الحمد لله، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وبعد:
فهذا حديث من علامات الإيمان: الإكرام، وهو الحديث الخامس عشر من أحاديث الأربعين، وهو حديث جامع، يجمع من صفات الخير والإيمان: (الصمت، إكرام الضيف، إكرام الجار)، ولو اجتمعن بأحد لكمل إيمانه، ومَن منا لا يريد أن يكمل إيمانه؟! فكمال الإيمان كلنا يرغب فيه، وهي صفات طيبة تجعل من يعاملك يتمسك بك؛ لأنك تسمع أكثر مما تتكلم، وتكرمه إذا أضفته، أو ضَيَّف نفسه، ويزيد إكرامك إذا كان جارك.
ما أعظم هذا الدين الذي يهتم بحب الخير للغير.
وصلِّ اللهم على محمد وآله وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
• • •
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَو لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، ومَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ واليَومِ الآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ)؛ رواه البخاري، ومسلم.
المعاني:
((مَنْ كَانَ يُؤمِنُ)) هذه جملة شرطية، جوابها: ((فَليَقُلْ خَيْرًا أَو لِيَصْمُتْ))، والمقصود بهذه الصيغة الحث والإغراء على قول الخير أو السكوت، كأنه قال: إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر، فقل الخير أو اسكت، قل خيرًا تغنم، واسكت عن شر تَسْلَم.
قال ابن عثيمين رحمه الله: ((فَليَقُلْ خَيرًا)) اللام للأمر، والخير نوعان: خير في المقال نفسه، وخير في المراد به، أما الخير في المقال؛ فأن يذكر الله عز وجل، ويسبح، ويحمد، ويقرأ القرآن، ويعلم العلم، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فهذا خير بنفسه، وأما الخير لغيره؛ فأن يقول قولاً ليس خيرًا في نفسه، ولكن من أجل إدخال السرور على جلسائه، فإن هذا خير؛ لما يترتب عليه من الأنس، وإزالة الوحشة، وحصول الألفة؛ لأنك لو جلست مع قوم، ولم تجد شيئًا يكون خيرًا بذاته، وبقيت صامتًا من حين دخلت إلى أن قمت، صار في هذا وحشة وعدم ألفة، لكن تحدث ولو بكلام ليس خيرًا في نفسه، ولكن من أجل إدخال السرور على جلسائك، فإن هذا خير لغيره.
♦ قول الخير من الإيمان: روى الطبراني، من حديث أسود المحاربي، بسند حسن: قلت: يا رسول الله، أوصني، قال: ((هل تملك لسانك؟))، قلت: فما أملك إذا لم أملك لساني؟ قال: ((فهل تملك يدك؟))، قلت: فما أملك إذا لم أملك يدي؟ قال: ((فلا تقل بلسانك إلا معروفًا، ولا تبسط يدك إلا إلى خير)).
((أو لِيَصْمُتْ))؛ أي: يسكت.
♦ الصمت نجاة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن صمت نجا))؛ رواه أحمد، بسند حسن.
♦ الكلمة كالسيف:
في حديث معاذ رضي الله تعالى عنه، عندما قال له صلى الله عليه وسلم: ((احفظ عليك لسانك))، فقال: يا رسول الله، وإنَّا لمؤاخَذون بما نتكلم به؟! قال: ((ثكلتك أمك! وهل يكبُّ الناسَ في النار على وجوههم - أو قال: على مناخرهم - إلا حصائدُ ألسنتهم؟!)).
أخذ أبو بكر الصديق رضي الله عنه بطَرَف لسانه، وقال: "هذا الذي أوردني الموارد".
احذر لسانك أيها الإنسان
لا يقتلنك إنه ثعبان
|
• • •
جراحات السنان لها الْتئام
ولا يلتام ما جرَحَ اللسانُ
|
♦ الصمت أفضل العبادة:
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "أفضل العبادة: الصمت، وانتظار الفرج".
عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: "أربعٌ لا يصبن إلا بعجب: الصمت، وهو أول العبادة، والتواضع، وذكر الله، وقلة الشيء".
♦ الهيبة في الصمت:
عن علي رضي الله عنه قال: "بكثرة الصمت تكون الهيبة".
