مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ، وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الْأَرَزَةِ
أ.د. عبد الرحمن البر
أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر وعضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين وعضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين
أخرج الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ^: «مَثَلُ المُؤْمِنِ كَمَثَلِ الخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ، مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ كَفَأَتْهَا، فَإِذَا اعْتَدَلَتْ تَكَفَّأُ بِالْبَلاَءِ، وَالفَاجِرُ كَالأَرْزَةِ، صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً، حَتَّى يَقْصِمَهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ».
وفي رواية عند مسلم: «وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الْأَرْزِ، لَا تَهْتَزُّ حَتَّى تَسْتَحْصِدَ».
وأخرج الشيخان عن كَعْبِ بن مالك  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ^: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ، تُفِيئُهَا الرِّيحُ، تَصْرَعُهَا مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى، حَتَّى تَهِيجَ، وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الْأَرْزَةِ الْمُجْذِيَةِ عَلَى أَصْلِهَا، لَا يُفِيئُهَا شَيْءٌ، حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً».
وفي رواية عند الشيخين: «وَمَثَلُ المُنَافِقِ كَالأَرْزَةِ، لاَ تَزَالُ حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً»
وأخرج أحمد والبزار بسند صحيح عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ^: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ السُّنْبُلَةِ، مَرَّةً تَسْتَقِيمُ، وَمَرَّةً تَمِيلُ، وَتَعْتَدِلُ، وَمَثَلُ الْكَافِرِ مَثَلُ الْأَرْزَةِ مُسْتَقِيمَةً لَا يَشْعُرُ بِهَا حَتَّى تَخِرَّ».
1- شرح الحديث والمثل:
(الْخَامَةُ): الْغَضَّةُ الرَّطْبَةُ اللَّيِّنَةُ، و(الرِّيحُ كَفَأَتْهَا) و(تُفَيِّئُهَا الرِّيَاحُ) أَيْ: تُمِيلُهَا يَمِينًا وَشِمَالًا، وَذَلِكَ أَنَّ الرِّيحَ إِذَا هَبَّتْ شَمَالًا مَالَتِ الْخَامَةُ إِلَى الْجَنُوبِ، وَإِذَا هَبَّتْ جَنُوبًا مالت إلى الشَّمَالِ، (وَتَعْدِلُهَا) أَيْ: تُقِيمُهَا، وَ(الْأَرَزَةُ) بفتح الراء وسكونها: الثَّابِتَةُ مِنَ الشَّجَر, وَهُوَ شَجَرٌ مَعْرُوفٌ بِالشَّامِ، وَهُوَ شَجَرٌ صُلْبٌ شَدِيدٌ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ، وتُسَمَّى بِالْعِرَاقِ الصَّنَوْبَرُ، وَالصَّنَوْبَرُ: ثَمَرُ الْأَرْزَةِ، و«حَتَّى تَهِيجَ»: أَيْ تَيْبَسَ وتَصْفَرَّ، وَ(الْمُجْذِيَةُ): الثَّابِتَةُ فِي الْأَرْضِ، وَ(الِانْجِعَافُ): الِانْقِلَاعُ والانْقِطَاعُ وَالِانْقِصَافُ، و(تَسْتَحْصِدَ): أي تنقلع مرة واحدة، كالزرع الذي انتهى يبسه.
خلق الله تبارك وتعالى هذه الحياة وجعلها دار امتحان لبني آدم ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك: 2]، وجعل لهذا الامتحان صورا وأشكالا متعددة، ما بين خير وشر ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء: 35]، وشاءت حكمة الله تعالى أن يجعل ابتلاء المؤمن وفتنته في الانتقاص من نفسه أو أهله أو ماله ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾ [البقرة: 155]، فيبتليه بمرض أو نقص في جسده، أو بفقد ولد أو حبيب أو عزيز، ويبتليه بالفقر والحاجة، ويبتليه بتسليط الظلمة عليه، ولكنه في كل ذلك متعلق بالله، مشدود إلى جنابه العظيم، لا تزيده تلك المحن إلا صلابة في دينه وقوة في عقيدته، بخلاف المنافق الذي يمهله الله ويستدرجه ويمد له في أسباب الصحة والثروة، ثم إذا ابتلاه بشيء من الشدة سقط في أول اختبار، وفي هذا الحديث يشبه النبي ^ حال المؤمن وحال المنافق في تفاعلهما وتأثر كل منهما بالمحنة والفتنة، فالمؤمن أشبه بالنبتة الغضة اللينة التي تميل مع الرياح لكنها لا تنقلع بل تزداد مع حركات الرياح تشبثا بالأرض وارتفاعا في السماء، أما المنافق فهو أشبه بالشجرة الصماء التي لا تتحرك مع الرياح، بل تنقى على حالها حتى تأتيها ريح تقتلعها من جذورها.