يقول تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) العنكبوت 69 فهل بتوثيق الرابطة وإدامة المودة , تضمن القلوب , كمال التربية وجلال الصناعة الربانية ؟لا بد أن تحاط القلوب , بسياج متين ركين , يضمن لها الاستمرار والثبات ، ولذلك جاءت الهداية , فالهداية هي : أولاً : البيان والدلالة , ثم ثانياً : التوفيق والإلهام ، ولا سبيل إلى البيان والدلالة إلا من جهة الرسل , فإن حصل البيان ترتب عليه هداية التوفيق من الله ، والتمكين للإيمان وثباته وتحبيبه وتزيينه في القلب ، وجعله عند صاحبه مؤثراً له راضياً به , راغباً فيه بالقول والعمل والعزم , ثم إدامة ذلك والثبات عليه إلى الوفاة ، ومن ثم كان سؤال الرب الهداية هو سؤال التثبيت والدوام , بعد استكمال هذه الأمور , يقول تعالى : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام , ومن يرد أن يضله , يجعل صدره ضيقاً حرجاً , كأنما يصعد في السماء ) الأنعام 105.

والهداية لذلك بيد الله وحده :( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) القصص 56 ، وهي في القلوب أخص , حيث أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن , يقلبها كيفما شاء ، وما أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) ، وكان إذا نادى ربه قال : يا مقلب القلوب ,لأن الموانع التي تحول بين الهداية والقلب كثيرة , يجب أن نحذرها , فمنها :ضعف المعرفة أو عدم صفاء الباطن أو الحسد أو الكبر أو حب المنصب والرئاسة أو الشهوة أو المال أو التعلق بالأهل والعشيرة أو الوله بالدار والعقار أو العادات والتقاليد .يقول تعالى : ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه , وأضله الله على علم , وختم على سمعه وقلبه , وجعل على بصره غشاوة , فمن يهديه من بعد الله , أفلا تذكرون ) الجاثية 23 .

وعلى هذا فالهداية حق لأهل الإيمان على الله , وهو لا يخلف الميعاد , يقول تعالى : ( إن علينا للهدي وإن لنا للآخرة والأولى ) الليل 12, ويقول تعالى : ( يهديهم ربهم بإيمانهم ) يونس 9 .وقد ربط الله تعالى بين نتيجة الهداية والسعادة , بأنهما متلازمان ، كما أن الضلال والشقاء متلازمان , يقول تعالى : ( فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ) طه 123, ويقول تعالى : ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى , قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا , قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ) .وللمتأمل في آيات الهداية ، يجد كم هي سعادة أولئك الذين كتب الله لهم الهداية , وهم في علو دائم ، فما وردت كلمة الهدى إلا بعد (على) كما في قوله تعالى : ( أولئك على هدى من ربهم ) لقمان 5 , وفي قوله تعالى : ( وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) سبأ 24 .أما الضلال فجاء بعد (في) كما أيضاً في قوله تعالى: ( وإنهم لفي شك منه مريب) .وكما يقول الإمام ابن القيم في أن الحكمة من ذلك للمتأمل البصير تكون : ( إن طريق الحق تأخذ علواً صاعدة بصاحبها إلى العلى الكبير ، وطريق الضلال تأخذ سُفلاً ، هاوية بسالكها في أسفل سافلين ) المدارج ج1 .ثم أن الهداية لا تتحقق إلا في ظل جماعة : ولذلك كان الترتيب بعد توثيق الرابطة , وإدامة المودة ، كما في قوله تعالى : ( اهدنا الصراط المستقيم ) الفاتحة 6 ، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم في دعاء القنوت ، ( اللهم اهدني فيمن هديت ) , أي أدخلني هذه الزمرة , واجعلني رفيقاً لهم ومعهم .فإذا كتب الله الهداية , أوجب ذلك هداية أخرى على هدايته , قال الله تعالى : ( والذين اهتدوا زادهم هدى) محمد 17 .فهداهم أولاً فاهتدوا : واهتدي على وزن افتعل , بمعنى بذل الجهد والمسئولية في تهيئة أرض الهداية , فالله هو الهادي والإنسان مسئول عن تلقي الهدى بالأسباب المختلفة , فليس هناك هداية بالإجبار , يقول تعالى : ( قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) الأنعام 149, وإنما خلقنا الله لنسعد , ( فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى : إنا لمدركون , قال : كلا إن معى ربي سيهدين ) الشعراء 62 .( وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى عن الهدى ) فصلت 17 , أي دعوناهم للإسلام فرفضوا . فماذا كانت النتيجة ؟ : ( فأخذتهم صاعقة العذاب الهون , بما كانوا يكسبون ) ,  أي عاقبناهم على ذلك .

فزادهم هدى ثانياً :يقول تعالى : ( و يزيد الله الذين اهتدوا هدي ) مريم 76 , بإعانتهم ومدهم بالقوة , وبنصرتهم ومضاعفة حسناتهم , فهذه الزيادة هي هداية إيمانية , لا يمكن الوصول إليها إلا بفضل من الله تعالى : ( إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ) الكهف 13  .وعلى ذلك فالذين يظنون أن السماء تمطر هداية , فينتظرون هداية السماء دون أن يبذلوا مجهودات الهداية , هؤلاء سيطول انتطارهم , حتي يتداركوا أمرهم , من تقديم مجهود الفهم والطاعة والعبادة والعمل . ومع ذلك عليهم بالاستمرار , فقدوتنا الحبيب مع كمال بذله وتمام جهده , كان يقول : اللهم اهدني فيمن هديت .فما علينا إلا أن نسلك طريق الهداية :وذلك في اتباع منهج القرآن الكريم : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين , الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً ) الإسراء 9 , وبالمزيد من الجهاد والعطاء : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا )  العنكبوت 69 , وفي هجر أي سبيل للشيطان : ( ياأيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ) , فالشيطان عدو الهداية , يقول تعالى : ( إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله , ويحسبون أنهم مهتدون ) الأعراف 30 نسأل الله أن يجعلنا من الهداة المهتدين , ومن الهادين المهتدين , ولا يجعلنا من الضالين المضلين , مصداقاً لقوله تعالى : ( قل  إن هدى الله هو الهدى , وأمرنا لنسلم لرب العالمين ) الأنعام 71 . 


المراجع

odabasham.net

التصانيف

الآداب  قصص  أدب  مجتمع