وقفات مع الحج وفضائله

من رياض الصالحين

 

الحمد لله وحْده، والصَّلاة والسَّلام على مَن لا نبي بعده، نبينا محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعلى آله وصحْبه أجمعين.

 

أمَّا بعدُ:

فإنَّ الحج إلى بيت الله الحرام، والقيامَ بمناسكه وآدابه مِن أجَلِّ العبادات والشعائر التي شرعها الله تعالى في كتابه، وفي سُنَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهذه وقفةٌ - بإذن الله تعالى - مع "كتاب الحجِّ وفضائله"؛ للإمام النووي - رحمه الله تعالى - من كتاب "رياض الصالحين"[1]؛ حيث إنَّه جمع فيه عددًا من النصوص الشرعية، مبيِّنًا بها فضيلة الحجّ في الإسلام، وكونه فريضة إسلامية عظيمة، يجب على المسلم القادر المستطيع السَّبْقُ إليها، والسَّعي إلى تحصيلها؛ لتحصيل الأجر والثواب عند الله تعالى، والقيام بشعيرة وركن عظيم مِن أركان الإسلام.

 

وهنا عدَّة نقاطٍ نقف عليها مِن خلال النصوص الشرعيَّة في بيان فريضة الحج وفضائلها:

أولاً: الحجُّ فريضة إسلامية واجِبة:

المُتأمِّل في نصوص الوحْيَيْن مِنَ القرآن والسنة يتبيَّن له أن الحج إلى بيت الله الحرام فريضة إسلامية واجبة على كلِّ مسلم مكلَّف قادر عليها، متى ملك الزَّاد والراحلة، ومتى أمن الطريق إلى بيت الله الحرام، ومتى انتفتْ عنه الأعذار الشرعية، وهذه الفريضة تجب على المسلم مرة واحدة في العمر، ولا يكلَّف غيرها إلا أنْ يتطوَّع، وقد فرض الحج على قول كثير من أهل العلم في العام التاسع من الهجرة، والذي سُمِّي بعام الوفود، وقد ذهب إلى هذا ابن القيِّم - رحمه الله تعالى - وقد بيَّن الله تعالى حُكْم الوجوب في الحجِّ واستطاعته في كتابه وسُنَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال تعالى:﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 96 - 97].

 

ففي هذه الآية دلالةٌ واضحة على وجوب الخروج للحجِّ والطواف بالبيت المبارك، متى استطاع المسلم ذلك، قال ابن كثير - رحمه الله -: "وقوله: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾ هذه آية وُجُوب الحج عند الجمهور، وقيل: بل هي قوله: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 196]، والأول أظهر، وقد ورَدَت الأحاديثُ المتعدِّدة بأنه أحدُ أركان الإسلام ودعائِمه وقواعِده، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعًا ضروريًّا، وإنما يجب على المكلَّف في العُمْر مَرَّة واحدة بالنص والإجماع"[2].

 

وقال القُرطبي - رحِمه الله -: "قوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ ﴾ اللام في قوله: ﴿ وَلِلَّهِ ﴾ لام الإيجاب والإلزام، ثم أكَّدَه بقوله تعالى: ﴿ عَلَى ﴾ التي هي مِن أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب، فإذا قال العرَبِيُّ: لفلانٍ عليَّ كذا، فقد وكَّدَه وأوجبه، فذكر الله تعالى الحجَّ بأبلغ ألفاظ الوجوب؛ تأكيدًا لحقِّه، وتعظيمًا لحرمته، ولا خلاف في فريضته، وهو أحد قواعد الإسلام، وليس يجب إلا مرة في العمر"[3].

 

وعلى هذا أجمع أهل العلم من أهل السُّنة والجماعة، كما دلَّت على ذلك النُّصوص النبوية، ففي الصَّحيحين من حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((بُنِيَ الإسلام على خمسٍ؛ شهادةِ أنْ لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاءِ الزكاة، وصومِ رمضان، وحجِّ البيت))؛ متَّفَق عليه.

 

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خطَبَنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((يا أيُّها النَّاس، قد فرَضَ الله عليكم الحجَّ فحُجُّوا))، فقال رجلٌ: أكُلَّ عامٍ يا رسول الله؟ فسكَت، حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لو قلتُ: نعَم، لوجَبَت، ولما استطعتم)) ثم قال: ((ذَرُوني ما تركْتُكم؛فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتُكم بشيءٍ فَأْتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيءٍ فدعوه))؛ رواه مسلمٌ.

