﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً ﴾النساء71
المعاني المفردة (1)
حِذْرَكُمْ: أخذ حِذْره إذا تيقظ واحترس. ومعنى خذوا حذركم ، أى خذوا ما فيه الاحتياط لكم، ودفع كل مخوف عنكم.
فَانفِرُواْ: أجيبوا الطلب للجهاد.
ثُبَاتٍ: ثُباتٍ . جميع ثُبة: أي مجموعة. قال ابن عباس فانفروا ثبات أي عصبا سرايا متفرقين.
في ظلال الآية (2)
إنها الوصية للذين آمنوا : الوصية من القيادة العليا ، التي ترسم لهم المنهج ، وتبين لهم الطريق . وإن الإنسان ليعجب ، وهو يراجع القرآن الكريم؛ فيجد هذا الكتاب يرسم للمسلمين - بصفة عامة طبعاً - الخطة العامة للمعركة وهي ما يعرف باسم « استراتيجية المعركة » . ففي الآية الأخرى يقول للذين أمنوا : ﴿يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة﴾ فيرسم الخطة العامة للحركة الإسلامية . وفي هذه الآية يقول للذين آمنوا : ﴿خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً﴾ وهي تبين ناحية من الخطة التنفيذية أو ما يسمى « التاكتيك » . وفي سورة الأنفال جوانب كذلك في الآيات : ﴿فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون﴾ . . الآيات .
وهكذا نجد هذا الكتاب لا يعلم المسلمين العبادات والشعائر فحسب؛ ولا يعلمهم الآداب والأخلاق فحسب - كما يتصور الناس الدين ذلك التصور المسكين! إنما هو يأخذ حياتهم كلها جملة . ويعرض لكل ما تتعرض له حياة الناس من ملابسات واقعية . . ومن ثم يطلب - بحق - الوصاية التامة على الحياة البشرية؛ ولا يقبل من الفرد المسلم ولا من المجتمع المسلم ، أقل من أن تكون حياته بجملتها من صنع هذا المنهج ، وتحت تصرفه وتوجيهه . وعلى وجه التحديد لا يقبل من الفرد المسلم ، ولا من المجتمع المسلم أن يجعل لحياته مناهج متعددة المصادر : منهجاً للحياة الشخصية ، وللشعائر والعبادات ، والأخلاق والآداب ، مستمداً من كتاب الله . ومنهجاً للمعاملات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدولية ، مستمداً من كتاب أحد آخر؛ أو من تفكير بشري على الإطلاق! إن مهمة التفكير البشري أن تستنبط من كتاب الله ومنهجه أحكاماً تفصيلية تطبيقية لأحداث الحياة المتجددة ، وأقضيتها المتطورة - بالطريقة التي رسمها الله في الدرس السابق من هذه السورة - ولا شيء وراء ذلك . وإلا فلا إيمان أصلاً ولا إسلام . لا إيمان ابتداء ولا إسلام ، لأن الذين يفعلون ذلك لم يدخلوا بعد في الإيمان ، ولم يعترفوا بعد بأركان الإسلام . وفي أولها : شهادة أن لا إله إلا الله ، التي ينشأ منها أن لا حاكم إلا الله ، وأن لا مشرع إلا الله .
وها هو ذا كتاب الله يرسم للمسلمين جانباً من الخطة التنفيذية للمعركة؛ المناسبة لموقفهم حينذاك . ولوجودهم بين العداوات الكثيرة في الخارج . والمنافقين وحلفائهم اليهود في الداخل . وهو يحذرهم ابتداء : ﴿يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم﴾ . . خذو حذركم من عدوكم جميعاً . وبخاصة المندسين في الصفوف من المبطئين ، الذين سيرد ذكرهم في الآية : ﴿فانفروا ثباتٍ أو انفروا جميعاً﴾ . .
ثُباتٍ . جميع ثُبة : أي مجموعة . . والمقصود لا تخرجوا للجهاد فرادى . ولكن اخرجوا مجموعات صغيرة ، أو الجيش كله . . حسب طبيعة المعركة . . ذلك أن الآحاد قد يتصيدهم الأعداء ، المبثوثون في كل مكان . وبخاصة إذا كان هؤلاء الأعداء منبثين في قلب المعسكر الإسلامي . . وهم كانوا كذلك؛ ممثلين في المنافقين ، وفي اليهود ، في قلب المدينة .
