د.مصطفى يوسف اللداوي*
ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر، فيها تنزل القرآن، وفيها أنعم الله على أمتنا بالإسلام والإيمان، ليلةٌ مباركة ينتظرها المسلمون في كل عام، يحيون ليلها، ويصومون نهارها، ويسألون الله فضلها، ويجهدون أنفسهم في التماس رضى الرحمن، ومغفرة رب العباد، يرفعون فيها أكفهم متضرعين إلى الله يسألونه المغفرة والرحمة والعفو، ويتمنون في هذه الليلة التي اختصها الله بفضله أن يحقق لهم الأماني، وأن يستجيب لدعواتهم، وكلهم يتمنى أن يناله فضل هذه الليلة، وأن يكرمه الله بخيرها، وأن يلبي أمنياته وأحلامه، صحةً وعافيةً ورزقاً حسناً، ونجاحاً وفلاحاً وعودة للغائب، وشفاءاً للمريض، وغنىً للفقير، ونجاحاً للدارسين، ورزقاً للبنين، وسداداً للدائنين، ونصراً على الأعداء.
أما الفلسطينيون في ليلة القدر فإنهم يسألون الله أشياء أخرى، ويرفعون إليه أكف الضراعة بأدعيةٍ مضافة، ويلحون في الدعاء، ويصرون على الله أن يستجيب لهم، فهم فقراء إليه سبحانه، وفي حاجةٍ إلى رحمته وعنايته ورعايته، ضعفاء يستنصرونه، ومظلومين يستصرخونه، ومعذبين يرجونه، فقد ضاقت بهم الدنيا بما رحبت، وعضهم البؤس بنابه، ونال منهم الجهد والبلاء، وأصابهم الحرمان والتشتت والضياع، وتكالبت عليهم الدول، وتآمر عليهم الأصدقاء، وهم أبناء شعبٍ اختلف أبناؤه، وتشتت أهله، وتمزقت أرضه، ونهبت خيراته، وديست مقدساته، وغيبت الشهادة خيرة أبنائه، ففقدوا الأعزة، وخسروا الأحبة، وتطلعت عيونهم إلى عودةٍ عزيزة، وتلهفت قلوبهم إلى نصرٍ موعود، ووحدة محمودة، وألفةٍ مطلوبة، ومودةٍ مفقودة.
الفلسطينيون في هذه الليلة المباركة يسألون الله قيادةً رشيدة، تأخذ بأيديهم إلى سبيل الرشاد، وتخرجهم مما هم فيه من شتاتٍ وخلافٍ وتيهٍ وضياع، تكون قيادة حكيمة واعية، تحرص على الوطن، وتحافظ على الشعب، فلا تفرط ولا تخون، وتكون صادقةً صريحة، تظهر ما تبطن، تعيش مع الشعب همومه وأحزانه، تفرح لفرحه، وتحزن لحزنه، تقتات من قوته، وتأكل من طعامه، وتنام على حصيره، توالي أهله، وتعادي أعداءه، وتبطش بالمتآمرين على الوطن، والمتعاونين مع العدو، تضرب على يد الظالم، وتأخذ الحق للمظلوم، تنشر العدل، وتحارب الضيم، وتحرص على الفقير حرصها على الغني، وتسهر على حاجة الناس، وتنافح عن حقوقهم، وتدافع عن قيمهم، يتساوى لديها المواطنون، فقراء وأغنياء، حكاماً ومحكومين، مواطنين وغائبين، وتحرص على بطانة الخير، تحضهم على الخير، وتعينهم عليه، وتذكرهم إذا نسوا، وتمنعهم إن أخطأوا، تدب عن مصالح شعبها، وتقاتل من أجل الحفاظ على حقوقه، والتمسك بثوابته، وتقصي من صفوفها أصحاب أفكار التغريب والتهويد، ممن صادقوا الأعداء، وعادوا الأصدقاء.
الفلسطينيون في هذه الليلة المباركة يسألون الله سبحانه وتعالى فرجاً عاجلاً، ونصراً قريباً، وتحريراً للسجناء والمعتقلين من سجون الأشقاء قبل سجون الأعداء، ليعودوا إلى بيوتهم، ويلتفوا حول أطفالهم، ويكونوا قريبين من أسرهم، فكم من طفلٍ صغير شب دون أن يرى أباه، وكم من والدٍ دفن تحت الثرى دون أن يرى ولده، وكم من أمٍ تقضي الساعات الطوال وهي تتأمل صور ولدها، وتنتظر بشغف ساعة عودته، فتدعو الله في ليلة القدر أن تكتحل عيناها برؤياه قبل أن ينطفئ بريقهما، وتذرف الدمع على سجادة صلاتها تتضرع إلى الله أن يفرج عن ولدها، وكم من زوجةٍ أضناها طول السهر، تهدهد أطفالها وهي تنتظر عودة زوجها، ووالد أبنائها، فكانوا جميعاً في ليلة القدر يجأرون إلى الله بصوتٍ أضعفه البكاء، وأضناه النحيب، وغصت به الدموع، اللهم فرج كربنا، وفك أسرانا، وعجل في عودتهم.