 

أما من حيث القدرةُ والاستطاعة فقد ذكر الشَّوكاني - رحمه الله - كلامًا نفيسًا، فقال: "والظاهر أن من تمكَّن من الزاد، والراحلة، وكانت الطريق آمنة بحيث يتمكَّن من مرورها، ولو بِمُصانَعة بعض الظَّلَمة بِدَفْع شيء من المال يتمكَّن منه الحاجُّ، ولا ينقص من زاده، ولا يجحف به، فالحج غير ساقط عنه، بل واجب عليه؛ لأنه قد استطاع السَّبيل بِدَفْع شيء من المال، ولكنه يكون هذا المال المدفوع في الطريق من جُمْلة ما تتوقَّف عليه الاستطاعة، فلو وجد الرجل زادًا، وراحلة، ولم يجد ما يدفعه لمن يأخذ المكس في الطريق لم يجب عليه الحج؛ لأنه لم يستطع إليه سبيلاً، وهذا لا بُدَّ منه، ولا يُنافي تفسير الاستطاعة بالزَّاد، والراحلة، فإنه قد تعذَّر المرور في طريق الحجِّ لمن وجد الزَّاد والراحلة إلاَّ بذلك القدر الذي يأخذه المكَّاسون، ولعلَّ وجْهَ قول الشافعي: إنَّه سقط الحج، أنَّ أخْذَ هذا المكس منكر، فلا يجب على الحاجِّ أن يَدْخل في منكر، وأنه بذلك غير مستطيع"[4].

 

وقد اختلف بعضُ أهل العلم في وجوب الحج على الفور أو على التَّراخي؟ والذي عليه جمهور أهل العلم كالمالكيَّة والحنفية والحنابلة أنَّ الحج واجبٌ على الفور متى تحقَّقَت الاستطاعة كلُّها، وذهب بعض الشافعية إلى أنَّه لا يجب وإن كان أولى، والصَّحيح أن الحجَّ أولى إذا تحقَّقَت الاستطاعة؛ فإن العبد لا يدري متى يموت، وقد تفوت عليه فريضة الحج وهو قادرٌ عليها اليوم، فيقع العجز غدًا؛ من مرض، وعُذْر، وضياعِ أَمْن.

 

ثانيًا: الحج لا يكون إلا لبيت الله الحرام بمكة:

وهذه مسألة مهمَّة ومستنبَطة من سياق النُّصوص في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 96 - 97].

 

فقد دلَّت الآيتان على عدَّة أمور مهمة:

الأول: أن أوَّل بيت وُضِع للناس للعبادة، إنما هو الذي بمكة لا بغيرها من البلاد، وهذا عليه أكثر المفسِّرين، قال ابن كثير - رحمه الله -: "أوَّل بيت وُضع للناس؛ أيْ: لِعُموم الناس، لعبادتهم ونُسُكهم، يَطُوفون به ويُصلُّون إليه ويَعتكِفُون عنده ﴿ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ﴾؛ يعني: الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل - عليه السَّلام"[5].

 

الثاني: أنَّ الله تعالى بارك في هذا البيت للعالَمِين، وذلك بوجود الأنبياء - عليهم السَّلام - فيه، وإقامة العبادة لله تعالى، وتحصيل المنافع والخيرات، قال البيضاوي - رحمه الله - في "أنوار التَّنْزيل": "كثير الخير والنَّفع لمن حجَّه واعتمَرَه، واعتكف دونَه، وطاف حولَه"[6].

وقال السَّعْديُّ - رحمه الله -: "فيه البرَكة الكثيرة في المنافع الدِّينية والدُّنيوية، كما قال تعالى: ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ﴾ [الحج: 28]"[7].

 

الثالث: أنَّ الله تعالى جعل فيه آيات بيِّنات دالَّة على قدرته وحكمته، منها مَقام إبراهيم - عليه السَّلام - والصَّفا والمروة وغيرها، كما ذكر أهل التفسير.

الرابع: أن الله أمَر بتأمين أهله وقاصديه، فلا يتعرَّض أحدٌ لهم بِسُوء ولا أذًى ولا اعتداء.

الخامس: أن الله تعالى فرَضَ الحجَّ لهذا البيت الذي هو بمكَّة، فلا يصحُّ الحجُّ لأيِّ بقعة أخرى في الأرض سواه، وقد سمَّاه الله بقوله تعالى: ﴿ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ﴾، وبقوله: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ﴾، ولا ريب أنَّ البيت هو الذي ببكَّة، لا بغيرها.

