخلق الذي رتبت عليه تلك الأجور العظام والفضائل الحسان إنما هو ما ابتغي به وجه الله ووافق فيه الظاهر الباطن، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))(13) متفق عليه، فحسن الخلق المطلوب أيها المؤمنون سلامة في الظاهر ونقاء في الباطن وإن جماع حسن الخلق جاء في آية واحدة في كتاب الله - تعالى -وهي: \"خُذِ العَفوَ وَأمُر بِالعُرفِ وَأَعرِض عَنِ الجَاهِلِينَ\"(14) فمن عمل بهذه الآية فقد اجتمع له حسن الخلق، ففيها الأمر بإيصال الخير والنفع إلى الخلق أجمعين، وفيها الحث على احتمال الجنايات، والعفو عن الزلات، و فيها الأمر بمقابلة السيئات بالحسنات، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: \"وجماع حسن الخلق مع الناس أن تصل من قطعك بالسلام والإكرام والدعاء له والاستغفار والثناء عليه والزيارة له وتعطي من حرمك من التعليم والمنفعة والمال وتعفو عمن ظلمك في دم أو مال أو عرض\" انتهى كلامه - رحمه الله - (15).
أيها المؤمنون إن من أعظم ما تزكو به الأخلاق وتطيب به الخصال وتستقيم به الخلال كتاب الله الحكيم: القرآن العظيم، فإن أخلاقه أزكى الأخلاق وأشرفها وأفضلها و أطيبها وأعظمها قال الله - تعالى -واصفاً خلق النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ, عَظِيمٍ,\"(16). ولقد سئلت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عن خلقه - صلى الله عليه وسلم - فأجابت بما شفى وكفى فقالت: كان خلقه القرآن فلم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخاباً بالأسواق ولا يجزي بالسيئة ولكن يعفو ويصفح هذا ما قالته عائشة - رضي الله عنها - في وصف خلقه.
وقال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: ((خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين فما قال لي أف قط وما قال لي لشيء صنعته لم صنعته ولا لشيء تركته لم تركته وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس خلقاً))(17) فخير الأخلاق يا عباد الله ما كان مقتبساً من مشكاة القرآن الكريم فأقبلوا عليه أيها المؤمنون تلاوةً وحفظاً وعلماً وعملاً، احرصوا على معرفة سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وأخلاقه فإنها من أعظم ما تطيب به الأخلاق.
اللهم إنك تحب معالي الأخلاق وتكره سيئها اللهم وفقنا إلى أحسن الأخلاق والأعمال واصرف عنا سيئها اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء والأعمال والأدواء.
----------------------------------------
(1) أخرجه مالك بلاغاً في موطئه (رقم 1609) وأحمد موصولاً في مسنده (رقم 8939) والحاكم في المستدرك (رقم 4221) وقال صحيح على شرط مسلم.
(2) آل عمران: 164.
(3) القلم: 4.
(4) أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (رقم 10436).
(5) أخرجه أحمد من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - (رقم 21026) والترمذي (رقم 1987).
(6) الأعراف: 199.
(7) القلم: 4.
(8) أخرجه أحمد (رقم 25010) والحاكم في المستدرك (رقم 199) وقال صحيح على شرطهما.
(9) أخرجه أحمد من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - (رقم 26971).
(10) (رقم 485) من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -.
(11) أخرجه البخاري في الأدب (رقم 6035) ومسلم في الفضائل (رقم 2321).
(12) أخرجه أبو داود في الأدب (رقم 4800) من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه -.
(13) أخرجه البخاري في الإيمان (رقم 13) ومسلم في الإيمان (رقم 45) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.
(14) الأعراف: 199.
(15) سوء الخلق: ص 65.
(16) القلم: 4.
(17) أخرجه البخاري في الأدب (رقم 6038) وأخرجه مسلم في الفضائل (رقم 2309) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.