بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه
وبعد ، فقد كثر سؤال بعض الأحبة عن صدقة الفطر ، فكتبت هذه السطور إجابة لهم، وبخاصة السؤال المتكرر عن حكم إخراج القيمة في صدقة الفطر ، أسأل الله أن يجعل ما أكتب وأقول عملا صالحا خالصا متقبلا.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ y قَالَ : فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ r زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ ، وَالْحُرِّ ، وَالذَّكَرِ ، وَالْأُنْثَى ، وَالصَّغِيرِ ، وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ . متفق عليه(1). وفي رواية : قال عبد الله : فَجَعَلَ النَّاُس عِدْلَهُ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ . وفي رواية عند مسلم : فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ .
في هذا الحديث بيان لما يجب على المسلم الذي أتم صيام رمضان وأرضى ربه فيه وأقبل على العيد المبارك منتظراً جائزته من الله رب العالمين ، فإن صيامه معلق حتى يخرج زكاة الفطر عن نفسه وعمن تلزمه نفقته طيبة بذلك نفسه ، راضيا بذلك قلبه ، ففي هذه الزكاة طهرة لصيامه مما قد يكون شابه من لغو أو رفث أو حصل فيه من تقصير ، كما أن فيها معنى اجتماعيا كريما، إذ هي طعمة للمساكين حتى لا يضطروا إلى سؤال الناس في هذا اليوم المبارك يوم العيد .
أما مقدار هذه الصدقة فيسير على العبد ، فهو مقدار صاع من الحبوب التي يأكل منها ويدخر ، أو من الطعام الذي يتناوله ، صاع عن كل فرد ممن تلزمه نفقته حتى الوليد الذي أدرك شيئا يسيرا من رمضان ، يشترك في ذلك الحر والعبد والذكر والأنثى ، ويشترك في إخراجها من ملك ما يزيد على قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته ، وحتى الفقير الذي لا يجد، إن أخذ الصدقات فحاز منها ما يزيد على قوته وقوت عياله ليوم العيد وليلته وجب عليه أن يخرج تلك الصدقة ، وبذلك تتعود الأمة كلها على البذل والعطاء والسخاء ، ويتحقق فيها التكافل والتعاون بأبهى صوره وأجمل معانيه .
وقت إخراج زكاة الفطر :
قول ابن عمر : ((وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ)) يدل على أن المبادرة بها هي المأمور بها ، فلو أخرها عن الصلاة أَثِم ، وخرجت عن كونها صدقة فطر ، وصارت صدقة من الصدقات ، كما في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ y قَالَ : فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ r زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ([1]) .
وفي هذا دليل على أن وجوبها مؤقت بوقت محدد ، فقيل : تجب من فجر أول شوال لقول ابْنِ عُمَرَ y : كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نُخْرِجَهَا ، قَبْلَ أَنْ نَخْرُجَ إِلَى الصَّلاةِ ، ثُمَّ يَقْسِمُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ r بَيْنَ الْمَسَاكِينِ إِذَا انْصَرَفَ ، وَقَالَ : (( أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّوَافِ فِي هَذَا الْيَوْمِ ))([2]) .
وقيل : من غروب آخر يوم من رمضان ، لقوله : ((طُهْرَةً لِلصَّائِمِ)) . وقيل : تجب بمضي الوقتين ، عملا بالدليلين .
والحكمة في تقديمه قبل الخروج للعيد : إغناء الفقراء عن الطواف في الأزقة والأسواق لطلب المعاش في هذا اليوم ، أي يوم العيد ، وإغناؤهم يكون بإعطائهم صدقة أول اليوم .
هل يجوز تقديم زكاة الفطر ؟
في جواز تقديمها أقوال :
منهم من ألحقها بالزكاة فقال : يجوز تقديمها ولو إلى عامين .
ومنهم من قال : يجوز في رمضان لا قبله ؛ لأن لها سببين : الصوم والإفطار ، فلا تتقدمهما كالنصاب والحول .
وقيل : لا تقدم على وقت وجوبها إلا ما يغتفر كاليوم واليومين . وقد فعله ابن عمر ، فعَنْ نَافِعٍ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ y قَالَ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ r بِزَكَاةِ الْفِطْرِ أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ . قَالَ : فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُؤَدِّيهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِالْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ([3]) .