السادس: أنَّ الله تعالى حكَمَ بالكُفْر على تارك هذه الفريضة، الجاحِدِ لها مع الاستطاعة والقدرة، وكذلك مَن جعَلَها في غير مكَّة وبيت الله الحرام؛ أيْ: الكعبة.

 

ومِن هذا نَأخذ فائدة جليلة، وهي: أن التَّوجُّه بعبادة الحجِّ والعمرة كذلك لغير مكَّة هو أمر مخالِفٌ لِحُكم الله ورسوله، فالذين يتوجَّهون بعبادتهم إلى أصحاب القبور والأولياء وغير ذلك، وقَعوا ولا ريب في صُوَر من الشِّرك بالله تعالى، وصرف العبادة لغيره، فالَّذين يَذْهَبون إلى قبر الحُسَين أو الشَّافعي، أو البدويِّ، أو يُعَظِّمون القبور والأضرحة من دون الله كما يفعل غُلاة الشِّيعة وجهَلَتُهم في كَرْبلاء والنَّجف وغيرهما، هؤلاء ولا ريب لَيْسُوا على منهاج النبوة في ذلك الأمر.

 

وكذلك ما يفعله بعض غُلاة المتصوِّفة، من الطواف بالقبر، والاستغاثة والاستِعانة والتوسُّل لطلب الحاجات من الميت، وطلب الشِّفاء والمدَدِ والغفران، والذَّبح والنَّذر لصاحب القبر، وهذا من أعظم الشِّرك عند الله تعالى، ويسمُّون هذا الفعل بالحجِّ عندهم، وقد نهَى النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن تعظيم قبره وعن اتِّخاذه عيدًا بِكَثْرة الزِّيارة والتعظيم المُفْرِط له، حتى لا يدبَّ الشِّرك إلى القلوب، فيقع فيها من المفاسد ما لا يعلمه إلاَّ الله تعالى، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعَن الله اليهود، اتَّخَذوا قبور أنبيائهم مساجد))؛ يُحَذِّر ما صنعوا؛ متفق عليه.

 

قال ابن القيِّم - رحمه الله - في "إغاثة اللَّهفان": "فمِن مفاسِدِ اتِّخاذها أعيادًا: الصَّلاة إليها، والطواف بها، وتَقْبِيلها واستلامها، وتعفير الخُدود على ترابها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النَّصر والرِّزق والعافية، وقضاء الدُّيون، وتفريج الكرُبات، وإغاثة اللَّهفان، وغير ذلك من أنواع الطلبات، التي كان عُبَّاد الأوثان يسألونها أوثانهم.

 

فلو رأيت غُلاة المتَّخِذين لها عيدًا وقد نزلوا عن الأكوار والدوابِّ، إذا رأَوْها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجِبَاه وقَبَّلوا الأرض وكشفوا الرُّؤوس، وارتفعَتْ أصواتهم بالضَّجيج، وتباكَوْا حتى تسمع لهم النَّشيج، ورأوا أنهم قد أَرْبَوا في الرِّبح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يُبْدي ولا يُعِيد، ونادَوْا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلَّوْا عند القبر ركعتين، ورأوا أنَّهم قد أحرزوا من الأَجْر ولا أجر من صلَّى إلى القِبْلتَيْن، فتراهم حول القبر رُكَّعًا سجَّدًا يبتغون فضلاً من الميت ورضوانًا، وقد مَلؤوا أَكُفَّهم خيبة وخسرانًا، فلِغَير الله - بل للشيطان - ما يُراق هناك من العَبَرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميت من الحاجات، ويسأل من تفريج الكربات، وإغناء ذوي الفاقات، ومُعافاة أُولِي العاهات، والبليَّات.

 

ثم انْثَنَوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيهًا له بالبيت الحرام الذي جعله الله مبارَكًا وهُدًى للعالمين، ثم أخذوا في التَّقبيل والاستلام، أرأيتَ الحجر الأسود وما يَفْعَل به وفْدُ البيت الحرام، ثم عفَّروا لديه تلك الجباه والخدود، التي يعلم الله أنها لم تُعَفَّر كذلك بين يديه في السجود.