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ في غريب الحديث: هَذَا فِيمَا نَرَى أَنَّهُ شَبَّهَ الْمُؤْمِنَ بِالْخَامَةِ الَّتِي تُمِيلُهَا الرِّيحُ لِأَنَّهُ مُرْزَأٌ فِي نَفْسِهِ، وَأَهْلِهِ، وَوَلَدِهِ، وَمَالِهِ، يَعْنِي يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَشَقَّةِ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَالْمَرَضِ وَغَيْرِهَا. وَالْكَافِرُ كَمَثَلِ الْأَرْزَةِ الَّتِي لَا تُمِيلُهَا الرِّيحُ، أَيْ لَا يُرْزَأُ شَيْئًا، وَإِنْ أُرْزِيَ لَمْ يُؤْجَرْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ، فَشَبَّهَ مَوْتَهُ بِانْجِعَافِ تِلْكَ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِذُنُوبِهِ. فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَالْفَاسِقُ يُقِلُّ لَهُمُ الْأَمْرَاضَ وَالْمَصَائِبَ لِئَلَّا يَحْصُلَ لَهُمْ كَفَارَّةٌ وَلَا ثَوَابٌ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَخْلُو مِنْ عِلَّةٍ أَوْ قِلَّةٍ أَوْ ذِلَّةٍ، كَمَا رُوِيَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ عَلَامَةِ السَّعَادَةِ بِشَرْطِ الصَّبْرِ وَالرِّضَا وَالشُّكْرِ»
ومن المعاني التي ذكرها العلماء لتشابه المؤمن بخامة الزرع في السهولة والليونة: سرعة التوبة من الذنب كلما وقع فيه، فكلما مال المؤمن عن الحق تذكر أمره فاسرع بالتوبة إلى ربه واستقام على الصراط المستقيم، قال تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201]، وقال تعالى في صفة المتقين المستحقين للجنة ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ. أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [آل عمران: 135، 136]، وأخرج البيهقي في (شعب الإيمان) عن جَرِيرٍ بْنِ عبد الحميد، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ الْحَسَنِ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، مَا تَقُولُ فِي الْعَبْدِ يُذْنِبُ الذَّنْبَ ثُمَّ يَتُوبُ؟، قَالَ: لَمْ يَزْدَدْ بِتَوْبَتِهِ مِنَ اللهِ إِلَّا دُنُوًّا، قَالَ: ثُمَّ عَادَ فِي ذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ؟، قَالَ: لَمْ يَزْدَدْ بِتَوْبَتِهِ إِلَّا شَرَفًا عِنْدَ اللهِ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ لِي: أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ^؟، قُلْتُ: وَمَا قَالَ؟، قَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ السُّنْبُلَةِ، تَمِيلُ أَحْيَانًا، وَتَسْتَقِيمُ أَحْيَانًا، وَفِي ذَلِكَ تَكْبُرُ، فَإِذَا حَصَدَهَا صَاحِبُهَا حَمِدَ أَمْرَهُ كَمَا حَمِدَ صَاحِبُ السُّنْبُلَةِ بِرَّهُ» ثُمَّ قَرَأَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقُوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201] الْآيَةَ.
لهذا كان المؤمن على توقع البلاء والرضا به دائما، حتى إن النبي ^ ليعتبر عدم حصول المرض للعبد علامة على عدم وثوق دينه، فأخرج أحمد بسند ضعيف عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّهُ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى النَّبِيِّ ^، فَقَالَ: «مَتَى عَهْدُكَ بِأُمِّ مِلْدَمٍ؟» وَهُوَ حَرٌّ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ، قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَوَجَعٌ مَا أَصَابَنِي قَطُّ! قَالَ رَسُولُ اللهِ ^: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ الْخَامَةِ تَحْمَرُّ مَرَّةً، وَتَصْفَرُّ أُخْرَى».رَوَاهُ أَحْمَدُ وَفِيهِ مَنْ لَمْ يُسَمَّ. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (2/ 293)
وأخرج أحمد وأبو يعلى بسند حسن عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ ^ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، ابْنَةٌ لِي كَذَا وَكَذَا - ذَكَرَتْ مِنْ حُسْنِهَا وَجَمَالِهَا - فَآثَرْتُكَ بِهَا، فَقَالَ: «قَدْ قَبِلْتُهَا». فَلَمْ تَزَلْ تَمْدَحُهَا، حَتَّى ذَكَرَتْ أَنَّهَا لَمْ تَصْدَعْ وَلَمْ تَشْتَكِ شَيْئًا قَطُّ، قَالَ: «لَا حَاجَةَ لِي فِي ابْنَتِكِ». رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (2/ 294)
وأخرج أحمد والبخاري في (الأدب المفرد) بسند حسن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى رَسُولِ اللهِ ^، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ^: «أَخَذَتْكَ أُمُّ مِلْدَمٍ قَطُّ؟» قَالَ: وَمَا أُمُّ مِلْدَمٍ؟ قَالَ: «حَرٌّ يَكُونُ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ»، قَالَ: مَا وَجَدْتُ هَذَا قَطُّ، قَالَ: «فَهَلْ أَخَذَكَ الصُّدَاعُ قَطُّ؟» قَالَ: وَمَا الصُّدَاعُ؟ قَالَ: «عُرُوقٌ تَضْرِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي رَأْسِهِ»، قَالَ: مَا وَجَدْتُ هَذَا قَطُّ، قَالَ: فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا».
