من أروع ما يقرأه المرء : كتابات الأستاذين الفاضلين ( مصطفى لطفي المنفلوطي ، ومصطفى صادق الرافعي ) ، واللذان أنتجان للبشرية تراثاً خالداً مبدعاً ، يعالج به أمراض الأمة عبر عصورها ، وقد كان العالمان العظيمان في عصر انتشر فيه ثالوث الخطر الثلاثي (الفقر ، والجهل ، والمرض) هذا الثالوث الفتاّك القادر على تدمير أي أمة من الأمم وأي شعب من الشعوب ، عاصر هاذان العالمان الجليلان هذا العصر ، فلم يقفا متفرجين على ما يحدث من الأحداث ، وما تصاب به الأمة من أزمات ؛ ولكنهما تناولا بفكرهما المستنير ، وأصالاتهما الإسلامية الفريدة ، وقلمهما النوراني هذه الأحداث بالوصف والعلاج .
ومن هذه الأحداث التي تناولوها بالعلاج " نظام الحكم .. وصفاته " فمن خلال كتاباتهما في هذا المجال تكاد تعيش في جو من الأدب الفريد ، والبيان الساحر ، والألفاظ الفصيحة المعبرة القوية والتي تضرب بيد من الحديد على مواطن الضعف ، وتبدي بعين من الرحمة والشفقة مظاهر العلاج .
فنعيش مع أحدهما في هذه المقالة وهو الأستاذ الرافعي – رحمه الله !
كيف تناول الرافعي بقلمه البارع الحديث عن هذا النظام ؟
كتب الرافعي في كتابه " وحي القلم " في مقالة له بعنوان " أحلام في الشارع " وقال الرافعي على لسان أحمد أحد أبطال قصته ، وفي حوار مع أخته :
ومتى أحْكمت الصفات الإنسانية في الأمة كلها ودانَى بعضها بعضاً- صار قانون كل فرد كلمتين لا كلمة واحدة كما هو الآن . القانون الآن (حَقِّي) ، ونحن نريد أن يكون (حَقّي وواجبي)، وما أهلك الفقراء بالأغنياء ، ولا الأغنياء بالفقراء ، ولا المحكومين بالحكام – إلا قانون الكلمة الواحدة .
أنا أحمد المدير .. لستُ المدير بما في نفس أحمد ، ولا بمعدته وبطنه ، ولا بما يريد أحمد لنفسه وأولاده ... كلا ، أنا عمل اجتماعي منظم يحكم أعمال الناس بالعدل أنا خُلُقُ ثابتُ يوجِّه أخلاقَهم بالقوة ، أنا الحياةُ الأمُّ مع الحياة الأطفال الإخوة في هذا البيت الذي يسمى الوطن ، أنا الرحمة ، عندي الجنة ، ولكن عندي جهنم أيضاً ما دام في الناس من يعصي ، أنا بكل ذلك لست أحمد لكني الإصلاح .
هأنذا قد صرتُ مديراً أعسُّ (1) في الطريق بالليل وأتفقَّد الناسَ ونوائبَهم . من أرى ؟ هذا طفلٌ وأخته نائمان على عتبة البنك في حياة كأهدامهما (2) المرقعة في دنيا تمزقتْ عليهما ! قم يا بني ! لا تُرَعْ (3) ، إنما أنا كأبيك ، تقول : اسمك أحمد ، واسم أختك أمينة ؟
تقول : إنك ما نمتَ من الجوع ، ولكن مَضْمَضْتَ عينَك بشعاع النوم ؟ يا ولديَّ المسكينين . بأي ذنب من ذنوبكما دقَّتكما الأيام دقّاً وطحنتكما طحناً ؟ وبأي فضيلة من الفضائل يكون ابنُ فلان باشا ، وبنت فلان باشا في هذا العيش اللين يختاران منه ويتأنفان فيه ، ما الذي ضر الوطنَ منكما فتموتا ، وما الذي نفع الوطن منهما فيعيشا ؟
إن كنتَ يا بني لا تملك لنفسك الانتصار من هذه الظَّليمة ، فأنا أملكها لك ، وإنما أنا المظلوم إلى أن تنتصر ، وإنما أنا الضعيف إلى أن آخذ لك الحق (4) !
إليَّ يا ابن فلان باشا وبنتَ فلان باشا .
يا هذا ، عليك أخاك أحمد ولتكن به حفِيّاً ، ويا هذه ، عليكِ أختَك الآنسة أمينة ...
أتأبيان ، أنَفرَةً من الإنسانية ، وتمرُّداً على الفضيلة ؟ أحقاً بلا واجب ؟ دائماً قانون الكلمة الواحدة ! خُلقتما أبيضين سخرية من القدر وأنتما في النفس من أحْبُوشة الزَّنج ومناكيد العبيد !
هكذا عبر الرافعي عن ميزان الحكم ، وصفاته التي ينبغي أن يتحلى بها ، كذلك ما يجب أن يكون عليه الحاكم والرئيس من الرحمة والعدل والقوة ، وما يكون عليه المجتمع من سيادة الحقوق والواجبات جنباً إلى جنب ، فلا اعتبار في المجتمع بقانون الكلمة الواحدة (حقي) ولكن يجب أن تسود كلمة (واجبي) حتى تكتمل صفات المجتمع الصالح .
هكذا سار أدباء الإسلام انطلاقاً من تعاليمه الراشدة ، وأحكامه الفاضلة يرسون القواعد التي يقوم عليه صرح المجتمعات وقدوتهم في ذلك وإمامهم محمد- صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام .
ألا يتدبر في ذلك أصحاب العقول ، ويستيقظ لذلك أصحاب الرأي ، ويفهم العلمانيون والليبراليون أن مجتمعنا لابد أن يرفع فيه شعار الحق والواجب لا شعار النفعية والغاية تبرر الوسيلة وأنه لا مجال للدين في شئون الحياة !
انتبهوا يا سادة فإن الحق أبلج وواضح وصريح ، وإن ما تنادون به قد اثبت فشله عبر تطبيقه في حياة الناس .
الهوامش :
1-  أعسُّ : أسير في الليل .
2-  كأهدامهما : ملابسهما .
3-  لا ترع : لا تخف
4-   هذه إشارة إلى ماورد في خطبة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – حين قال : " القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه ، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له " .
 

حسام العيسوي إبراهيم


المراجع

odabasham

التصانيف

قصص  أدب