الفلسطينيون في ليلة القدر يستذكرون شهداءهم، ويسألون الله العظيم أن يغفر لهم، وأن يتقبلهم شهداء عنده، وأن يجمعهم مع الأنبياء والصديقين والشهداء، وأن يجعلهم من أهل الفردوس الأعلى، وأن يشفعهم في أهلهم وذويهم، وأن يجعلهم فرطاً لأهلهم وأحبتهم في الجنة، وأن يحقن بدمائهم دماء شعبنا، وأن يجعل من أرواحهم الطاهرة درءاً لشعبنا من كل فتنةٍ ومصيبة، ويدعو الفلسطينيون الله في ليلة القدر أن يشفي جرحاهم، وأن يخفف عنهم آلامهم وأمراضهم، وأن يجعل ما وجدوا كفارةً لهم عن معاصيهم.
الفلسطينيون في ليلة القدر يسألون الله العلي القدير أن يوحد صفهم، وأن يجمع كلمتهم، وأن يرقق قلوبهم على بعضهم، وأن يجعلهم قوةً في مواجهة عدوهم، وأن يقوي شوكتهم، ويصلب إرادتهم، وألا يجعل بأسهم بينهم شديداً، ويسألون الله العلي القدير أن يؤلف بين قادة دولنا العربية والإسلامية، وأن يوحد صفوفهم، ليكونوا يداً واحدة في مواجهة العدو الصهيوني، وأن يقذف الله في صدورهم الرحمة والمحبة والرأفة، فيخففوا الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني، وينقبوا الجدار، ويخترقوا الحصار، ويحملوا إلى الأهل المؤن والغذاء والدواء، ويكونوا أنصاراً للفلسطينيين، وعوناً لهم.
الفلسطينيون وهم يحيون ليلة القدر في مساجد غزة التي دمرها العدوان، فيصلون بين الأعمدة المتساقطة، والسقوف المنهارة، وأسياخ الحديد البارزة، وقد أضناهم الجوع، وأرهقهم الحرمان، يسألون الله العلي القدير أن ينظر إلى حالهم، وأن ينقذهم مما هم فيه من ألمٍ ومعاناة، وأن يعجل في رفع الحصار عنهم، فبيوتهم مهدمة، ومنازلهم بلا سقوفٍ ولا أبواب ولا نوافذ، ولا شئ يستر عورة منامهم، ولا ساعات قيلولتهم، ويتطلعون في سجودهم أن يحفظ الله لهم مسجدهم الأقصى، ومدينة القدس، وأن يحميها من دنس اليهود، ومن محاولاتهم تهويدها وشطب معالمها العربية والإسلامية، ويضعون أيديهم على قلوبهم خوفاً وفرقاً من عشرات الأنفاق التي أصبحت تحت الحرم القدسي الشريف، تهدد المسجد الأقصى ومسجد الصخرة، فيسألون الله سبحانه وتعالى أن يحفظ مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كيد اليهود، ويتطلعون إلى المسلمين في كل مكانٍ ليهبوا للدفاع عن القدس، وعن المسجد الأقصى، فهو في خطر، والإسرائيليون يعرضونه كل يومٍ لمزيدٍ من الخطر، وينوون هدمه، وبناء هيكل سليمان المزعوم مكانه، ويسأل الفلسطينيون في ليلة القدر الله أن يرزقهم قبل الموت صلاةً في رحاب الأقصى، وسجوداً على ترابه، أو شهادةً دفاعاً عنه في باحاته.
في ليلة القدر للفلسطينيين طقوسٌ خاصة، وأدعية مختلفة، ومفرداتٌ لا يدرك معناها ولا يعرف صياغتها إلا الذين يشعرون بالمعاناة، ويكتوون بنار الظلم، ولكن الفلسطينيين في كل مساجد الوطن التي غصت بهم صغاراً وكباراً، نساءاً ورجالاً، في سجودهم للخالق في ليلة القدر، يستشعرون العزة كلما ركعوا لله عز وجل، ويعيشون القوة والاستعلاء ما سجدوا لله الواحد القهار، ولا يخشون على أنفسهم ما تغبرت جباههم سجوداً لله، ولا ينال منهم الضعف ولا العجز ما بكت عيونهم خشيةً من الله، فهم على الله يتوكلون، وبه يؤمنون، وله يسجدون، ولوعده مصدقون " كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قويٌ عزيز " .
ليلة القدر
كاتبٌ وباحثٌ فلسطيني