وفي رواية عند أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: مَرَّ بِرَسُولِ اللهِ ^ أَعْرَابِيٌّ أَعْجَبَهُ صِحَّتُهُ وَجَلَدُهُ، قَالَ: فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ ^، فَقَالَ: «مَتَى حَسَسْتَ أُمَّ مِلْدَمٍ؟» قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ أُمُّ مِلْدَمٍ؟ قَالَ: «الْحُمَّى»، قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ الْحُمَّى؟ قَالَ: «سَخَنَةٌ تَكُونُ بَيْنَ الْجِلْدِ وَالْعِظَامِ»، قَالَ: مَا بِذَاكَ لِي عَهْدٌ، قَالَ: «فَمَتَى حَسَسْتَ بِالصُّدَاعِ؟» قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ الصُّدَاعُ؟ قَالَ: «ضَرَبَانٌ يَكُونُ فِي الصُّدْغَيْنِ، وَالرَّأْسِ»، قَالَ: مَا لِي بِذَاكَ عَهْدٌ، قَالَ: فَلَمَّا قَفَّى، أَوْ وَلَّى الْأَعْرَابِيُّ، قَالَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَيْهِ». رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (2/ 294)
2 - حقيقة الابتلاء وسره (الدنيا دار امتحان وابتلاء):
إن الله خلق الإنسان بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة وجعل له تمام التكريم فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 70]، ولا يعقل بعد كل هذا التكريم أن يسلط الله عليه ما فيه حرج ومشقة وشدة، خصوصا وأن المسلم يعلم يقينا أن الله أرحم بعباده من الأم بولدها، وإنما الابتلاء والشدائد لتمحيص الخلق ولإظهار حقيقة معادن الناس، قال سبحانه: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 179] وقال سبحانه عن قتال الكفار ومجالدة الظالمين : ﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ [محمد: 4]، بل جعل الله هذا الابتلاء سنة من سننه فقال سبحانه: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155]، والله يبتلي العباد بعضهم ببعض ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: 53].
وقد جعل الله الابتلاء مقدمة التمكين لأنبيائه وأوليائه، فما من رسول إلا ابتلاه الله تعالى بجماعة من المكذبين الضالين، فحاربوه وصدوا عن دعوته، فصبر وصابر حتى كتب الله له الغلبة عليهم بعد طول مغالبة ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأنعام: 34]، وقال تعالى ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ [إبراهيم: 13، 14] وقد فقه الإمام الشافعي هذه الحقيقة، فقد قال ابن القيّم رحمه الله في الفوائد: سأل رجل الشّافعيّ رحمه الله، فقال: يا أبا عبد الله، أيّهما أفضل للرّجل أن يمكّن (فيشكر الله عزّ وجلّ) أو يبتلى (بالشّرّ فيصبر) ؟ فقال الشّافعيّ: لا يمكّن حتّى يبتلى، فإنّ الله ابتلى نوحا وإبراهيم ومحمّدا، صلوات الله عليهم أجمعين، فلمّا صبروا مكّنهم، فلا يظنّ أحد أن يخلص من الألم البتّة.
3 - المؤمن وموقفه من الابتلاء:
المؤمن يرى أن الدنيا بأسرها دار فتنة وابتلاء، وهو يتقلب فيها ما بين ابتلاء بشيء من الخير أو بشيء من الشر، وهو في كل ذلك صابر على الشر لا ييأس من روح الله، شاكر على الخير لا يصيبه الكبر ولا البطر، ولهذا فهو لا يخلو من أجر في كل الأحوال، أخرج مسلم عَنْ صُهَيْبٍ  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ^: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»، وأخرج أحمد بسند حسن عن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ^: «عَجِبْتُ لِلمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ حَمِدَ اللهَ وَشَكَرَ، وَإِنِ أصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ حَمِدَ اللهَ وَصَبَرَ، فَالْمُؤْمِنُ يُؤْجَرُ فِي كُلِّ أَمْرِهِ، حَتَّى يُؤْجَرَ فِي اللُّقْمَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِهِ».
فوائد الابتلاء بالنسبة للمؤمن:
1 – الابتلاء قرب من الله تعالى: إذا كان الإنسان يتصور أن إمداد الله إياه بالنعم هو كرامة له، وأن تتابع الشدائد عليه هو إهانة من الله له؛ فإن الله تعالى يصحح هذا المفهوم الخاطئ، ويبين أن كل ذلك ابتلاء وتمحيص ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ. كَلَّا﴾ [الفجر: 15 - 17] بل النظر السليم يعد الابتلاء محبة من الله لعبده وليس بغضاً له؛ أخرج الترمذي وابن ماجه بسند صحيح عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ  قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا، اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ، ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ، حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، مَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ»، وأخرج أحمد بسند صحيح عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ  أَنَّ رَسُولَ اللهِ ^ قَالَ: «إِذَا أَحَبَّ اللهُ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ صَبَرَ فَلَهُ الصَّبْرُ، وَمَنْ جَزِعَ فَلَهُ الْجَزَعُ»، وأخرج البخاري عن أبي هُرَيْرَةَt قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ^: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ»، قال البيهقي في شعب الإيمان: وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ مَنْ أَرَادَ اللهُ بِهِ خَيْرًا ابْتَلَاهُ بِالْمَصَائِبِ لِيُثِيبَهُ عَلَيْهَا.