هداية وتدبر
1. ما أبعد الأمة المسلمة اليوم عن هذا النداء الرباني وهم يُضربون ليل نهار وتُحتل أرضهم كما في فلسطين والعراق والأفغان وباكستان والشيشان .. بل إن من يدعو لذلك يوسم بالإرهاب ويطارد في بلاد المسلمين قبل بلاد الكفار.
2. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ {لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا}(3).
3. إن الحذر يدفع ويمنع من مكائد الأعداء، ولو لم يكن كذلك ما كان للأمر بالحذر معنى(4).
4. ذكر الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده: "أن من أخذ الحذر تعرف حال البلاد الإسلامية، وترف حال بلاد الأعداء، أو من يتوقع منهم الاعتداء، وتعرف بلاد المعاهدين وغيرهم، بحيث إذا اضطروأ إلى الحرب كانوا عالمين بمواطن قوتها وأماكن ضعفها". وذكر رضى الله عنه "أنه يدخل فى الاستعداد وأخذ الحذر، واتقاء كل مخوف معرفة الأسلحة واستعمالها فإذا كان ذلك يتوقف على معرفة الهندسة والكيمياء والطبيعة وجر الأثقال، فإنه يجب تحصيل ذلك". ولقد قال الإمام هذا فى أول هذا القرن الذى يعيش فيه، وهو ألزم فى هذا العصر(5).
5. تحذير الله تعالى لنبيه إذا جنحوا للسلم، فلا تغمد السيوف فى أجفانها، ولا يسترخون، ويسكنون فإن المشركين إن جنحوا للسلم مدة، وجنح المسلمون استجابة للسلام يكونون على حذر دائم، فعساهم يأخذون السلمين على غرة فيجب أن يكون المسلمون على استعداد دائم يستجيبون لكل هيعة (6).
6. (7) الأمر بأخذ الحذر والحيطة لا ينافي التوكل، فإن قوماً فهموا هذا الباب على غير وجهه، ففهموا أن التوكل ينافي الأخذ بالأسباب، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث في البخاري وغيره: (ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة، فجاء سعد بن أبي وقاص وسمع لمجيئه صوت السلاح، قال: جئت أحرسك يا رسول الله).. ومن الناس من يستدل بأقوال لا أعلم لها أصلاً، وخاصة الوارد عن عمر لما رآه أحدهم نائماً فقال: (حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر)، فلم يجد عنده حراس ولا غير ذلك، وهذا الأثر لا أعلم له سنداً، والأسانيد الثابتة إلى عمر بخلاف ذلك، فإن عمر كان يتخذ الحجبة والبوابين، ففي الصحيح أن عمر كان في مجلسه وله غلام يقال له: يرفأ ، فقال: يا أمير المؤمنين هذا عثمان يستأذن عليك، قال: فأذن له، ثم قال: هذا عبد الرحمن بن عوف يستأذن عليك، قال: فأذن له.. وأيضاً أراد عيينة بن حصن الفزاري أن يدخل على عمر فلم يستطع، فقال لابن أخيه الحر بن قيس : يا ابن أخي! إن لك وجاهة عند هذا الأمير فاستأذن لي في الدخول عليه، فاستأذن الحر بن قيس لعمه عيينة بن حصن الفزاري في الدخول على عمر.. وأيضاً علي بن أبي طالب رضي الله عنه، جاءه آتٍ فقال: يستأذن عليك ابن جرموز قاتل الزبير بن العوام فقال: ائذن له وبشره بالنار، فالشاهد في قوله: يستأذن عليك فلان.
[1] . زاد المسير. زهرة التفاسير.
[2] . في ظلال القرآن.
[3] . حديث 2862 - الجهاد - صحيح البخارى.
[4] . القرطبي.
[5] . زهرة التفاسير.
[6] . نفسه.
[7] سلسلة التفسير لمصطفى العدوي.
المراجع
odabasham.net
التصانيف
قصص أدب مجتمع