من نفحات الله تعالى لعباده وتجليات رحماته بهم أنه تعالى يتابع لهم مواسم الخيرات بعضها تلو بعض فاتحا لهم أبواب الرحمة والمغفرة، داعيا إياهم أن يغتنموها، قال تعالى: "وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ" آل عمران:133، كما رُويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: : "إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبداً"[1].. ومن هذه النفحات المتعاقبة المتوالية على عباد الله تعالى بالرحمة مادة أيادي المغفرة وداعية لنا بالمسارعة بالخيرات والعمل الصالح، العشر الأوائل من ذي الحجة فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر . قالوا ولا الجهاد في سبيل الله !! قال : ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء "[2]
وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد "[3] .
في مثل هذه المواسم الإيمانية العظيمة يكثر الحديث عن استباق الخيرات والتنافس في الطاعات والاجتهاد في العبادات وكله حديث مبارك بإذن الله .. غير انه يجب الالتفات إلى عبادة قد نغفل عنها في هذه المناسبات ألا وهي عبادة التوبة والإنابة والمراجعة..
فالله تعالى يأمرنا مباشرة بالتوبة كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }التحريم8، وقوله تعالى: { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }النور31.. ولعدم استغناء البشر أيا كان صلاحهم وقربهم من الله تعالى عن التوبة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة وأخرجه البخاري: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة"[4] ،
والله تعالى في أمره بالمسارعة والمسابقة إلى الخير صدّر ذلك بالمسارعة إلى التوبة وطلب المغفرة فيقول تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }الحديد21.. والتوبة التي نقصدها هنا ليست مجرد استغفار باللسان لا يخالط القلب أو لا ينطلق من مراجعة النفس، فالتوبة لا تكتمل أركانها إلا بالاعتراف بالذنب والندم عليه والعزم على عدم العودة إلى الذنب، وإذا كان الذنب في حق العباد( الناس ) فعلى التائب أن يرد لهؤلاء الناس حقوقهم..
التوبة إذن عبادة وقربى لله تعالى كما أنها عملية مراجعة ومحاسبة للنفس تمكن التائب من تقديم كشف حساب عن أعماله خلال فترة زمنية سابقة لموسم الخير..
فالتوبة مضمونها وجوهرها ممارسة عملية اعتراف وتقويم ومراجعة وتطوير أو تغيير.. بدون هذه العملية المركبة لا يمكن تعديل السلوك البشري.. ولا يمكن تصور التقدم في العلاقة مع الله تعالى ومن ثم التقدم في العلاقة مع الناس والمجتمع دون أن يسبق ذلك عملية التوبة المركبة هذه.. كتاجر أو رجل أعمال فقد مصداقيته في السوق نتيجة العديد من الممارسات العملية الخاطئة وقد زادت عليه الديون وكثرت في حقه الشكاوى وتلوثت سمعته العملية، ثم أقبل موسم استثمار جيد، فهل نتصور أن هذا التاجر يمكنه أن يستغل هذا الموسم ويربح فيه دون أن يتصالح أولا مع خصومه ويجدول ديونه ويجدد ثقة العملاء فيه عن طريق مواجهة الأخطاء وتصحيح الممارسات السابقة؟
كذلك العبد في رحلته الإيمانية مع الله تعالى لابد له أن يستهل مواسم الخيرات بإجراء عملية التوبة بمستوياتها المختلفة ( الاعتراف- الندم- العزم – الإصلاح – التبيان ) مصداقا لقوله تعالى : {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }البقرة160 ..