2 - الابتلاء فرصة لتكفير الخطايا ومغفرةالذنوب، فقد أخرج البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ ^ فِي مَرَضِهِ، وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، وَقُلْتُ: إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، قُلْتُ: إِنَّ ذَاكَ بِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟ قَالَ: «أَجَلْ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى إِلَّا حَاتَّ اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ، كَمَا تَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ». وأخرج أحمد بسند والبخاري في الأدب المفرد وصححه الحاكم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ  قَالَ: وَضَعَ رَجُلٌ يَدَهُ عَلَى النَّبِيِّ ^ فَقَالَ: وَاللهِ مَا أُطِيقُ أَنْ أَضَعَ يَدِي عَلَيْكَ مِنْ شِدَّةِ حُمَّاكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ ^: «إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ يُضَاعَفُ لَنَا الْبَلَاءُ، كَمَا يُضَاعَفُ لَنَا الْأَجْرُ، إِنْ كَانَ النَّبِيُّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يُبْتَلَى بِالْقُمَّلِ حَتَّى يَقْتُلَهُ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ، حَتَّى يَأْخُذَ الْعَبَاءَةَ، فَيَجُونَهَا (أي يقطعها ليلبسها في عنقه)، وَإِنْ كَانُوا لَيَفْرَحُونَ بِالْبَلَاءِ، كَمَا تَفْرَحُونَ بِالرَّخَاءِ»، وفي بعض رواياته : «وَلَأَحَدُهُمْ كَانَ أَشَدَّ فَرَحًا بِالْبَلَاءِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِالْعَطَاءِ»، وفي رواية لابن ماجه: «وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلَاءِ، كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ».
فأي بلاء يصيب المؤمن فهو كفارة لذنوبه، فقد أخرج البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  عَنِ النَّبِيِّ ^ قَالَ: «مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ».
وأخرج البخاري عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجِ النَّبِيِّ ^، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ^: «مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ المُسْلِمَ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا»، وأخرج مسلم عَنِ الْأَسْوَدِ، قَالَ: دَخَلَ شَبَابٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ بِمِنًى، وَهُمْ يَضْحَكُونَ، فَقَالَتْ: مَا يُضْحِكُكُمْ؟ قَالُوا: فُلَانٌ خَرَّ عَلَى طُنُبِ فُسْطَاطٍ، فَكَادَتْ عُنُقُهُ، أَوْ عَيْنُهُ أَنْ تَذْهَبَ، فَقَالَتْ: لَا تَضْحَكُوا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ^، قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً، فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا كُتِبَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ».
3 – الابتلاء رفعة للدرجات: فالمؤمن يرضى بما أصابه؛ لأن في ذلك رفعة لدرجاته، كما أخرج أبو داود عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ السَّلَمِيّ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ - وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ^ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ^ يَقُولُ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ، لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ، أَوْ فِي مَالِهِ، أَوْ فِي وَلَدِهِ، ثُمَّ صَبَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يُبْلِغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى». فتح الباري لابن حجر (10/ 109) : وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَنَّ خَالِدًا لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ وَأَبُوهُ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ لَكِنْ إِبْهَامُ الصَّحَابِيِّ لَا يَضُرُّ.
أخرج أبو نعيم في حلية الأولياء عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: «إِنَّ اللهَ لَيُجَرِّعُ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْمَرَارَةِ لِمَا يُرِيدُ بِهِ مِنْ صَلَاحِ عَاقِبَةِ أَمْرِهِ» قَالَ بَكْرٌ: «أَمَا رَأَيْتُمُ الْمَرْأَةَ تُؤْجِرُ وَلَدَهَا الصَّبِرَ(الدواء المر) - أَوْ قَالَ: الْحُضَضَ (نوع من الدواء مر) - تُرِيدُ بِهِ عَافِيَتَهُ؟»
والمؤمن كذلك بصبره على البلاء يتبوأ أعلى المقامات قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10] وقال ايضا: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 155 - 157]
4 – الابتلاء تطهير للعبد وتقوية لمعاني الإيمان في قلبه: فقد أخرج البزار والبيهقي وصححه الحاكم عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ^: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ حِينَ يُصِيبُهُ الْوَعْكُ أَوِ الْحُمَّى، مَثَلُ حَدِيدَةٍ تَدْخُلُ النَّارَ فَيَذْهَبُ خَبِيثُهَا وَيَبْقَى طَيِّبُهَا»، وأخرج مسلم عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ  أَنَّ رَسُولَ اللهِ ^ دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ أَوْ أُمِّ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ: «مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ أَوْ يَا أُمَّ الْمُسَيِّبِ تُزَفْزِفِينَ؟» (أي ترتعدين بشدة) قَالَتْ: الْحُمَّى، لَا بَارَكَ اللهُ فِيهَا، فَقَالَ: «لَا تَسُبِّي الْحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ»، وصحَّح ابن حبان عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ ^ قَالَ: «إِذَا اشْتَكَى الْمُؤْمِنُ أَخْلَصَهُ ذَلِكَ كَمَا يُخْلِصُ الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ». وقد قيل: البلاء للولاء كاللهب للذهب، أي أن الابتلاء يوجب إقبال العبد على ربه ومولاه ويستلزم دعاءه واستغاثته ربه، كما قال تعالى ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَريض﴾ (فصلت: 51(، وربما كان الابتلاء سببا في حماية العبد من الطغيان واتباع الشهوات، كما قال تعالى ﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرّ لَلَجُّوا في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ (المؤمنون: 75) فأخبر أنّ في ترك الرحمة لهم لطفاً ورحمة.