والذي أراه مناسباً في هذا العصر : تقديمها من منتصف شهر رمضان ؛ ليتهيأ للفقير الانتفاع بها ، وتحقيق الإغناء قبل يوم العيد .
هل يجوز إخراج القيمة نقداً في صدقة الفطر ؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
-فذهب فريق من العلماء إلى عدم جواز إخراج القيمة في صدقة الفطر ، ووجوب إخراجها من الأصناف الخمسة المذكورة في الأحاديث ، وهي التمر والشعير والبر والزبيب والأقط ، وألحقوا بذلك الأرز ونحوه من الحبوب .
وحجتهم : أن هذا هو الذي ورد في السنة النبوية ، وأن زكاة الفطر من العبادات ، والأصل في العبادات التوقيف ، ولا يجري فيها القياس ولا الاستحسان ولا الاستصلاح ، وقالوا : إن الدراهم والدنانير كانت موجودة وقت التشريع ولم يذكرها النبي r ، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه فعل ذلك .
-وذهب عمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة ورواية عن أحمد ويحيى بن معين وغيرهم إلى جواز إخراج القيمة في زكاة الفطر ، وأن النبي r إنما ذكر تلك الأصناف لأنها كانت المتيسرة لهم .
قال ابن القيم في أعلام الموقعين : (( فأما أهل بلد أو محلة قوتهم غير ذلك فإنما عليهم صاع من قوتهم ، كمن قوتهم الذرة أو الأرز أو التين ، أو غير ذلك من الحبوب ، فإذا كان قوتهم من غير الحبوب كاللبن والسمك أخرجوا فُطرتهم من قوتهم كائنا ما كان . هذا قول جمهور العلماء ، وهذا الصواب الذي لا يقال بغيره ؛ إذ المقصود سد خلة المساكين يوم العيد ومواساتهم من جنس ما يقتاته أهل بلدهم ، وعلى هذا فيجزئ إخراج الدقيق وإن لم يصح فيه الحديث )) .
إلى أن قال : (( وإنما نص على الأنواع المخرجة لأن القوم لم يكونوا يعتادون اتخاذ الأطعمة يوم العيد ، بل كان قوتهم يوم العيد كقوتهم سائر السنة ، ولهذا لما كان قوتهم يوم عيد النحر من لحوم الأضاحي أمروا أن يطعموا منها القانع والمعتر . فإذا كان أهل بلد أو محلة عادتهم اتخاذ الأطعمة يوم العيد جاز لهم ، بل يشرع لهم أن يواسوا المسكين من جنس أطعمتهم ، فهذا محتمل يسوغ القول به ، والله أعلم )) .
وهذا الكلام من ابن القيم جيد نفيس يبين أن صدقة الفطر إنما شرعت للمواساة ، وأن ما يحقق المواساة يجوز العمل به ، وعلى هذا يجوز إخراج القيمة نقداً ؛ لما في ذلك من منفعة الفقير ومواساته ، ومن التيسير على المكلفين ، بل إن الذي يخرج القيمة يعد مخرجاً للصدقة وزيادة ، حيث أعطى الفقير عملياً فرصة اختيار ما يشاء من الأطعمة أو اختيار سواها مما يحقق له الإغناء ومما هو في نظره أهم .
ويلاحظ أن أصحاب القول الأول الذين يتشددون في إخراج الحبوب قد قيدوا ما لم يقيده الشارع ، فإن الأحاديث المذكورة لم يرد فيها من كلامه r مطلقاً ولا في كلام أصحابه y أي لفظ يدل على التعيين أو على منع إخراج غيرها وعدم جوازه ، ولذلك قال ابن القيم ما سبق أن نقلته عنه ، بل إن هؤلاء المتشددين قد وجدوا أنفسهم مضطرين إلى أن يقيسوا الأرز أو الذرة أو غيرها من الأصناف التي لم تذكر في النصوص على الأصناف التي ذكرت .