♦ الصمت يغيظ الأعداء، ويحيرهم:
كانوا يقولون: تكلم حتى أعرفك، المرء مخبوء تحت لسانه.
♦ الصمت مدرسة الحِلم:
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "تعلموا الصمت كما تَعَلَّمون الكلام؛ فإنَّ الصمت حِلم عظيم، وكن إلى أن تسمع أحرص منك إلى أن تتكلم، ولا تتكلم في شيء لا يعنيك، ولا تكن مِضْحاكًا من غير عجب، ولا مشَّاءً إلى غير أَرَب".
♦ الصمت حكمة:
عن وهيب بن الورد رحمه الله، قال: "كان يقال: الحكمة عشرة أجزاء، فتسعة منها في الصمت، والعاشرة عزلة الناس".
قال أبو عمر الضرير: "سمعت رياحًا القيسي يقول: قال لي عتبة: يا رياح، إن كنتُ كلما دعتني نفسي إلى الكلام تكلمتُ فبئس الناظر أنا، يا رياح، إنَّ لها موقفًا تغتبط فيه بطول الصمت عن الفضول".
وقال الحسن رحمه الله: "إملاء الخير خير من الصمت، والصمت خير من إملاء الشر".
♦ عُدَّ كلامك:
قال تعالى: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟!))، وقال: ((كل كلام ابن آدم عليه إلا ذكر الله تعالى، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر))، قال ابن دقيق العيد: "فمَن علِم ذلك، وآمن به حق إيمانه، اتقى الله في لسانه، فلا يتكلم إلا بخير، أو يسكت".
♦ والكلام يُقسَّم لثلاث: كلام يثاب عليه، وكلام حرام، وكلام مباح، والأَوْلَى أن تتركه؛ كي لا يجرك لمكروه أو حرام.
♦ هل يُكتَب على الإنسان كلُّ ما يلفظ به؟
قال ابن دقيق العيد: "واختلف العلماء في أنه هل يكتب على الإنسان جميع ما يلفظ به، وإن كان مباحًا، أو لا يكتب عليه إلا ما فيه الجزاء من ثواب أو عقاب؟ وإلى القول الثاني ذهب ابن عباس، وغيره، فعلى هذا تكون الآية الكريمة مخصوصة؛ أي: ما يلفظ من قول يترتب عليه جزاء".
♦ قال النووي في شرح هذا الحديث: قال الشافعي رحمه الله تعالى: معنى الحديث إذا أراد أن يتكلَّم فليُفكِّر، فإن ظهر أنَّه لا ضرر عليه تكلَّم، وإن ظهر أنَّ فيه ضررًا أو شكَّ فيه أمسك، وقال الإمام الجليل أبو محمد بن أبي زيد إمام المالكية بالمغرب في زمنه: جميعُ آداب الخير تتفرَّع من أربعة أحاديث: قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((مِن حُسْنِ إسلام المرء: تركُهُ ما لا يعنيه))، وقوله صلى الله عليه وسلم للذي اختصر له الوصيَّة: ((لا تغضب))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدُكم حتَّى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه))، ونقل النووي عن بعضهم أنَّه قال: "لو كنتم تشترون الكاغد للحفظة، لسكتُّم عن كثير من الكلام".
♦ ((وَمَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ)):
مَن الجار؟ أيْ: جاره في البيت، والظاهر أنه يشمل كل جار، حتى جاره في السفر، والمتجر، كجارك في الدكان مثلاً، لكن هو في الأول أظهر؛ أي: الجار في البيت، وكلما قرب الجار منك كان حقه أعظم، وأعظم الناس حقًّا للجوار الزوجة، فهي أقرب جار، وأطلق النبي صلى الله عليه وسلم الإكرام، فقال: ((فليُكْرِم جَارَهُ))، ولم يقل مثلاً بإعطاء الدراهم، أو الصدقة، أو اللباس، أو ما أشبه هذا، وكل شيء يأتي مطلقًا في الشريعة فإنه يُرجع فيه إلى العرف، وفي المنظومة الفقهية:
وكلُّ ما أتى ولم يحدد
بالشرع كالحرز فبالعرف احدد
|
فالإكرام - إذًا - ليس معيَّنًا، بل ما عدَّه الناس إكرامًا، ويختلف من جار إلى آخر، فجارك الفقير ربما يكون إكرامه برغيف خبز، وجارك الغني لا يكفي هذا في إكرامه، وجارك الوضيع ربما يكتفي بأدنى شيء في إكرامه، وجارك الشريف يحتاج إلى أكثر.