5 - الصبر على الابتلاء سبب لاستحقاق الجنة: فقد أخرج الشيخان عن عَطَاء بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: هَذِهِ المَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أَتَتِ النَّبِيَّ ^ فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي، قَالَ: «إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ» فَقَالَتْ: أَصْبِرُ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لاَ أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا. زاد البخاري عن عَطَاء: «أَنَّهُ رَأَى أُمَّ زُفَرَ تِلْكَ امْرَأَةً طَوِيلَةً سَوْدَاءَ، عَلَى سِتْرِ الكَعْبَةِ»، وأخرج البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ  قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ^ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ، عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الجَنَّةَ» يُرِيدُ: عَيْنَيْهِ.
6 – يجري على المبتلى أجر عمله الصالح قبل الابتلاء: فقد أخرج أبو داود بسند حسن وصححه ابن حبان والحاكم عَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري  قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ^ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَلَا مَرَّتَيْنِ يَقُولُ: «إِذَا كَانَ الْعَبْدُ يَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا، فَشَغَلَهُ عَنْهُ مَرَضٌ، أَوْ سَفَرٌ، كُتِبَ لَهُ كَصَالِحِ مَا كَانَ يَعْمَلُ، وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ».
4 - نماذج متنوعة من البلاء وتعامل المؤمنين معه:
من الأنبياء: أيوب عليه السلام: وهو الذي يضرب به المثل في الصبر، وقد حكى النبي ^ جانبا من ابتلاء أيوب عليه السلام، فيما أخرجه أبو يعلى وصححه ابن حبان والحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ  أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ^ قَالَ: «إِنَّ أَيُّوبَ نَبِيَّ اللَّهِ كَانَ فِي بَلَائِهِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، إِلَّا رَجُلَانِ مِنْ إِخْوَانِهِ كَانَا مِنْ أَخَصَّ إِخْوَانِهِ كَانَا يَغْدُوَانِ إِلَيْهِ وَيَرُوحَانِ إِلَيْهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَتَعْلَمُ، وَاللَّهِ لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَذْنَبَهُ أَحَدٌ، قَالَ صَاحِبُهُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: مُنْذُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ اللَّهُ فَيَكْشِفُ عَنْهُ، فَلَمَّا رَاحًا إِلَيْهِ لَمْ يَصْبِرِ الرَّجُلُ حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ أَيُّوبُ: لَا أَدْرِي مَا يَقُولُ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ عَلَى الرِّجْلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فَيَذْكُرَانِ اللَّهَ فَأَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي فَأُكَفِّرُ عَنْهُمَا كَرَاهِيَةَ أَنْ يُذْكَرَ اللَّهُ إِلَّا فِي حَقٍّ.
قَالَ: وَكَانَ يَخْرُجُ إِلَى حَاجَتِهِ فَإِذَا قَضَى حَاجَتَهُ أَمْسَكَتِ امْرَأَتُهُ بِيَدِهِ حَتَّى يَبْلُغَ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَبْطَأَ عَلَيْهَا وَأُوحِيَ إِلَى أَيُّوبَ فِي مَكَانِهِ أَنِ ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ، هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ [ص: 42] فَاسْتَبْطَأَتْهُ فَلَقِيَتْهُ يَنْتَظِرُ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهَا قَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ مَا بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ، وَهُوَ عَلَى أَحْسَنِ مَا كَانَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: أَيْ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، هَلْ رَأَيْتَ نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا الْمُبْتَلَى؟ وَوَاللَّهِ عَلَى ذَلِكَ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشْبَهَ بِهِ مِنْكَ إِذْ كَانَ صَحِيحًا، قَالَ: فَإِنِّي أَنَا هُوَ، وَكَانَ لَهُ أَنْدَرَانِ، أَنْدَرٌ لِلْقَمْحَ وَأَنْدَرٌ لِلشَّعِيرِ، فَبَعَثَ اللَّهُ سَحَابَتَيْنِ، فَلَمَّا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى أَنْدَرِ الْقَمْحِ أَفْرَغَتْ فِيهِ الذَّهَبَ حَتَّى فَاضَ، وَأَفْرَغَتِ الْأُخْرَى عَلَى أَنْدَرِ الشَّعِيرِ الْوَرِقَ حَتَّى فَاضَ».
من الصحابة: عمر بن الخطاب : ضرب فاروق الأمة عمر بن الخطاب  مثلا مختلفا في الصبر على الابتلاء، حين ابتلي بمن أساء إليه في مجلس الحكم، وكاد يقع في الاستفزاز لولا أن ذكره أحد جلسائه بالتوجيه الشرعي في كظم الغيظ، فبادر إلى كظم غيظه، فقد روى البخاري عن ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ القُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ، كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا» ، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخِي، هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ، فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ، قَالَ: سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «فَاسْتَأْذَنَ الحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ» ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: هِيْ يَا ابْنَ الخَطَّابِ، فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الجَزْلَ وَلاَ تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الحُرُّ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ ^ ﴿خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199] ، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ، «وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ».
