{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ]النور27
لقد جعل الله البيوت سكناً يأوي إليها أهلها، تطمئن فيها نفوسهم، ويأمنون على حرماتهم، يستترون بها مما يؤذي الأعراض والنفوس، يتخففون فيها من أعباء الحرص والحذر.
وإن ذلك لا يتحقق على وجهه إلا حين تكون محترمة في حرمتها، لا يستباح حماها إلا بإذن أهلها. في الأوقات التي يريدون، وعلى الأحوال التي يشتهون.
إن اقتحام البيوت من غير استئذان؛ هتك لتلك الحرمات، وتطلع على العورات، وقد يفضي إلى ما يثير الفتن، أو يهيئ الفرص لغوايات تنشأ من نظرات عابرة.. تتبعها نظرات مريبة.. تنقلب إلى علاقات آثمة، واستطالات محرمة.
وفي الاستئذان وآدابه ما يدفع هاجس الريبة، والمقاصد السيئة.
إن كل امرئ في بيته قد يكون على حالة خاصة، أو أحاديث سرية، أو شؤون بيتية، فيفجؤه داخل من غير إذن قريباً كان أو غريباً، وصاحب البيت مستغرق في حديثه، أو مطرق في تفكيره، فيزعجه هذا أو يخجله، فينكسر نظره حياءً، ويتغيظ سخطاً وتبرماً.
ولقد يقصِّر في أدب الاستئذان بعض الأجلاف ممن لا يهمه إلا قضاء حاجته، وتعجُّل مراده، بينما يكون دخوله محرجاً للمزور مثقلاً عليه.
وما كانت آداب الاستئذان وأحكامه إلا من أجل ألا يفرِّط الناس فيه أو في بعضه، معتمدين على اختلاف مراتبهم في الاحتشام والأنفة، أو معولين على أوهامهم في عدم المؤاخذة، أو رفع الكلفة.
إن التفاصيل الدقيقة في آداب الاستئذان تؤكد فيما تؤكد حرمة البيوت، ولزوم حفظ أهلها من حرج المفاجآت، وضيق المباغتات، والمحافظة على ستر العورات. عورات كثيرة تعني كل ما لا يُرغب الاطلاع عليه من أحوال البدن، وصنوف الطعام واللباس وسائر المتاع، بل حتى عورات المشاعر والحالات النفسية، حالات الخلاف الأسري، حالات البكاء والغضب والتوجع والأنين. كل ذلك مما لا يرغب الاطلاع عليه لا من الغريب ولا من القريب، إنها دقائق يحفظها ويسترها أدب الاستئذان. فهل يدرك هذا أبناء الإسلام؟ [![1]
هداية وتدبر[2]
1. هذه من الآداب الاجتماعية الشرعية ذات مدلول حضاري، وتمدن رفيع لما فيها من تنظيم لحياة المجتمع وأحوال الأسر في البيوتات، حفظاً لروابط الود والمحبة، وإبقاء على حسن العشرة وتبادل الزيارات بين المؤمنين. والساحة الإسلامية ملأى بالآداب والأخلاق الرفيعة ذات المعاني الحضارية السامية، والمقومات الأساسية لبناء المجتمع الفاضل، والقصد من تشريع هذه الآداب صون قاعدة الحرية، والاحتفاظ بالأسرار الشخصية، والترفع عن المباذل والدناءات وسفساف الأمور، ووضع الحواجز والموانع التي تمس العورات والأعراض، وتتعلق بخصوصيات الإنسان.
2. المراد بالسلام هنا: سلام الاستئذان لقوله: {عَلَى أَهْلِهَا}، ومن المعلوم أن الاستئناس بعد السلام، فالواو لا تقتضي الترتيب، على ذلك.
3. يكره للمستأذن أن يقول: أنا، إذا سئل: من أنت؟ ففي الصحيح: أن جابراً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن عليه، فقال النبي: « من؟ قال: أنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أنا!! كأنه كرهها عليه الصلاة والسلام ». فيكره أن تقول: أنا، وليست الكراهية على الإطلاق، إنما هي في باب الاستئذان، بل قل: أنا فلان.
4. إذا وجدت في البيت امرأةً بمفردها، وقالت لك: ادخل، وأنت وحدك؛ فلا يشرع لك الدخول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إياكم والدخول على النساء! قال قائل: أفرأيت الحمو يا رسول الله؟! -أي: قريب الزوج- قال: الحمو الموت ». أما إذا أتيت أنت وزوجك إلى رجلٍ في بيته، فلم تجدا في البيت إلا امرأته، وأذنت لكما بالدخول، فتدخل أنت وزوجك، وتجلس زوجك معها، وأنت تنتظر داخل البيت في مكان آمن. وإذا كان مجموعة رجال، والفتنة مأمونة، والبيت به امرأة واحدة، وأذنت بالدخول برضا زوجها بذلك؛ جاز لهم الدخول، قال النبي صلى الله عليه وسلم: « ألا لا يلجن رجلٌ على مغيبة بعد يومي هذا، إلا ومعه الرجل أو الرجلان والثلاثة »، والنبي صلى الله عليه وسلم دخل هو وأبو بكر وعمر بيت أبي التيهان الأنصاري رضي الله عنه في غيابه، لما أذنت لهم المرأة، وهذا محله عند أمن الفتنة، والله لا يحب الفساد.
5. قال الزمخشري: وذلك لأن الاستئذان لم يشرع لئلا يطلع الداخل على عورة، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط، وإنما شرع لئلا يوقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم، ويتحفظون من اطلاع أحد عليها، ولأنه تصرف في ملك غيرك. فلا بد من أن يكون برضاه، وإلا أشبه الغصب والتغلب.