حقوقه:
قال العلماء: الجيران ثلاثة:
الأول: جارٌ قريب مسلم، فهذا له حق الجوار، والقرابة، والإسلام.
الثاني: جار مسلم غير قريب، فهذا له حق الجوار، والإسلام.
الثالث: جار كافر، فهذا له حق الجوار، وإن كان قريبًا فله حق القرابة أيضًا.
قال الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله تعالى: ومن حقوق الجار:
1- ألا تطيل بناءك عليه، فتسد عنه إلا بإذنه.
2- وأن من حق جارك إذا بنيت بيتك، وكان جارك بجواره، ولم يبنِ جدارًا بجوارك، وأراد أن يسقف بيته، فمن حقه أن يضع أطراف خشب السقف على جدارك، إذا كان في جدارك قوة تتحمل السقفين معًا؛ ولذا يقول أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يمنعَنَّ أحدكم جاره أن يغرز خشبه في جداره))، ما لي أراكم عنها معرضين؟! والله لألقين بها بين أكتافكم.
3- حق الجار الكافر: قال عبدالله بن عمرو بن العاص - كما في الأدب المفرد للبخاري -: ذُبحت شاة في بيته، فقال لغلامه: أعطِ فلانًا، وأعطِ جارنا اليهودي، فقال الحاضرون: اليهودي يا أبا عبدالله؟! قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي بالجار، ويقول: ((لا زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورِّثه)).
4- أقل حق للجار أن تكف عنه أذاك، كم حد الجار؟ هل كما يقولون: "وصى على سابع جار"؟ والجار: هل هو الملاصق، أو المشارك في السوق، أو المقابل، أو ماذا؟ هذا - أيضًا - يُرجع فيه إلى العرف، لكن قد ورد أن الجار أربعون دارًا من كل جانب، وهذا في الوقت الحاضر صعب جدًّا، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعون دارًا مساحتهم قليلة، لكنْ في عهدنا أربعون دارًا قرية، فإذا قلنا: إن الجار أربعون دارًا، والبيوت قصور، صار فيها صعوبة؛ ولهذا نقول: إن صح الحديث فهو مُنَزَّل على الحال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يصح رجعنا إلى العرف، إن دين الإسلام دين الألفة والتقارب والتعارف، بخلاف غيره.
فضل الإحسان للجار:
1- الجار وصية الله تعالى: قال صلى الله عليه وسلم: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه))؛ متفق عليه، ((خير الجيران عند الله خيرهم لجاره))؛ أحمد، والترمذي.
2- حسن الجوار يطيل العمر: قال صلى الله عليه وسلم: ((حسن الأخلاق وحسن الجوار، يزيدان في الأعمار))؛ رواه أحمد.
3- من السعادة الجار الصالح: ((ثلاثُ خصالٍ من سعادة المرء المسلم في الدنيا: الجار الصالح، والمسكن الواسع، والمَرْكب الهنيء)).
4- أن يوسع على جاره بما لا يرهقه، ويتعاهده: قال صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر، إذا طبخت مرقة، فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك))؛ رواه مسلم.
5- أَوْلَى جار بالإحسان أقربهم بابًا، وقيل: مَن بابه أمام بابك.
6- الجار الجنب: اليهودي والنصراني، الصاحب بالجنب: قيل: الرفيق الصالح، وقيل: جليسك في الحضر، ورفيقك في السفر، وقيل: الرجل أصابه شيء وجاءك لتنفعه، وقيل: هو الزوجة.
الآثار المترتبة على إيذاء الجار:
1- صاحبه ليس بكامل الإيمان: ((والله لا يؤمن مَن لا يأمن جاره بوائقه)).
2- ((ليس المؤمن بالذي يشبع، وجاره جائع إلى جنبه)).
3- مانع من دخول الجنة: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنةَ مَن لا يأمن جاره بوائقه))؛ مسلم.