عملية مراجعة النفس وتقويم الذات والإصلاح والتبيان ( عبادة التوبة ) هي في ذاتها عملية تربية تهدف إلى تطوير النفس وتغييرها إل الأفضل والأقرب لله تعالى والأكثر خيرية ونفعا للمجتمع والأمة، وتستهدف الإصلاح العام وتحقق وفقا لذلك منظومة العبادة الإيجابية.. فمواسم الخيرات تتعاقب على ذواتنا وأمتنا مرات عديدة وربما شحذنا خلالها من هممنا وطاقاتنا في ممارسة العديد من العبادات الروحية والجسدية من صيام وصلوات وذكر وصدقة – مما هو مطلوب لذاته وجميل في مجمله – دون أن يكون لهذه العبادات الأثر المنشود في إصلاح النفس أو الرقي بالمجتمع والأمة.. وكأننا عندما نقيم الصلاة نغفل عن قوله تعالى {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ }العنكبوت45 ، أوعندما نمارس ذكر الله نتناسى قوله تعالى : {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ }الرعد28، أو نصوم فلا نتذكر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }البقرة18، فالغاية دائما من العبادة تحقيق التقوى التي هي تهذيب للنفس وإصلاح للمجتمع.. كما في الحديث " رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ"[5]، أو كما قال: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه".. العبادة في الإسلام هي منظومة إصلاحية، ومناسبات الخير وأيام البركة التي منها العشر من ذي الحجة هي بمثابة دورات تدريبية مكثفة من اجل تطوير الذات..
في ضوء ذلك نحتاج أن نمارس أنواع جديدة من العبادات الغائبة أو المنسية أو المسكوت عنها في أيام الخير هذه، كما نسارع إلى الصوم وصلاة النافلة والإكثار من ذكر الله وقراءة القرآن وترديد الاستغفار والتكبير المطلق.. نحتاج معها كذلك أن نمارس عبادات الحب والمصالحة والاعتذار والبر والصلة.. فهذه عبادات لا شك فيها كون بعضها داخلا في مفهوم التوبة، والبعض الآخر عبادة في ذاته كالحب في الله وصلة الأرحام وبر الوالدين.. نحن في حاجة في هذه الأيام المباركة أن نُشعر ذواتنا وأهلنا أننا نحبهم في ذات الله بالكلمة الطيبة التي هي صدقة، والبسمة في الوجه التي هي صدقة، واللقمة في فم الزوجة التي هي صدقة، وتعزيز شعور الابن والابنة بالثقة في الذات الذي هو إحسان، وبر الوالدين وزيارة في الله وصلة قريب وعيادة مريض ومسح على رأس يتيم .. وإفشاء سلام، وإهداء هدية.. أليست كل هذه عبادات تحتاج في أيام عشرنا هذه إلى إحياء؟
أليست هذه عبادات إيجابية تنطلق من روح سامية وتصنع حولها جوا من التسامح والرضا يؤدي إلى الإصلاح المنشود؟
فلتكن هذه وصيتنا في أول أيام العشر من ذي الحجة أن نجتهد في العبادة وعلى رأسها عبادة التوبة وإحياء العبادات الاجتماعية الغائبة.. ولأبدأ بنفسي بعبادة الحب فأعترف لقراء هذه السطور بأني أحبكم في الله وكل عام وأنتم جميعا بخير وعلى خير وإلى خير..
[1] - رواه الطبراني في الكبير عن محمد بن مسلمة برقم: 2398والحديث حكم عليه السيوطي بالضعف ، وكذلك الشيخ الألباني في ضعيف الجامع الصغير وزيادته برقم : 1917 وكذلك في الضعيفة برقم 3189 .وهو في الحث على اغتنام الأيام الفاضلة والساعات المباركة ، وهو وإن كان ضعيفاً ، إلا أن أدلة الشرع متوافرة على ذلك من الحث على استباق الخيرات وتحين الفرص، كالدعاء يوم عرفة، وليلة القدر، وفي الثلث الأخير من الليل، وساعة يوم الجمعة، والدعاء حال السفر وفي مواضع السجود. كل هذا يدل على معنى ما دل عليه الحديث ، لكن في الصحيح غنية عن الضعيف .
[2] - أخرجه البخاري
[3] - أخرجه احمد 7/224 وصحّح إسناده أحمد شاكر
[4] - وعن الأعز بن يسار المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( يا أيها الناس، توبوا إلي الله واستغفروه ، فإني أتوب في اليوم مائة مرة))(58) ( رواه مسلم).
[5] - أخرجه ابن ماجه (1/539 ، رقم 1690)
المراجع
alukah.net
التصانيف
قصص أدب