والادعاء بتقييدها بالحبوب - ومن ثم إدخال تلك الأصناف فيها - ادعاء لا يستند إلى نص ولا مفهوم ، ولذلك أجاز ابن القيم الأطعمة من غير الحبوب ، وأيا ما كان الأمر فإن الذي يجيز إخراج شيئ من غير الأصناف المذكورة في النصوص ملزم ولا بد بتجويز إخراج القيمة ، إذ لا فرق بين الأمرين.
أما قولهم : إن زكاة الفطر من العبادات والأصل فيها التوقيف ، فيجاب عنه بأن زكاة الفطر في أصلها معقولة المعنى كزكاة المال ، إذ المراد منها إغناء الفقراء وسد حاجات المحتاجين ، فيجب النظر فيها إلى ما هو أيسر على المعطي وأنفع للآخذ ، وليست مثل عدد الصلوات التي لا دخل للعقل في تحديدها ، ألا ترى أن المعطي لو أعطى أكثر مما يجب عليه قُبل منه ، بينما المصلي لو زاد في عدد الركعات بطلت صلاته ؟ .
وأما أن النبي r لم يذكر الدنانير والدراهم ولم ينقل عن الصحابة أنهم أخرجوها في زكاة الفطر ، فيجاب عنه : بأنها كانت قليلة عزيزة عندهم ، وكانوا يتبادلون هذه المواد الغذائية كأنها نقود ، فلم يكن من الحكمة تكليفهم بما يشق عليهم ، ثم إن تحديد مبلغ نقدي معين قد تتغير قيمته بتغير الأيام ، لكن ربطه بشيء يحتاجه الإنسان يكون أضبط ، ولا يتأثر بارتفاع الأسعار أو انخفاضها .
فإذا كان الحال قد تغير ، وصارت النقود هي الأسهل ، وهي المحققة للمقصود الشرعي ، وهي الأيسر على المكلف والأنفع للآخذ ، فما المانع أن يخرج المكلف القيمة إن شاء ؟ وبذلك نعفيه من مشقة شراء الحبوب ، ونعفي الفقير من مشقة تخزينها أو إعادة بيعها بأقل من سعرها ، كما نحمي الأمة من جشع بعض التجار الذين يستغلون ذلك لرفع الأسعار ، بل ونحمي الشريعة من العبث الذي يفعله بعض الناس في بعض البلاد حين يقف التاجر فيبيع للشخص المقدار الشرعي من الأرز مثلا ، وعلى مقربة منه يقف الفقراء الذين يأخذون الأرز من المزكي ليعيدوا بيعه - أو تسليمه - للتاجر ليعيد بيعه لشخص جديد ، وهلم جرا .
ولهذا فإنني مع أكثر أهل العلم الموثوق بدينهم وعلمهم في عصرنا الذين أجازوا إخراج القيمة ، بل اعتبروا إخراج القيمة أفضل من إعطاء الحبوب، لما يترتب على ذلك من مصالح شرعية وقضاء لمصالح المسلمين، والله أعلم.
(1) أخرجه البخاري في كتاب : الزكاة ، باب : فرض صدقة الفطر 3/367 (1503) وباب : صدقة الفطر على العبد وغيره من المسلمين 3/369 (1504) ، وباب : صدقة الفطر صاعا من تمر 3/371 (1507) ، وباب : الصدقة قبل العيد، وباب : صدقة الفطر على الحر والمملوك 3/375 (1509 ، 1511) ، وباب : صدقة الفطر على الصغير والكبير 2/377 (1512) ، ومسلم في كتاب : الزكاة ، باب : زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير 2/677 (984/12-16) .
([1]) أخرجه أبو داود في كتاب : الزكاة ، باب : زكاة الفطر 2/111(1609) ، وابن ماجه في كتاب : الزكاة ، باب : صدقة الفطر (1817) ، وصححه الحاكم على شرط البخاري .
([2]) أخرجه ابن زنجويه في الأموال (1961) ، وابن عدي في الكامل ، والدارقطني في السنن ، وهو من رواية أبي معشر السندي ، وهو ضعيف .
([3]) أخرجه أبو داود في كتاب : الزكاة ، باب : متى تؤدى 2/111(1610) ، وصححه ابن خزيمة (2253) .
المراجع
asharqalarabi.org.uk
التصانيف
قصص أدب مجتمع