ثم كمَّلوا مناسكَ حجِّ القبر بالتقصير هناك والحِلاق، واستمتعوا بِخَلاقهم من ذلك الوثَن؛ إذْ لم يكن لهم عند الله مِن خَلاق، وقرَّبوا لذلك الوثَنِ القرابين، وكانت صلاتُهم ونسُكُهم وقربانهم لغير الله ربِّ العالمين، فلو رأيتَهم يهنِّئ بعضهم بعضًا، ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجرًا وافرًا وحظًّا، فإذا رجعوا سألَهم غُلاة المتخلِّفين أن يبيع أحَدُهم ثواب حجَّة القبر بحجِّ المتخلِّف إلى البيت الحرام، فيقول: لا ولو بِحَجِّك كلَّ عام.

 

هذا، ولم نتجاوز فيما حكَيْناه عنهم، ولا استقصينا جميع بِدَعِهم وضلالهم؛ إذْ هي فوق ما يَخْطر بالبال، أو يدور في الخيال، وهذا كان مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح، كما تقدَّم، وكل من شمَّ أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أنَّ مِن أهم الأمور سدَّ الذريعة إلى هذا المحظور"[8]؛ انتهى.

 

فالواجب إذًا الحذَرُ من صَرْف العبادة لغير الله تعالى، وصرفها أيضًا في مكان غير ما شرع الله ورسوله؛ لأنَّ هذا يُفْضِي إلى صُوَر وأنواع من الشِّرك بالله تعالى، والتعدِّي على أمْرِه وشريعته، وقد قال تعالى في كتابه: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 61 - 63]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الزمر: 64 - 66].

 

ثالثًا: من فضائل الحج:

من أُولى فضائل الحج إلى بيت الله الحرام أنَّه من أفضل الأعمال والقربات عند الله تعالى، ففي الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سُئِل النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أيُّ العمل أفضل؟ قال: ((إيمانٌ بالله ورسوله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حجٌ مبرورٌ))؛ متَّفقٌ عليه، والمبرور كما قال النَّوويُّهو: الذي لا يَرْتَكِب صاحبُه فيه معصيةً.

 

وهنا فائدة نفيسة للشيخ ابن عثيمين - رحمه الله تعالى - حيث قال: "فالحجُّ المبرور هو الذي اجتمعَتْ فيه أمور:....

الأمر الثاني: أن يكون خالِصًا لله بأن لا يَحْمل الإنسانَ على الحجِّ إلاَّ ابتغاءُ رضوان الله والتقرُّب إليه - سبحانه وتعالى - لا يريد رياءً ولا سُمْعة، ولا أن يقول الناس: فلان حجَّ، وإنَّما يريد وَجْه الله.

الثالث: أن يكون الحجُّ على صفة حجِّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعني أن يتَّبِع الإنسان فيه الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما استطاع.

الرابع: أن يكون من مالٍ مُباح ليس حرامًا بألاَّ يكون رِبًا، ولا مِن غِشٍّ، ولا مِن مَيسِر، ولا غير ذلك من أنواع المَفاسد المُحرَّمة، بل يكون من مال حلال؛ ولهذا قال بعضُهم:

إِذَا حَجَجْتَ بِمَالٍ أَصْلُهُ سُحُتٌ ♦♦♦ فَمَا حَجَجْتَ وَلَكِنْ حَجَّتِ العِيرُ

يعني: الإِبَل حجَّتْ، أمَّا أنت فما حجَجْت! لماذا؟ لأنَّ مالَك حرام.

 

الخامس: أن يجتنب فيه الرَّفَث والفُسوق والجدال؛ لقول الله تعالى: ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [البقرة: 197]، فيجتنب الرَّفَث وهو الجِمَاع ودواعِيه، ويجتنب الفسوق سواء كان في القول المحرَّم؛ كالغيبة والنَّميمة والكذب، أو الفعل؛ كالنظر إلى النِّساء، وما أشبه ذلك، لا بُدَّ أن يكون قد تجَنَّب فيه الرفث والفسوق، والجدال: المجادلة والمُنَازعة بين الناس في الحجِّ، هذه تُنْقص الحجَّ كثيرًا.