4- مُفْضٍ بصاحبه إلى النار: عن أبي هريرة رضي الله عنه: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إن فلانة تصلي بالليل، وتصوم بالنهار، وفي لسانها شيء يؤذي جيرانها (سليطة)، قال: ((لا خير فيها، هي في النار))؛ صححه الحاكم، والذهبي.
5- يَسُوغُ للحاكم أن يُعْلِمَ أفراد المجتمع به؛ حتى يُقلع عن هذا الإيذاء.
6- من الكبائر.
7- المعصية (زنا، وسرقة... إلخ) مع الجار أشد من عشر جنايات مع غيره.
قصص من إكرام الجيران:
1- النبي صلى الله عليه وسلم يزور خادمًا غير مسلم:
جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان له خادم يهودي، فمرض هذا الخادم، فسمع صلى الله عليه وسلم بأن خادمه اليهودي مريض، فقال لمن عنده: ((هلموا بنا نزوره))، سيد الخلق يزور خادمًا يهوديًّا، فالعوام يقولون: اجتمعت فيه الخستان؛ كونه خادمًا، وكونه يهوديًّا، ولكن مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم تطغى على هذا كله، فذهب ومعه أصحابه، فوجد الخادم في النزع، فقال صلى الله عليه وسلم: ((يا غلام، قل: لا إله إلا الله، محمد رسول الله))، فنظر الغلام إلى أبيه، وكان عند رأسه، فقال الأب للغلام: أطع أبا القاسم يا بُني، فنطق بالشهادتين، ومات في الحال، فقال صلى الله عليه وسلم لمن معه من أصحابه: ((تولوا أمر أخيكم)).
2- الإحسان يستعبد الإنسان:
إن الإمام أبا حنيفة كان له جار يؤذيه، وفي يوم من الأيام لم يجد علامات الإيذاء التي تعود عليها، فسأل عن جاره، فقالوا: إنه في السجن، فسأل عن السبب، فقالوا: سجنه الوالي لأمر ما، فذهب إلى الوالي، وشفع عنده بأن يطلق هذا الشخص، ولم يعلم الجار بالذي شفع له، فجاءه أمر الإطلاق من السجن، فذهب يسأل: لأي شيء أُطلقت؟ فقالوا: جاء جارك فلان، وشفع فيك، وعفا عنك الوالي، قال: جاري فلان؟! وتذكر إيذاءه له، وكيف قابل إساءته بالإحسان، فذهب يعتذر إليه، وعاهد الله ألا يؤذيه.
3- الجار أولى بالعفو:
يذكر الشيخ عبدالرحمن الإفريقي رحمه الله أنه كان يسكن في المدينة، وأولاده يلعبون مع أولاد الجيران، فتشاجر الأولاد بعضهم مع بعض، فجاء والد أحد الأولاد، وضرب ولد الشيخ، وذهب الأولاد واشتكوا، فأُخذ الرجل وحُبس، وفي الظهر علم الشيخ بذلك، فقال: أين الرجل؟ قالوا: محبوس، فذهب بنفسه إلى الشرطة، وقال: هذا ولدي، وأنا وليُّه، وليس لنا دعوى على أحد.
والذي يهمنا التأكيد على حقوق الجار، سواء كان أجنبيًّا، أو كان قريبًا مسلمًا، أو غير مسلم.
4- النصيحة للجار:
رأى ابن مسعود رجلاً يجري، فقال له: ما لك؟ قال: أستدعي الشرط - الشرطة - قال: لماذا؟ قال: لجاري، قال: ما به؟ قال: يشرب الخمر، قال: هل نصحته؟ قال: لا، قال: ارجع فانصحه أولاً بينك وبينه، فمن حق الجار النصيحة.
5- لا تؤذِ جارك في شاته:
ذكر البخاري في الأدب المفرد أن امرأة جاءت إلى عائشة رضي الله عنها، وقالت: إن إحدانا يطلبها زوجها فتمتنع - إما مريضة، وإما متعللة - فهل عليها من شيء؟ قالت: نعم، لو دعاها زوجها وهي على رأس جبل، لكان عليها أن تجيب، وأُحدِّثك أني كنت بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم في فراشه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صائمًا، وعندي قَدَح شعير، فطحنته، وصنعت قرصًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من عادته إذا خرج أن يقفل الباب معه، فخرج وترك الباب مفتوحًا، ودخلت داجنٌ لجارنا، ثم جاء صلى الله عليه وسلم إلى فراشه، وجئت جواره، فنهضَتِ الداجن إلى قرص الشعير، فنهضْتُ إليها، فقال: ((على رِسْلك يا عائشة، خذي ما أدركت من قرصك، ولا تؤذِي جارك في شاته)).
