ما الحكمة من تحويل القبلة ثم ما الحكمة من أن تكون هناك قبلة أصلا؟ سؤال مثار قديما وحديثا إلا أن إجابته أراها واضحة جلية في القرآن، وفيما يأتي تأمل في خطاب القرآن عن الحكمة من تحويل القبلة، ثم ذكر محاولتين لفهم هذه الحكمة. يقول القرآن: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) البقرة 142، ثم يبين الله الحكمة من تحويل القبلة فيقول: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) البقرة143
إن خطاب القرآن في الحكمة عن تحويل القبلة أراه ينقسم إلى قسمين: الأول فيه حدة وشدة على أولئك اليهود الذين يسألون عن تحويل القبلة، والجواب: (قل لله المشرق والمغرب) فالله وحده لا يسأل عما يفعل، والثاني فيه لين وحميمة للرسول بذكر العلة من تحويل القبلة؛ وهذا الخطاب تنوع لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمع الوحي وأطاع، وطبق العبودية حق التطبيق؛ ليصفه الله بأنه (عبده) فقال في أكثر من آية: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) النجم 10، وقال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) الإسراء1، وحق لمن كان مطيعا لله غير سائل عن سبب أمر الله أن ينعم الله عليه بهذا الخطاب الودود الذي يبين له الحكمة من تحويل القبلة، أما اليهود الذين كذبوا وكان لهم تاريخ أسود في عدم التصديق فإنهم لا يستحقون إلا هذا الخطاب القاسي الذي كان متنوعا في قسوته حسب المقام، فهم في مناسبة تحويل القبلة يقول الله عنهم: (سيقول السفهاء) ويجيبهم بأنه الواحد المتصرف في كل شيء، وإليه يتجه العباد في المشرق والمغرب، وهو الله، والناس يعبدونه بما يريده سبحانه، وفي مقام سبهم لله قال عز وجل عنهم: (وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) المائدة 64.
إذا فما نلاحظه أن خطاب القرآن في الحكمة من تحويل القبلة كان متنوعا، ففيه قسوة على اليهود السفهاء، وفيه لين -للنبي صلى الله عليه وسلم- وطمأنة للمؤمنين الذين ماتوا قبل تحويل القبلة إلى البيت الحرام بأن الله لن يضيع إيمانهم.
هذه الحكمة التي ذكرها الله تعالى والمتمثلة في أنه يريد أن يبتلي المؤمنين ليعلم (من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) سنة إلهية قدرها الله في خلقه كما بينا في مقال سابق بابتلاء بني إسرائيل بالنهر، (إن الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ) البقرة 249.
وقد صرح الله تعالى بابتلاء المؤمنين كثيرا، فقال: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) آل عمران 142، وقال: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) العنكبوت (1-2)؛ لأن خلافة الله في الأرض لا تؤتى إلا لمن قوي وصبر، ولا تؤتى لأصحاب الهوى والخور، وكلما كان الإنسان قريبا من الله زاد بلاؤه؛ لترتفع منزلته، فعن عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ قَالَ سَمِعْتُ مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ يُحَدِّثُ عَنْ سَعْدٍ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً فَقَالَ الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ رَقِيقَ الدِّينِ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ ذَاكَ وَإِنْ كَانَ صُلْبَ الدِّينِ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ ذَاكَ، قَالَ فَمَا تَزَالُ الْبَلَايَا بِالرَّجُلِ حَتَّى يَمْشِيَ فِي الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ) مسند أحمد
فالله المعبود له المشرق والمغرب، وهو الذي يحدد العبادة وكيفيتها، ولكنه غير القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام؛ ليجرد أولئك العرب الذين كانوا يفتخرون بآبائهم وأنسابهم عند البيت الحرام من هذه العصبية القبلية التي قال عنها الرسول: (دعوها فإنها منتنة)، فإذا خلت قلوبهم من عصبيتهم القبلية وذهبوا حيث أراد الله، فإن هذا الإيمان لا بد من زيادته باختبار آخر، هذا الاختبار يتمثل في تحويل القبلة التي سيثور حولها كلام كثير، وستكون فرصة يهتبلها أعداء الإسلام؛ ليفرقوا المسلمين ويصدوهم عن دينهم، وهذا ما حدث وذكر المفسرون -ومنهم القرطبي- بعض هذه الأقوال، فقال: (كفار قريش لما أنكروا تحويل القبلة قالوا: قد اشتاق محمد إلى مولده، وعن قريب يرجع إلى دينكم، وقالت اليهود: قد التبس عليه أمره وتحير، وقال المنافقون: ما ولاهم عن قبلتهم؟! واستهزءوا) وهذه كلها أقاويل يراد بها الإرجاف وزعزعة استقرار الصف الإسلامي.
إن هذه الاختبارات المتتالية للمسلمين كانت ضرورية في بداية الدعوة التي لم تحرص على الكم وحرصت على الكيف، وهي درس لأصحاب الدعوات الإصلاحية ألا يغتروا بالتفاف الناس وكثرتهم، فقد يكونون غثاء كغثاء السيل، بل أصحاب العقائد القوية والاتجاهات الصحيحة يكتب لتوجهاتهم وإصلاحاتهم البقاء زمنا طويلا؛ لتكون دروسا تتعلمها الأجيال، وهذه التربية الإلهية آتت أكلها سريعا، فأقام المسلمون المبتلون بابتلاءات عديدة منها تحويل القبلة حضارةً لا تساوي في حساب الزمن شيئا، وهذا في عرف الحضارات والتاريخ البشري إنجاز وإعجاز.
هذا ما نفهمه مباشرة من خطاب النص القرآني عن الحكمة من تحويل القبلة ثم إنه من الأمانة أن نذكر أن هذا الموضوع مثار قديما وحديثا وقد اختلفت فيه الأقوال اختلافا شديدا خاصة بين أهل السنة والمعتزلة، ورصد الفخر الرازي في تفسيره هذا الخلاف وقال: (ما الحكمة أولاً في تعيين القبلة؟ ثم ما الحكمة في تحويل القبلة من جهة إلى جهة؟ قلنا: أما المسألة الأولى ففيها الخلاف الشديد بين أهل السنة والمعتزلة)، وأخذ يبين وجهة نظر الفريقين بطريقة صعبة، لكن خلاصته أن أهل السنة يرون أن أحكام الله لا يجب أن تعلل، وشرع في ذكر كلام الفريقين واعتراضاتهم وتفريعاتهم على المسألة مما أراه غير مناسب في هذا المقام ذكره.
وحديثا نجد الشيخ الغزالي في فقه السيرة عن تحويل القبلة فيذكر أن فيها إشارة لتحويل النبوة من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل، فالنبوة كانت في بني إسرائيل فترة طويلة واختص اليهود من بني إسرائيل بقتل الأنبياء والإفساد في الأرض، وكان اليهود يفتخرون على العرب بأن نبيا سيبعث في آخر الزمان سيقتلون به العرب قتل عاد وإرم، ولما جاء النبي من بني إسماعيل عربيا ولم يكن إسرائيليا كفروا به ودبروا له المكائد كي يقتلوه كعادتهم في قتل الأنبياء السابقين.
ولا أرى إلا تعليل القرآن الذي شرعنا في تفصيله وبيانه مع تقديرنا لكل من حاول وعلل، وقرأ وحلل، والله الموفق.
المراجع
odabasham.net
التصانيف
قصص أدب مجتمع