 

اللَّهم إلاَّ جدالاً يُراد به إثبات الحقِّ وإبطال الباطل، فهذا واجبٌ، فلو جاء إنسان مبتدِع يجادل والإنسان مُحْرِم، فإنه لا يتركه، بل يجادله ويبيِّن الحق؛ لأنَّ الله أمر بذلك: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]، لكن الجدال من غير داعٍ، يتشاحنون أيّهم يتقدَّم، أو عند رمي الجمرات، أو عند المطار، أو ما أشبه ذلك، هذا كله مما ينقص الحج، فلا بُدَّ من تَرْك الجدال فالحجُّ المبرور ليس له جزاء إلاَّ الجنَّة"[9]؛ انتهى.

 

ومن فضائل الحج أنه مكفِّر للذُّنوب والخطايا، فإذا حجَّ العبد راجيًا به وجْهَ الله تعالى، رجع وقد عَفا الله عنه، وأخرَجَه من ذنوبه وسيِّئاته كيَوْمِ وُلِد، ففي الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((من حجَّ، فلم يَرْفث، ولم يفسق، رجَع كيوم ولدَتْه أمُّه))؛ متَّفقٌ عليه.

ومن فضائله أنه طريق إلى الجنَّة ونعيمِها؛ ففي الحديثعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((العُمْرة إلى العمرة كفَّارةٌ لما بينهما، والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلاَّ الجنة))؛ متَّفقٌ عليه.

ومِن فضائله أنَّه مِن أفضل الجهاد عند الله تعالى؛ ففي الحديث عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلتُ: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نُجاهد؟ فقال: ((لكن أفضل الجهاد حجٌّ مبرورٌ))؛ رواه البخاري.

ومن فضائله أنَّ الوقوف بعرفةَ - وهو أعظم أركان الحجِّ - طريقٌ للعِتْق من النار، والنَّجاة من أهوالها يوم القيامة، ففي الحديث عن عائشة- رضي الله عنها - أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ما مِن يومٍ أكثر مِن أن يُعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة))؛ رواه مسلمٌ.

ومن فضائله أنَّ القيام بالعمرة في شهر رمضان، تعدل عمرة أو حجَّة مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ففي الحديثعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أن النبيَّ- صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((عمرةٌ في رمضان تعدل حجَّةً))، أو ((حجةً معي))؛ متفقٌ عليه.

 

رابعًا: من مسائل الحج:

وهنا مسائل مهمَّة يحتاج الناس إليها في الحج وأدائه، فمن ذلك: جواز الحجِّ عن الغير، والخروج لأداء المناسك عنه، ففي الحديث عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: أنَّ امرأةً قالت: يا رسول الله، إنَّ فريضة الله على عباده في الحج، أدركَتْ أبي شيخًا كبيرًا، لا يَثْبت على الراحلة، أفأحجُّ عنه؟ قال: ((نعم))؛ متَّفقٌ عليه.

 

وقد دلَّ الحديث على جواز الإنابة في الحجِّ ومناسكِه، كما دلَّ على جواز إنابة الرجل عن المرأة، والمرأة عن الرجل، فالكل في ذلك سواء، ولكن هذا الجواز متعلِّق بشرطين:

الأول: عجز المنيب عن الحجِّ عجزًا لا يستطيع معه الحجَّ، كالمرض الذي لا يُرْجَى شفاؤه، والكِبَر الذي لا حراك معه ولا استطاعة.

الثاني: أن يكون المُوَكَّل بالحجِّ قام بأدائه عن نفسه أوَّلاً، وإلا فلا يصحُّ فعله، على الصحيح من أقوال أهل العلم والفقه.

وقد دلَّ على ذلك أيضًا حديثُ لقيط بن عامرٍ - رضي الله عنه - أنه أتى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: إنَّ أبي شيخٌ كبيرٌ لا يستطيع الحجَّ، ولا العمرة، ولا الظَّعن؟ قال: ((حُجَّ عن أبيك واعتمر))؛ رواه أبو داود، والتِّرمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

 

ومن المسائل المهمَّة جواز حجِّ الصَّبِي، وقبول ذلك منه، وكذلك الحج معه، ففي الحديث عن السَّائب بن يزيد - رضي الله عنه - قال: حُجَّ بي مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في حجَّة الوداع، وأنا ابن سبع سنين؛ رواه البخاري.

 

وعن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لقي ركبًا بالرَّوحاء، فقال: ((مَن القوم؟)) قالوا: المُسْلمون، قالوا: مَن أنت؟ قال: ((رسول الله))؛ فرفَعَت امرأةٌ صبيًّا، فقالت: أَلِهذا حجٌّ؟ قال: ((نعَم، ولَكِ أجرٌ))؛ رواه مسلمٌ.

