التوبة

(2 ـ 3)

 

 

في مقالة سابقة بان لنا أن من أراد الله به الخير وفقه إلى التوبة، فهي نهر جار للتطهر والاغتسال من الأدران وهي وسيلة ميسرة لولوج باب الرحمة والرضوان، وطريقة سهلة سريعة للفوز بمحبة الملك الديان.

هي ارتقاء وتحرر من أسر الهوى والشيطان، وهي في الوقت نفسه اعتراف بالضعف البشري، وإقرار بالتقصير مع الله عز وجل، وكل ذلك يدفع العبد أن يتوجه إلى المولى الكريم بذلة وانكسار، طالباً منه الصفح والغفران .

والنصوص التي أمرت بالتوبة وحضت عليها كثيرة جداً، نقتطف بعض أزهارها لنرجع جميعاً ونتوب، فما منا أحدٌ إلا وهو عرضة للخطأ والزلل، عدا الرسل عليهم الصلاة والسلام . ألم يقل صلى الله عليه وسلم : " كل بني آدم خطّاء ، وخير الخطائين التوابون " ؟!. بلى قد قال .

وما دام الأمر كذلك فإن الخطاب الرباني توجه إلى المؤمنين جميعاً مطالباً بالتوبة، ولم يأت موجهاً إلى فئة واحدة كي لا يظن أحد أنه أكبر من أن يتوجه الخطاب إليه، أو أنه معفوٌّ من التوبة والأوبة . قال تعالى : (وتوبوا إلى الله جميعاً أيه المؤمنون لعلكم تفلحون) 31 النور.

وهذه آية أخرى من آيات كثيرة تخاطب المؤمنين كل المؤمنين، وليس طوائف من العصاة فحسب، تدعوهم إلى رحاب الله عز وجل، وتشجعهم على التوبة واللجوء إلى كنف الحق سبحانه .

قال عز من قائل : (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) 8 التحريم .

إنها دعوة للجميع ، دعوة إلى توبة صادقة لا غش فيها ولا خداع ، دعوة إلى توبة يعقد فيها العبد صلحاً دائماً راسخاً مع الله ، وما أجمله من صلح مع (الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات) 25 الشورى . وكم في التعبير بقوله تعالى : (يقبل التوبة عن عباده) بحرف الجر (عن) بدلاً من حر الجر (من) من المعاني .

وربَّ عبد قد أسرف على نفسه بالمعاصي ، وانغمس في أصنافها ، وانفلت في ألوانها ، وأكثر منها حتى ظنّ أو خيلَ له شيطانه أنه لا توبة له ، يريد بذلك أن يرديه في أودية اليأس والقنوط ، ويضع بينه وبين التوبة الحواجز والسدود ، فيأتيه النداء الحاني الرحيم : (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً) ، ما أكرمه من ربٍّ وما أرحمه ، يخاطب عبده بهذه الرقة ، فينتزع اليأس من قلبه انتزاعاً ، ويغرس الأمل غرساً ، ويأخذ بيده إلى ميدان رحبٍ من الأمل .

ويبلغ تشجيع العبد على التوبة مدى بعيداً عجيباً فيخلصه من ضغط الماضي وذكرياته المرة ، وأي تشجيع أعظم من أن يعرف العبد الراجع إلى الله أن السيئات تبدل حسنات .

يا رب قد علمنا أن الذنب يمحى ، لكن أن يبدل حسنة أو حسنات فهذا لا يكون إلا منك ، إنه الكرم الذي لا يكون إلا من الرب الكريم . قال تباركت أسماؤه : (إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً) 70 الفرقان .

فإياك يا من أغواك الشيطان وزلت بك القدم أن تظن أن الباب أمامك موصد ، وأنك مهما عملت من خير بعد ذلك لن ينفتح ، وأن الأوان قد فات ، احذر هذا الشرَك ، واقرأ بتدبر ما مرّ من آيات كريمة . اقرأ خطاب من يملك قبول التوبة ، وهو وحده يمنح العفو والمغفرة ، وأنصت بقلبك لما قال ، وارتوِ من جرعات الحنان تتدفق من خطاب الرحمن الرحيم .

ثم ماذا بعد ؟ بعد هذا آفاقٌ رحبة فسيحة من الرحمة نتبينها في قوله تقدست ذاته : (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) 222البقرة .

إن قبول التوبة ومغفرة الذنب مرتبة دون مرتبة المحبة ، فالمحبة مرتبة عالية حظي بها أصناف من المؤمنين قاموا بأعمال جليلة : (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص) فماذا فعل هذا التائب حتى ارتقى هذه الدرجة ونال هذه الرتبة ؟!. إنه ترك ما كان يجب عليه تركه ، وابتعد عما يؤذيه ويضره .

إنها الرحمة الفياضة تنهال على التائب الذي انتصر في معركة الذات . وإذا هذا الذي كان بالأمس شارداً هائماً على وجهه في بيداء المعاصي ومستنقع الخطايا ، يحظى على عجل بهذه المرتبة السامية ، مرتبة المحبة .

سبحانك يا كريم ، ما أحلمك ، وما أعظمك ، سبقت رحمتك غضبك !.

وبعد أن عشنا لقطات من البيان الخالد ، نأتي إلى مشكاة النبوة نستضيء بنورها ونعيش مع لقطاتٍ محدودة من جوامع كلمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حول التوبة .

عن الأغر بن يسار المزني رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ياأيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرة " رواه مسلم .

يا رسول الله أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ والجواب : بلى . لكنها العبودية التي لا يسعد العبد إلا في ظلها ، والتعليم للأمة لتعرف كيف تتخلص من حمل المعاصي وثقلها ، بلزوم الأعتاب ، وإدمان قرع الباب .

وإلى حديث آخر من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم : عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة ، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته ، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده . فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك . أخطأ من شدة الفرح " رواه مسلم .

وحقك يا رب : إننا لا ندري ماذا نقول . وإن الكلام لينقطع أمام عظمة المشهد ، ومقدار الرحمة والكرم ، إن كان لذلك حد أو مقدار .

إن الحق سبحانه يخاطبنا بما نفهم من ألوان الخطاب ، ويضرب المثل بالأمور بما يصل إلى الأفهام من المجسوسات ، وهو سبحانه الذي ليس كمثله شيء . كل ذلك دعوة لنا إليه ، وهو الذي لا تنفعه طاعتنا ولا تضره معاصينا .

وفي الحديث فائدة عظيمة ، وهي أن ما يقوله الإنسان من مثل هذه الكلمات ، في حال دهشته وذهوله لا يؤاخذ به ، وهذا من جملة الرحمة والكرم .

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، حتى تطلع الشمس من مغربها " رواه مسلم .

إنه الجود الممدود ، والخطاب الرقيق الذي يجسد المعنى بالمحسوس ، رحمة بالخلق ، ليبرز المعنى وينتصب شاخصاً ، حثاً للعبد على ما ينفعه ، وما أرقها من دعوة إلى الإسراع بالتوبة ، والبعد عن تأجيلها : " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار " .  فلا ينبغي أن يكون في الأمر تأجيل وتسويف ، بل لو كان الأمر أسرع لكان أولى وأحسن .

سبحانك أنت خلقتنا وتعلم ضعفنا ، فمنحتنا فرصة لولاها لهلكنا ، فيا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك .

وإلى اللقاء ـ بإذنه تعالى ـ في حلقة قادمة .

              


المراجع

odabasham.net

التصانيف

قصص  أدب  مجتمع   الآداب