إذا كان رمضان ربيعا للقلوب على المستوى الشخصي أو الفردي، وربيعا للشعوب على المستوى الاجتماعي، وربيعا للأمة على مستوى المجاهدة وتحقيق الإرادة الظافرة؛ فإنه من ناحية أخرى يمثل ربيعا للإنسانية بما يقدمه من نموذج لدين الفطرة الإنسانية التي لا تعيش خللا في علاقتها بربها ولا مجتمعها، ولا مع غيرها من الأمم أو الجماعات ..
إن رمضان أو شهر الصوم يقدم هدية عظيمة للإنسانية بما يقدمه من خير وهدى للناس جميعا، لأنه شهر القرآن : "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان" ( البقرة : 185)  ، وهو الذي يحمل أغلى هدية يقدمها للمسلمين ، والبشرية جمعاء ، وهي ليلة القدر: " ليلة القدر خير من ألف شهر " ( القدر : 3) .
إن القرآن الكريم هدية الحق سبحانه وتعالى للبشرية كلها " هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان " ففي القرآن هدى للناس وإرشاد، وإخراج لهم من الظلمات إلى النور ، وتوجيههم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم، في دينهم ودنياهم وأخراهم. لقد قدم القرآن للإنسانية منهجا في الاعتقاد والسلوك والعلاقات لا يتصادم مع الفطرة، ولا يتناقض معها، ولا يخرجها عن طبيعتها التواقة إلى الخير والسكينة والسلام وعبادة رب العباد، وليس العباد.
المسلم يجد في القرآن الكريم هديا سماويا يفرق بين الحلال والحرام، والحق والباطل، ويضع أسسا للعلاقة بين المسلم وأخيه، والمسلم مع غير المسلم، تقوم على العدل والاستقامة، وتحريم الظلم والغبن، وتطرح نموذجا للعلاقات المتكافئة القائمة على الرضا والطمأنينة، وليس على منطق الغالب والمغلوب، أو القوي والضعيف، إنه منهج الحق في أصفى صوره وأنقاها، فالعدل مطلوب ، ولو كان مع من نكرهه " ولا يجرمنكم شنآن قو م على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى " ( المائدة : 8) ، بل إن العدل يمتد إلى القول والشهادة والنقل عن الغير " وإذا قلتم فاعدلوا " ( الأنعام : 152) .
إن العدل أساس الملك بمعنى إقامة الحياة الاجتماعية والإنسانية بما فيها الحكم والنظام والإدارة، وبدون العدل تنهار الحياة، وتتوحش، ويفتقد الناس الأمن والسلام والطمأنينة، ولكن القرآن الكريم يحمل في سوره وآياته نظاما إلهيا محكما يحض على العدل ويقود إليه، ينبع أساسا من الضمير الإسلامي، قبل أن يفرضه الحاكم أو القاضي ، وتلك لعمري أروع صور العدل التي عرفتها الإنسانية ، وأعتقد أنها تتوق إليها باستمرار ، وفي ذلك يتجلى معنى " هدى للناس ، وبينات من الهدى والفرقان " .
ولعل الحديث الشريف التالي كان تعبيرا عن بشارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه بقدوم شهر رمضان وما يتضمنه من هدية أو هدايا غالية حين يقول: (أتاكم شهر رمضان شهر مبارك, كتب الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر، من حُرِم خيرها فقد حرم) رواه النسائي والبيهقي وأحمد.
إنه – أي رمضان – نموذج للشهر الذي تصفو فيه النفوس والقلوب لدى المسلمين الذين تشبعوا بروح الإسلام وتعاليمه ، وقدموا للإنسانية أفضل صورة في حركتهم وسكونهم ، وطاعة ربهم ونبيهم – صلى الله عليه وسلم . ويفترض أن يكون المسلمون في هذا الشهر الكريم صورة ساطعة ومضيئة يقتدي بها غير المسلمين ، حين يرون فيها المثل الراقي للدعوة الإسلامية التي لا تتكلم بقدر ما تقدم النموذج ، ولا تنطق بقدر ما تجسد ، ولا تخطب بقدر ما تصور ، ولا تهتف بقدر ما تفعل وتقرر . عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا جاء رمضان فُتِّحت أبواب الجنة وغُلِّقت أبواب النار وصُفِّدت الشياطين" متفق عليه
وليلة القدر في رمضان ليست شأنا خاصا بالمسلم وحده، ولكنها شأن عام يحمل البشارة والخير للإنسانية جمعاء، حيث تترى الذكريات العطرة للرحمة الإلهية التي لم تتوقف في يوم ما، ولكنها جاءت في رمضان بالقرآن الكريم لتضيء مسالك العمل والأمل أمام كل إنسان ينشد الحق ويبغي أن يعيش في صلح مع ربه ونفسه ومجتمعه .فهذه الليلة المباركة اختصها رب العباد بشأن يميز من ينحاز إليه ويحتمي به ، ففيها يفرق كل أمر حكيم . قال تعالى : " حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ . إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ  . فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ  . أَمْرًا  مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ  . رَحْمَةً  مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ  . رَبِّ السّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ . لا  إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ ( الدخان : 1-8) .
إن الرحمة التي يتفضل بها الخالق على خلقه تقتضي منهم الحمد والشكر والعرفان ، لأنه خصهم بليلة مباركة، وتنزيل مبارك يظل ساطعا على مدى الأيام لمن يريد أن يربي مجتمعا على الإيمان والإرادة، والعمل والأمل، وبناء القوة والشخصية الحضارية .
في القرآن الكريم كل ما يتعلق بالفرد والأسرة والمجتمع والعلاقات الدولية والإنسانية ، وفيه أسس العدل والاستقامة والتعاطف الإنساني، وفيه تفاصيل عن تاريخ الأمم السابقة لتكون عبرة وعظة لمن يريد أن يفوز بخيري الدنيا والآخرة، وفيه بالإضافة إلى ذلك رقي التعبير وسلاسة القول، وحسن الخطاب، إلى جانب فصل الخطاب.
ليس المسلمون وحدهم في حاجة إلى استدعاء شهر رمضان، ولكن الإنسانية كلها في حاجة إليه، لتصحح مسيرتها، وتستضيء بهدى الله وبيناته، وترى المزالق التي تهدد خطاها ، وتكبح جماح الخير لحساب الشر، ولعل هذا ما جعل الأحاديث الشريفة تلح على فكرة تصفيد الشياطين والمردة في رمضان، ليكون ذلك تصفيدا لشياطين الإنس ومردتهم الذين يعيثون في الأرض فسادا بلا رادع من ضمير أو أخلاق أو قانون .
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربي منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه؛ ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال فيشفعان) رواه أحمد والطبراني في الكبير.
وفي عقب رمضان يأتي العيد المبارك ليكون تتويجا لأسمى معاني الإنسانية والتعاطف البشري الذي يمثل نموذجا لكل محب للخير والفطرة الصافية حيث تكون للمؤمن فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه كما جاء في الحديث الشريف المتفق عليه.
إن المسلمين حين يفرحون فرحا حقيقيا في العيد بعد صيام رمضان؛ فمعنى ذلك أنهم مستقلون ومنتصرون وظافرون، وأنهم قبل ذلك أفادوا من الهدية الربانية شهر رمضان وليلة القدر، وبسبيلهم إلى إفادة الإنسانية دنيا وآخرة، أو بمعني آخر فإنهم يصنعون ربيع الإنسانية.
 

المراجع

odabasham.net

التصانيف

الآداب  قصص  تمجتمع   قصة