6. لا فرق في وجوب الاستئذان وتحريم الدخول بغير إذن بين أن يكون الباب مغلقا أو مفتوحا. ويجوز الإذن من الصغير والكبير، وقد كان أنس بن مالك يستأذن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، وكذلك الصحابة مع أبنائهم وغلمانهم رضي اللّه عنهم.
7. والاستئذان حقٌّ على كل داخل من قريب و بعيد من الرجل والمرأة، ومن الأعمى والبصير.
عن عطاء بن يسار «أن رسول الله  سأله رجل فقال: يا رسول الله، أستأذن على أمي؟ فقال: نعم، قال الرجل: إني معها في البيت؟ فقال رسول الله : استأذن عليها. فقال الرجل: إني خادمها. فقال له رسول الله: استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة؟، قال: لا. قال: فاستأذن عليها» [رواه مالك بإسناد جيد[.
لطائف
8. كلمة بيت: نفهم منها أنه ما أعِدّ للبيتوتة، حيث يأوي إليه الإنسان آخر النهار ويرتاح فيه من عناء اليوم، ويُسمَّى أيضاً الدار؛ لأنها تدور على مكان خاص بك؛ لذلك كانوا في الماضي لا يسكنون إلا في بيوت خاصة مستقلة لا شركة فيها مثل العمارات الآن، يقولون: بيت من بابه. حيث لا يدخل ولا يخرج عليك أحد، وكان السَّكَن بهذه الطريقة عِصْمةً من الريبة؛ لأنه بيتك الخاص بأهلك وحدهم لا يشاركهم فيه أحد.
9. روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول السلام عليكم وذلك لأن الدور لم يكن عليها حينئذ ستور.
10. والاستئذان يكون بالسلام، أو بقرع الباب، أو النداء لمن في البيت، أو التسبيح والتحميد أو صريح الاستئذان وغير ذلك.
11. حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها لئلا يجعلوا القرابة والصداقة والمخالطة مبيحة لإسقاط الآداب فإن واجب المرء أن يلازم الآداب مع القريب والبعيد ولا يغرنَّه قول الناس: إذا استوى الحب سقط الأدب.
.............................................
المعاني المفردة[3]
تَسْتَأْنِسُوا: الاستئناس: الاستئذان بلطف. والاستئذان الاستعلام تقول آذنته بكذا أي أعلمته وآنست منه كذا أي علمت منه. تستعلموا وتستكشفوا الحال . وقيل من الأُنْس والاطمئنان.
الإعراب[4]
لا ناهية. وتدخلوا: فعل مضارع مجزوم بلا: وبيوتاً: مفعول به. وغير بيوتكم: صفة لبيوتاً. وحتى: حرف غاية وجر. وتستأنسوا: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى. وتسلموا: عطف على تستأنسوا. وعلى أهلها: متعلقان بتسلموا. ذلكم: مبتدأ. وخير: خبر. ولكم: متعلقان بخير. ولعل واسمها وجملة تذكرون: خبر لعل. وجملة ذلكم: مستأنفة. وجملة لعلكم تذكرون: حال معللة لفعل محذوف أي أنزل عليكم هذا آملين أن تتذكروا.
سبب النزول[5]
 أن امرأة من الانصار جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني اكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد فلا يزال يدخل علي رجل من اهلي فنزلت هذه الآية فقال ابو بكر بعد نزولها يا رسول الله أفرأيت الخانات والمساكن التي ليس فيها ساكن فنزل قوله ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة الآية..
المناسبة في السياق[6]
لما حذر تعالى من قذف المحصنات، وشدد العقاب فيه، وكان طريق هذا الإتهام مخالطة الرجال للنساء، ودخولهم عليهن في أوقات الخلوات، أرشد تعالى إلى الآداب الشرعية في دخول البيوت، فأمر بالإستئذان قبل الدخول وبالتسليم بعده.
القراءات
الكلمة
القارئ - الراوي
الشرح
بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ
ابن كثير المكي
متفق عليه
حمزة الكوفي
متفق عليه
الكسائي الكوفي
متفق عليه
خلف العاشر
متفق عليه
نافع المدني
قالون
عاصم الكوفي
شعبة
(بِيُوتاً غَيْرَ بِيُوتِكُمْ) بكسر الباء في الكلمتين
بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ
نافع المدني
ورش
يعقوب
متفق عليه
عاصم الكوفي
حفص
(بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) بضم الباء في الكلمتين وإظهار التنوين قبل الغين وبتفخيم الراء وإسكان الميم
                 
 
[1] . في ظلال القرآن – بتصرف -.
[2] . سلسلة التفسير لمصطفى العدوي. محاسن التأويل/ محمد جمال الدين القاسمي. التفسير المنير/ الزحيلي. مفاتيح الغيب/ فخر الدين الرازي. التحرير والتنوير.
[3] . زاد المسير - ابن الجوزي. محاسن التأويل/ محمد جمال الدين القاسمي. تفسير الشعراوي.
[4] . إعراب القرآن وبيانه/ محي الدين درويش.
[5] . زاد المسير - ابن الجوزي.       
[6] . صفوة التفاسير ـ للصابونى.
 

المراجع

odabasham.net

التصانيف

قصص  أدب  مجتمع