قال النووي - رحمه الله -: "فيه حُجَّة للشافعي ومالكٍ وأحمد وجماهير العلماء أنَّ حجَّ الصبيِّ منعَقِدٌ صحيح، يُثاب عليه، وإن كان لا يَجْزِيه عن حجَّة الإسلام، بل يقع تطوُّعًا، وهذا الحديث صريح فيه.

وقال أبو حنيفة: لا يصحُّ حَجُّهُ، قال أصحابه: وإنما فعَلُوه تمرينًا له؛ ليعتاده، فيفعَله إذا بلغ، وهذا الحديث يردُّ عليهم.

 

قال القاضي: لا خِلاف بين العلماء في جواز الحجِّ بالصِّبيان، وإنما منَعَه طائفةٌ من أهل البِدَع، ولا يُلْتَفَت إلى قولهم، بل هو مردودٌ بفِعْل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه، وإجماع الأُمَّة، وإنما خلاف أبي حنيفة في أنه هل ينعقد حَجُّه؟ وتجري عليه أحكام الحج، وتجب فيه الفدية، ودم الجبْران، وسائر أحكام البالغ؟

 

فأبو حنيفة يمنع ذلك كلَّه، ويقول: إنَّما يجب ذلك تمرينًا على التَّعليم، والجمهور يقولون: تجري عليه أحكام الحجِّ في ذلك، ويقولون: حجُّه منعقدٌ يقع نَفْلاً؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلَّم - جعل له حجًّا.

قال القاضي: وأجمعوا على أنه لا يُجْزِئه إذابلغ عن فريضة الإسلام، إلاَّفرقة شذَّت فقالت: يُجْزئه، ولم تلتفت العلماء إلى قولها"[10].

 

والذي عليه القول أن حجَّه مقبول، ولكن لا يُجْزئه عن حجَّة الإسلام إذا بلغ، على الصحيح من أقوال أهل العلم؛ لحديث ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أيُّما صَبِيٍّ حجَّ ثم بلغ، فعليه حجَّة أخرى))؛ رواه الشافعي، وصحَّحه الألباني في "إرواء الغليل".

 

ومنَ المسائل النافعة أيضًا جواز الاتِّجار بالبيع والشراء في موسم الحجِّ، والانتفاع بذلك؛ فإن هذا لا ينقص الحجَّ، ولا يؤثِّر في صِحَّته، مع أن التجرُّد للحاجِّ عن حظوظ الدُّنيا أَوْلى وأَسْلَم، فعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: كانَتْ عكاظ ومِجَنِّة وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية، فتأَثَّموا أن يتَّجِروا في المواسم، فنَزَلَت: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [البقرة: 198] في مواسم الحجِّ؛ رواه البخاري.

 

هذا بعضُ ما يسَّر الله تعالى الوقوفَ معه، في بيان الحجِّ وفضائله، وبعض مسائله المهمَّة، من كتاب "رياض الصالحين" للإمام أبي زكريا بن شرف النوويِّ - رحمه الله - وهو كتاب نفيس عظيم النَّفع، يا حبَّذا لو اعْتَنَى به أهل العلم وطُلاَّبُه كثيرًا، قراءة وشرحًا وبيانًا، وتعلُّمًا وتعليمًا، فهو كتاب مبارك بإذن الله، وجامعٌ لكثير من الأبواب والمسائل، وما أجْمَل تعليق الشَّيخ العلامة محمَّد بن عثيمين - رحمه الله - عليه! ولكن لا يزال الباب فيه خير كثير، والله المُوَفِّق.



[1] "رياض الصالحين"، (كتاب الحج، ص: 374 - 376) ط: المجلد العربي.

[2] "تفسير القرآن العظيم"، لابن كثير.

[3] "الجامع لأحكام القرآن"، للقرطبي.

[4] "فتْح القدير"، للشَّوْكاني.

[5] "تفسير القرآن العظيم"، لابن كثير.

[6] "أنوار التَّنْزيل"، للبيضاوي.

[7] "تيسير الكريم الرَّحمن"، للسَّعْدي.

[8] "إغاثة اللَّهْفان من مصايد الشيطان"، لابن القيِّم، (ج1/ 194).

[9] "شرح رياض الصالحين"، (ج3/ 519، 520).

[10] "المنهاج"، (ج9/ 100، 101).


المراجع

alukah.net

التصانيف

قصص  أدب   الآداب