فهو قد تأثر بالبلاء في أول الأمر وانفعل به كبشر، ولكن سرعان مارجع إلى سابق حالته عندما ذكر بالقرآن وكان وقافا عند كتاب الله.
وهكذا كان موقفه يوم البلاء العظيم يوم وفاة النبي ^، فقد روى البخاري عن أَبي سَلَمَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجَ النَّبِيِّ ^ أَخْبَرَتْهُ، قَالَتْ: أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ  عَلَى فَرَسِهِ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ حَتَّى نَزَلَ، فَدَخَلَ المَسْجِدَ، فَلَمْ يُكَلِّمِ النَّاسَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَتَيَمَّمَ النَّبِيَّ ^ وَهُوَ مُسَجًّى بِبُرْدِ حِبَرَةٍ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ، فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ بَكَى، فَقَالَ: «بِأَبِي أَنْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لاَ يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ، أَمَّا المَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا». قال أَبُو سَلَمَةَ: فَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَ، وَعُمَرُ  يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَقَالَ: «اجْلِسْ» ، فَأَبَى، فَقَالَ: «اجْلِسْ» ، فَأَبَى، فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ ، فَمَالَ إِلَيْهِ النَّاسُ، وَتَرَكُوا عُمَرَ، فَقَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا ^، فَإِنَّ مُحَمَّدًا ^ قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ، فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ إِلَى ﴿الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 144]، وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ ، فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ، فَمَا يُسْمَعُ بَشَرٌ إِلَّا يَتْلُوهَا.
كعب بن مالك نموذج متميز: ربما وقع البلاء من الأعداء في محاولة خبيثة لتفريق كلمة الأمة والنيل من وحدتها والعمل على عدم استقرارها، فلا يلتفت المسلم الصادق إلى تلك الدعوات، ولا يستجيب إلى تلك النعرات، كما فعل سيدنا كعب بن مالك عندما أرسل إليه ملك غسان إبان مقاطعة المسلمين له خمسين يوما بأمر رسول الله ^، قال سيدنا كعب عن نفسه في قصة توبته في صحيح البخاري: فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ المَدِينَةِ، إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أَنْبَاطِ أَهْلِ الشَّأْمِ، مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ، يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ، فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ، وَلاَ مَضْيَعَةٍ، فَالحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ، فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا: وَهَذَا أَيْضًا مِنَ البَلاَءِ، فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ بِهَا.
وهي قصة نهديها إلى كثير من أبناء أمتنا ممن يقفون على أبواب السفارات الأجنبية طالبين الدعم المادي فيما يسمونه تدعيم الديمقراطية في مصر، ويسوء الغيورين على هذا الوطن ما تردده السفيرة الأمريكية وممثلو الاتحاد الأوربي من إنفاق عشرات الملايين من الدولارات واليوروهات على ما أسمته منظمات المجتمع المدني لدعم الديمقراطية في مصر، ورصدها لمئات الملايين لهذا الغرض، وما ألمحت إليه من أن مئات المنظمات قد تقدمت بطلبات لتلقي هذا الدعم المشبوه، الذي لا يمكن إلا أن يكون على حساب استقلال القرار الوطني. وكذلك نهدي قصة كعب بن مالك إلى كثيرين من أبناء أمتنا الذين قد يتعرضون لبعض التضييق في بلادهم، فيمدون أيديهم إلى عدوهم، ولا يتحرجون في الاستعانة بهذا العدو والارتهان لقراره وإرادته.
إن هذا لا يعني إغلاق الباب أمام التعاون مع كل الأحرار من الأفراد والهيئات والدول في العالم لنصرة القيم الإنسانية والمبادئ السامية، لكننا نلفت النظر إلى وجوب الحذر والوعي، وإقامة هذه العلاقات على أساس من الندية والتكافؤ والاحترام المتبادل وعدم التدخل في شؤون الأمة، والرفض التام لأي مساس باستقلال القرار الوطني، وعدم القبول بدخول أية أموال أجنبية لأفراد أوهيئات بغير علم الدولة أو خارج نظامها المالي.
5 - حال المنافق مع نزول البلاء:
المنافق رجل قلبه معلق بالدنيا وزينتها، فما أن يصاب في بدنه أوماله أو ولده إلا ويجزع ويتسخط على قدر الله، فهو لا يطمئن إلى أجر عند الله بصبره على بلائه، ولا ينسى البلاء اليسير بجوارنعم الله الغزيرة عليه، ولا يفكر في أن يصبر لينال أجر الصابرين، بل يسقط من أول الأمر، وربما نطق بكلام ينم عن خبث الطوية وفساد السريرة، قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ. يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ. يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ﴾ [الحج: 11 - 13]
قال القرطبي: وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ فِي أَعْرَابٍ كَانُوا يَقْدَمُونَ عَلَى النَّبِيِّ ^ فَيُسْلِمُونَ، فَإِنْ نَالُوا رَخَاءً أَقَامُوا، وَإِنْ نَالَتْهُمْ شِدَّةٌ ارْتَدُّوا.