♦ ((وَمَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ، فَليُكرِمْ ضَيْفَهُ)):
الضيف هو النازل بك، كرجل مسافر نزل بك، فهذا ضيف يجب إكرامه بما يُعَدُّ إكرامًا.
الضيافة أو إكرام الضيف هي العلاقة بين الضيف والمستضيف، وهي دليل على قوة يقين المسلم، وهذه المعاني نقتبسها من تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم الذي حثنا على إكرام الضيف، والإكرام: الفضل التام.
مشكلة نقع فيها:
وهي عندما نسمع أن هناك ضيفًا قادمًا إلينا، نكلِّف أنفسنا ما لا نطيق، ونكثر الطعام، حتى أعلم أناسًا كرهوا قِرى الضيف؛ لضيق ذات اليد، والراتب لا يكفي، ودِيننا بسيط، ويحب البساطة في كل شيء، تكلَّف لضيفانك، ولكن بالمعقول الذي لا يرهقك، ولا يثقل كاهلك.
1- ضحك الله من صنيعكما:
جاء ضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى بيوت زوجاته أمهات المؤمنين رضوان الله تعالى عليهن أجمعين، يسأل عن قِرًى للضيف، وكل واحدة تعتذر بأنه ليس عندها عشاء، الله أكبر! زوجات رسول الله، وما عند واحدة منهن قِرًى للضيف! لا إله إلا الله! فيقول صلى الله عليه وسلم: ((مَن يستضيف ضيفي الليلة وله الجنة؟))، فقام أبو طلحة، وأخذ الضيف إلى بيته، وقال لزوجه: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ليس عندي ما أكرمه به، إنما يوجد عشاء عيالي، وهي معذورة، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((ابدأ بنفسك))، فقال: علِّليهم حتى يناموا، وإذا ناموا فأحضري العشاء، فأجلس أنا والضيف للأكل، وقومي أنتِ واعمِدي إلى السراج كأنك تصلحينه فأطفئيه، وأنا سأمد يدي مع الضيف؛ ليشعر أني أشاركه الأكل، وسأرفع يدي خالية من الطعام، وأوفر الطعام للضيف، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يستقبل الرجل، ويبتدئه بقوله: ((لقد ضحك ربنا من صنيعكما البارحة))!
ويؤخذ من الحديث:
1- وجوب إكرام الضيف بما يعد إكرامًا، وذلك بأن تتلقاه ببشر وسرور، وتقول: ادخُل حياك الله، وما أشبه ذلك من العبارات.
2- وظاهر الحديث أنه لا فرق بين الواحد والمائة؛ لأن كلمة (ضيف) مفرد مضاف، فيعم، فإذا نزل بك الضيف فأكرمه بقدر ما تستطيع.
3- من لم يكرم ضيفه فهو غير متبع لسنة محمد صلى الله عليه وسلم.
4- المضيف الحقيقي مَن يضيف مَن يعرف ومَن لا يعرف.
5- لا يحل للضيف أن يقيم أكثر من ثلاث؛ حتى لا يحرج المضيف.
2- للضيف جائزة:
عن أبي شُرَيحٍ خُويْلد بن عمرو رضي الله عنه قال: أبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعتْهُ أذناي حين تكلم به، قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفَهُ جائزتَهُ))، قالوا: وما جائزتُه؟ قال: ((يومٌ وليلةٌ، والضيافة ثلاثة أيام، وما كان بعد ذلك فهو صدَقةٌ عليه))؛ رواه البخاري ومسلم.
3- للزائر حقٌّ:
♦ قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: ((إن لزَوْرِك عليك حقًّا))؛ رواه البخاري ومسلم.