وأخرج البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ y، قَالَ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ [الحج: 11] قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ المَدِينَةَ، فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلاَمًا، وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ، قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ، وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ وَلَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ، قَالَ: هَذَا دِينُ سُوءٍ».
وأخرج الشيخان عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ ^ عَلَى الإِسْلاَمِ، فَأَصَابَ الأَعْرَابِيَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ، فَأَتَى الأَعْرَابِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ^، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ ^، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، فَخَرَجَ الأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ^: «إِنَّمَا المَدِينَةُ كَالكِيرِ، تَنْفِي خَبَثَهَا، وَيَنْصَعُ (أي يصفو ويخلص) طِيبُهَا».
وفي لفظ أبي يعلى الموصلي عَنْ جَابِرٍ  قَالَ: قَدِمَ رَجُلٌ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا، قَالَ: فَحُمَّ حُمَّى شَدِيدَةً، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ ^، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِلْنِي الْهِجْرَةَ. فَقَالَ: «لَا وَاللَّهِ لَا أُقِيلُكَ، إِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُقَالُ» وَذَكَرَ أَنَّهُ غَيرُ مَرَّةٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى عَلَيْهِ. فَخَرَجَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَأُخْبِرَ بِهِ النَّبِيُّ ^ فَقَالَ: «إِنَّهَا طَيْبَةُ تَنْفِي خَبَثَ الرِّجَالِ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ».
قال ابن بطال: «فإن قيل: فإن المنافقين قد سكنوا المدينة وماتُوا فيها ولم تنفهم؟ قيل: إن المنافقين كانت دارهم ولم يسكنوها اغتباطًا بالإسلام ولا حبًا له، وإنما سكنوها لما فيها من أصل معاشهم، ولم يُرد عليه السلام بضرب المثل إلا من عقد الإسلام راغبًا فيه ثم خبث قلبه، ولم يصح عندك أن أحدًا ممن لم تكن له المدينة دارًا فارتد عن الإسلام ثم اختار السكنى فيها، بل كلهم فَرَّ إلى الكفر راجعًا، فبمثل أولئك ضرب رسول الله ^ المثل. وقال المهلب: كان المنافقون الساكنون بالمدينة قد ميزهم الله كأنهم بارزون عنها؛ لما وسمهم به من قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِى الصَّدَقَاتِ﴾ [التوبة: 79] ، و﴿الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِىَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ﴾ [التوبة: 61] وبقوله: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمد: 30] فكانوا معروفين معينين، وأبقاهم ^ لئلا يقول الناس: إن محمدًا يقتل أصحابه أو ينفيهم، والنفى كالقتل. ومما يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ [النساء: 88] فَبَيَّنَ منكرًا عليهم اختلافَهم فى قتلهم، فعرفهم الله أنه أركسهم بنفاقهم، فلا يكون لهم صنع ولا جمع، ولا يسمع لهم قول، مع أنه قد ختم الله أنهم لا يجاورونه فيها إلا قليلا، فنفتهم المدينة بعده عليه السلام لخوفهم القتل، قال الله تعالى: ﴿مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً﴾ [الأحزاب: 61] فلم يأمنوا فخرجوا، فصح إخبار الرسول ^ إنها تنفى خبثها، لكن ليس ذلك ضربة واحدة، لكن الشىء بعد الشىء حتى يخلص أهلها الطيبين الناصعين وقت الحاجة إليهم فى العلم؛ لأنهم فى حياته عليه السلام مستغنى عنهم، فلما احتيج إليهم بعده فى العلم حفظتهم بركة المدينة فنفت خبثها».
وربما نزل البلاء بالمنافق فاستعجل الموت وأيس من رحمة الله، كالرجل الذي ذكر سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ  قصته في الصحيحين: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ^، التَقَى هُوَ وَالمُشْرِكُونَ، فَاقْتَتَلُوا، فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللَّهِ ^ إِلَى عَسْكَرِهِ، وَمَالَ الآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ^ رَجُلٌ، لاَ يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلاَ فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ، فَقَالَ: مَا أَجْزَأَ مِنَّا اليَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلاَنٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ^: «أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: أَنَا صَاحِبُهُ، قَالَ: فَخَرَجَ مَعَهُ كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ، قَالَ: فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ المَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأَرْضِ، وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ^، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: «وَمَا ذَاكَ؟» قَالَ: الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: أَنَا لَكُمْ بِهِ، فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ، ثُمَّ جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ المَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ فِي الأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ^ عِنْدَ ذَلِكَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ».
ومن صور عدم التماسك أمام عاصفة البلاء والتشاؤم عند شدة الأمر مانراه حاليا من بعض الناس الذين لا يعرفون سنن التغيير والتمكين فيستبطئون رخاء الحياة وبسطة العيش لدرجة أن يقول بعضهم: إن الأمور من قبل الثورة في مصر كانت أفضل ولعل أيام النظام البائد كانت أحسن.
6 – مسارعة المؤمن إلى التوبة:
ما أحوجنا أن نرجع إلى الله، وأن نتوب إليه، وأن نلقي بهمومنا بين يديه، فلا والله ما طابت الدنيا إلا بذكره، ولا طابت الآخرة إلا بقربه، على ألا تكون توبة بالألسنة فحسب، وإنما توبة نصوح، على ما ذكر الله عز وجل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ (التحريم: 8)
إن طبيعة الإنسان الوقوع في الخطأ، فقد أخرج مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ^: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ»، ، لكن المؤمن لا يكاد يخطئ حتى يفيق ويستبصر ويراجع نفسه ويقبل على ربه ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران/135]، وقد أخرج الترمذي وابن ماجه بسند عَنْ أَنَسٍ  أَنَّ النَّبِيَّ ^ قَالَ: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ».
وحين يقبل العبد على ربه تائبا يتلقاه ربه تبارك وتعالى بغاية الفرح به والإقبال عليه، ويصور النبي ^ ذلك فيما أخرجه مسلم عن ابن مسعود  قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ^ يَقُولُ: «لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ (أي أرض مقفرة) مَهْلِكَةٍ، مَعَهُ رَاحِلَتُهُ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ، فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ، ثُمَّ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِيَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ، فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَاللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ».
وهكذا يبقى المؤمن في حال تذكر دائم ورجوع دائم إلى الله، لا ييأس من رحمته، أخرج البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ  قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ^ قَالَ: «إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا - وَرُبَّمَا قَالَ أَذْنَبَ ذَنْبًا - فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ - وَرُبَّمَا قَالَ: أَصَبْتُ - فَاغْفِرْ لِي، فَقَالَ رَبُّهُ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؛ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا، أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ - أَوْ أَصَبْتُ - آخَرَ، فَاغْفِرْهُ؛ فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا، وَرُبَّمَا قَالَ: أَصَابَ ذَنْبًا، قَالَ: قَالَ: رَبِّ أَصَبْتُ - أَوْ قَالَ أَذْنَبْتُ - آخَرَ، فَاغْفِرْهُ لِي، فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثَلاَثًا، فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ».
وقد ضمن الله تعالى قبول توبة المؤمن الذي يرجع من قريب، ويندم على ما وقع فيه من الذنوب، فقال سبحانه ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾ (النساء: 17)
وبداية التوبة انكسار بين يدي العزيز الجبار، ناشئ بإحساس العبد بالذنب وثقله، وخوفه من ربه، فيندم على ما بدر منه، ويسرع إلى الإقلاع عنه، واستبدال الحسنات بالسيئات، ثم النشاط في الخير والطاعات ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود: 114].
أما المنافق أو الفاجر فإنه لا يزال سادرا في غيه، لا يفيق من غفلته، حتى يأتيه أمر الله فيحاول التوبة بعد أن يفوت ميعادها، كما حصل مع فرعون الذي أعلن إيمانه وهو يصارع الغرق، فلم يقبل منه ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾ [يونس: 90 - 92].
وقد أكد الله تبارك وتعالى أن توبة أولئك السادرين في غيهم حتى يأتيهم الموت ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [النساء: 18].
ودعونا نختم هذا الحديث بهذه القصة التي تبين عاقبة الصدق في التوبة إلى الله، والتي رواها ابو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء عن التابعي الجليل بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُزَنِيِّ قال: «إِنَّ قَصَّابًا (أي جزارا) أُولِعَ بِجَارِيَةٍ لِبَعْضِ جِيرَانِهِ، فَأَرْسَلَهَا مَوْلَاهَا إِلَى حَاجَةٍ لَهُمْ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَتَبِعَهَا فَرَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَقَالَتْ: لَا تَفْعَلْ، لَأَنَا أَشَدُّ حُبًّا لَكَ مِنْكَ، وَلَكِنِّي أَخَافُ اللهَ، قَالَ: فَأَنْتِ تَخَافِينَهُ وَأَنَا لَا أَخَافُهُ! فَرَجَعَ تَائِبًا، فَأَصَابَهُ الْعَطَشُ حَتَّى كَادَ يَنْقَطِعُ عُنُقُهُ، فَإِذَا هُوَ بِرَسُولٍ لِبَعْضِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: الْعَطَشُ. قَالَ: تَعَالَ حَتَّى نَدْعُوَ حَتَّى تُظِلَّنَا سَحَابَةٌ حَتَّى نَدْخُلَ الْقَرْيَةَ، قَالَ: مَا لِيَ مِنْ عَمِلٍ فَأَدْعُوَ. قَالَ: فَأَنَا أَدْعُو، وَأَمِّنْ أَنْتَ. قَالَ: فَدَعَا الرَّسُولُ وَأَمَّنَ هُوَ، فَأَظَلَّتْهُمَا سَحَابَةٌ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الْقَرْيَةِ، فَأَخَذَ الْقَصَّابُ إِلَى مَكَانِهِ، وَمَالَتِ السَّحَابَةُ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ: زَعَمْتَ أَنْ لَيْسَ لَكَ عَمَلٌ، وَأَنَا الَّذِي دَعَوْتُ وَأَنْتَ الَّذِي أَمَّنْتَ، فَأَظَلَّتْنَا سَحَابَةٌ ثُمَّ تَبِعَتْكَ، لَتُخْبِرَنِّي بِأَمْرِكَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ: إِنَّ التَّائِبَ مِنَ اللهِ بِمَكَانٍ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بِمَكَانِهِ».

المراجع

pulpit.alwatanvoice.com

التصانيف

قصص  أدب