♦ ويُقرُّ النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا سلمان رضي الله عنه على قوله لأبي الدرداء: ((إن لضيفك عليك حقًّا))؛ رواه الترمذي.
4- قرى الضيفان كالجهاد:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم تبوك، فقال: ((ما من الناس مثل رجل آخِذ بعنان فرسه، فيجاهد في سبيل الله، ويجتنب شرور الناس، ومثل رجل في غنمه، يقري ضيفَهُ، ويؤدِّي حقَّهُ))؛ رواه أحمد في مسنده بإسناد صحيح.
أول من ضيَّف الضِّيفان الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم، كما ذكر في القرآن العظيم:
♦ قال تعالى: ﴿ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ﴾ [الذاريات: 26].
♦ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾ [هود: 69].
واجبات الضيافة:
♦ ومن تمام الضيافة أن تفرح بمقدم ضيفك، وتُظهِر له البِشر، وأن تلاطفَهُ بحسن الحديث، وتشكرَه على تفضله ومجيئه، وتقوم بخدمته، وتُظهر له الغِنى، وبشاشةَ الوجه.
♦ فقد قيل: البشاشة في الوجه خير من القِرى.
♦ وقال ابن حبان يرحمه الله: "ومن إكرام الضيف: طيبُ الكلام، وطلاقة الوجه، والخدمةُ بالنفس، فإنه لا يَذِلُّ من خدَم أضيافه، كما لا يعِزُّ من استخدمهم، أو طلب لِقرَاه أجرًا".
♦ وإكِرام الناس وسَادَتُهم يقضون هذا الحق، فيقبلون على ضيوفهم، ويرفعون من قدرهم، ويُعلون من منزلتهم، والعرب تجعل الحديث، والبسط والتأنيس، والتلقِّي بالبشر: من حقوق القِرَى، ومن تمام الإكرام.
♦ وقالوا: "من تمام الضيافة الطلاقة عند أوَّلِ وهْلَةٍ، وإطالةُ الحديث عند المأكلة".
الآداب التي يجب أن يراعيها المضيف مع ضيفه:
♦ تعجيل الطعام؛ لأن ذلك من إكرام الضيف، قال حاتم الأصم: "العجلة من الشيطان إلا في خمسة، فإنها من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إطعام الضيف، وتجهيز الميت، وتزويج البكر، وقضاء الدين، والتوبة من الذنب".
♦ إذا عزم على ضيفه بالطعام فاعتذر فأمسك عنه بمجرد الاعتذار - وكأنه تخلص من ورطة - كان ذلك علامة على بخله، وسوء تصرفه، بل لا يقول لضيفه: هل أقدم لك طعامًا؟ فإن ذلك علامة البخل أيضًا، بل عليه أن يقدم الطعام.
♦ وكما قال الثوري: إذا زارك أخوك فلا تقل له: أتأكل؟ أو أأقدم إليك؟ ولكن قدم، فإن أكل وإلا فارفع.
♦ ألا يبخل بمائدة، أو يواري بعض الأكل.
♦ حكي عن بعض البخلاء أنه استأذن عليه ضيف، وبين يديه خبز وزبدية فيها عسل نحل، فرفع الخبز، وأراد أن يرفع العسل، فدخل الضيف قبل أن يرفعه، فظن الرجل أن ضيفه لا يأكل العسل بلا خبز، فقال له: ترى أن تأكل عسلاً بلا خبز؟ قال: نعم، وجعل يلعق العسل لعقة بعد لعقة، فقال له هذا البخيل: مهلاً يا أخي، والله إنه يحرق القلب، قال: نعم، صدقت، ولكن قلبك!
♦ ومن الآداب التي يراعيها المضيف كذلك ألا يرفع المائدة قبل أن يأخذ الضيف كفايته من الطعام.
♦ وكذلك لا يشبع قبله، ثم ينصرف ويتركه؛ لأن ذلك يحرج الضيف، بل حتى لو كان شبعانَ وَجَب أن يشاركه، أو يوهمه بالمشاركة، ومحادثة الضيف بما تميل إليه نفسه.
♦ ولا ينام قبله.
♦ ولا يشكو الزمان بحضوره.
♦ كما لا يكلف نفسه فوق ما يطيق.
♦ وكذا من السنة تشييع الضيف إلى باب الدار.