تخوف الأنصار من بقاء الرسول بمكة :
حين فتح النبي صلى الله عليه وسلم حين مكة ودخلها ، قام على الصفا يدعو الله ، وقد أحدقت به الأنصار ، فقالوا فيما بينهم : أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها ؟
فلما فرغ من دعائه قال : ماذا قلتم ؟ قالوا : لا شيء يا رسول الله ؛ فلما يزل بهم حتى أخبروه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : معاذ الله ! المحيا محياكم ، والممات مماتكم .
كسر الأصنام :
حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح على راحلته ، فطاف عليها وحول البيت أصنام مشدودة بالرصاص ، جعل النبي صلى الله عيه وسلم يشير بقضيب في يده إلى الأصنام ويقول : ( جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ) فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه ، ولا أشار إلى قفاه ، إلا وقع لوجهه ، حتى ما بقي منها صنم إلا وقع ؛ فقال تميم بن أسد الخزاعي في ذلك :
وفي الأصنام معتبر وعلم * لمن يرجوا الثواب أو العقابا
إسلام فَضالة :
وأراد فضالة بن عمير بن الملوح الليثي قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح ؛ فلما دنا منه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفضالة ؟ قال : نعم فضالة يا رسول الله ؛ قال : ماذا كنت تحدث به نفسك ؟
قال : لا شيء ، كنت أذكر الله ؛ قال : فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : استغفر الله ، ثم وضع يده على صدره ، فسكن قلبه ؛ فكان فضالة يقول : والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحبُّ إلي منه .
قال فضالة : فرجعت إلى أهلي ، فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها ، فقالت : هلم إلي الحديث ، فقلت : لا ، وانبعث فضالة يقول :
قالت هلم إلى الحديث فقلت لا * يأبى عليك الله والإسلام
لوما رأيت محمداً وقبيله * بالفتح يوم تكسر الأصنام
لرأيت دين الله أضحى بينا * والشرك يغشى وجهه الإظلام
الأمان لصفوان بن أمية :
خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى اليمن ، فقال عمير بن وهب : يا نبي الله إن صفوان ابن أمية سيد قومه ، وقد خرج هارباً منك ، ليقذف نفسه في البحر، فأمِّنْه ، صلى الله عليك ؛ قال : هو آمن ؛ قال : يا رسول الله ، فأعطني آية يعرف بها أمانك .
فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمامته التي دخل فيها مكة ، فخرج بها عمير حتى أدركه ، وهو يريد أن يركب في البحر ، فقال : يا صفوان ، فداك أبي وأمي ، الله الله في نفسك أن تهلكها ، فهذا أمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جئتك به ؛ قال : ويحك ! أغرب عني فلا تكلمني .
قال : أي صفوان ، فداك أبي وأمي ، أفضل الناس ، وأبر الناس ، وأحلم الناس ، وخير الناس ، ابن عمك ، عزه عزك ، وشرفه شرفك ، وملكه ملكك ، قال : إني أخافه على نفسي ، قال : هو أحلم من ذاك وأكرم . فرجع معه حتى وقف به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال صفوان : إن هذا يزعم أنك قد أمّنتنى ، قال : صدق ؛ قال : فاجعلني فيه بالخيار شهرين ؛ قال : أنت بالخيار فيه أربعة أشهر .
الأمان لعكرمة :
كانت أم حكيم بنت الحارث بن هشام عند عكرمة، وكانت فاختة بنت الوليد عند صفوان بن أمية ، فأسلمتا ؛ فأما أم حكيم فاستأمنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لعكرمة ، فأمّنه ، فلحقت به باليمن ، فجاءت به .
إضاءة:
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غادر مكة مستخفياً : (والله إنك لاحبّ أرض الله إلى الله وأحب أرض الله إليّ ، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجتُ) ،ثم يعود إليها فاتحاً منتصراً ، وهو الآن سيد مكة المطاع وحاكمها المبجّل يقف في الصفا متجهاً إلى الكعبة بعد أن طاف بها ويدعو الله سبحانه وتعالى أن يتمّ نعمته عليه ، حوله المسلمون من المهاجرين والأنصارالذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود إلى وطنه ومسقط رأسه عزيزاً مكرماً قد خضعت له الأعناق وذلت له جباه المشركين . يقول الأنصار فيما بينهم : أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها ؟ قالوا هذا وقلوبهم معلقة بنبيهم لا يتصورون أن يعودوا إلى المدينة دونه ،وقد سعدت به صلى الله عليه وسلم قلوبهم وأحبوه أكثر من أنفسهم وأهليهم ، إن المدينة دون رسول الله صلى الله عليه وسلم صحراء قاحلة وفيفاة مقفرة . خطرت هذه الخاطرة بقلوبهم فغُمّت ونطقت بها ألسنتُهم فيبست حلوقُهم ، ما يتصورون أن يعودوا إلى المدينة دونه صلى الله عليه وسلم .
ويلحظ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منهم ، ويستمر في دعائه وتبتّله فإذا ما انتهى التفت إليهم يسألهم: ما ذا قلتم؟ فيستحيون أن يخبروه ويستأخرون عن الجواب . فهل يتركهم لهواجسهم ومخاوفهم وهو الكريم الفضيل يعلم أحاسيسهم ومشاعرهم نحوه ويبادلهم هذا الشعور وهذه الأحاسيس ؟! لم يزل بهم يسألهم حتى ذكروا له ما ندّ عن قلوبهم وصدورهم من إشفاق أن يبقى في مكة فيفقدوا صحبته ، فيقول لهم بلسان الحب والعرفان مُرَطباً خواطرهم ومهدّئاً نفوسهم " معاذ الله ! المحيا محياكم ، والممات مماتكم" ..وتبقى المدينة عَلَماً عظيماً من أعلام الإسلام ونوراً ساطعاً ، ومهوى قلوب المسلمين ،إنها مدينة الحبيب المصطفى وعاصمته ومستقره حياً وميتاً صلوات الله عليه وسلامه .. وتهدأ نفوس الأنصار الكرام رضوان الله تعالى عليهم جميعاً .
ويكسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنام مكة لتعود طاهرة من الشرك كما كانت حين بناها أبواه إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام . حين يجيء الحقُّ قوياً عزيزاً بالدعوة الصحيحة المضيئة والجهاد الماضي تتكسرُ أصنام الطغاة وتشرق شمس الحرية من جديد ويحيا البشر في أمن وأمان ، لا يلتقي المتضادان أبداً حين يستعيد الناس حُريتهم وعزتهم وكرامتهم.وينتفي الظلم حين يجِدُّ الناس بطلب حقوقهم والذود عنها بكل ما ملكت أيمانهم.
لا شك أن الباطل مهما علا فله جولة ، سَرعان ما يسقط حين يقف له الحق وأهله بعزم وإيمان يجاهدون بما استطاعوا من قوة ومن جهد صادق ، ولا بد من قولة الحق " وقل جاء الحق" فإذا جاء الحق وأهلُه ذاب الباطل وأزلامُه ، فزهق وذهب واضمحلّ ، إذِ الباطلُ بناءٌ لا أساس له ولا ركائزَ حقيقية ، يُخيف ضعافَ النفوس بهيلمانه المصطنع ثم يتهاوى فجأة كأنْ لم يكنْ .
وما أعظم المربي الناجح يرى فضالة بن عمير الليثي مُقدماً على اغتياله وهو يطوف بالبيت ومعه خنجره ، يدنو منه يتحين الفرصة المناسبة ، فيقتربُ منه النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً : أأنت فضالة؟ وهو عليه الصلاة والسلام يعلم أنه فضالة ، لكنها المفاجأة التي تُربك الشاب ، فيتلعثم في إجابته : نعم أنا فضالة يا رسول الله ،
ويذكر كلمة ( رسول الله) يستر بها ما يحوك في صدره من ضغينة وإصرار خبيث كشفه الله تعالى لنبيه الذي عصمه أن يناله أذى. فيقرِّرُه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ماذا كنت تحدث به نفسك ، إنه يكشف خبيئته ويخبره أنه مطّلع على ما همّ بأن يفعله. فينكر الشاب هذه التهمة ويدّعي أنه ماجاء هذا المكان الطاهر إلا للطواف وذكر الله ، لكنّ نظرات عينيه وارتباكَه يكشف ما نواه ، والرسول صلى الله عليه وسلم سيد الدعاة يريد لهذا الفتى أن يكون من شباب الإسلام الداعين إليه المنافحين عنه ، فإن استطاع ذلك فهو أفضل من العقاب . إنّ العقاب يزيد الإحن ويورث الضعائن ،والعفوَ وحسنَ التصرف يفتح باب الإيمان مشرعاً ،
لهذا نسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول له : " استغفِرِ الله " والاستغفار يفتح باب التوبة ويقرب المرء إلى الله تعالى ، فإذا ما سمع من الفتى استغفاراً – ولو كان استغفارَ اللسان والخوف - مد الحبيب يده الشريفة إلى صدره ينتزع منه الكره والحقد والبغضاء ويزرع الإيمان والحب والصفاء . .. يا ألله ! ماذا فعلت يد الحبيب بقلب الفتى الشاب حتى سكن وهدأ ، ثم نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرة الحب والإكبار والشوق ؟
ماذ فعل بقلبه حتى سرى الرَوح والرَّيحان في أعطافه فإذا هو غير الفتى الذي كان قبل قليل؟! لقد انقلب فتىً مسلماً مؤمناً يحب الله ورسوله يعيش الإيمان والطهر والعفاف . يقول فضالة : والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحبُّ إلي منه . كان يتوقع منه أشد العقوبة وقد علم مخبره فإذا به يتلطف له ويدعو له بالإيمان والخير ، فلِمَ لا يكون أحبَّ خلق الله إليه ؟!
ليت الدعاة يعلمون هذا ويفعلونه! طلّق الفتى الخنا والفجور وكلَّ ما كان يفعله في جاهليته ، وهكذا المسلم ينتقل بإسلامه وإيمانه إلى ما يرضي الله تعالى ويخلص في ذلك .. ونقرأ ما قال للمرأة التي كان يغشاها قبل إسلامه فنرى الالتزام والشرف والتقوى تغمره.
بعضه يكبر في نفسه أن يستسلم للحق وقد دافعه السنين الطوال ، ويأبى أن يكون تابعاً وقد كان سيداً متبوعاً .أمثالُ هؤلاء يتصرفون في مثل هذه المواقف برعونة وطيش قد يؤذيهم ويكون عليهم وبالاً ، ولن يشعروا بعاقبة رعونتهم إلا بعد فوات الأوان . يهرب صفوان ابن امية خوفاً من العقاب الذي قد يكون القتل .. وهنا يأتي دور الصديق المحب الذي يُلطّف الموقف ويشفع لصاحبه والصديق وقت الضيق . ولئن أخطأ صديقك إنّك صمامُ الأمان له المعينُ له في كربته. وهذا ما فعله عمير بن وهب مع صفوان إذ شفع له عند النبي صلى الله عليه وسلم وهذا ما فعلته أم حكيم بنتُ الحارث بزوجها عكرمة بن أبي جهل إذ شفعت له عند الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
صفوان بن امية وعكرمة بن ابي جهل كانا من أعدى أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعداء الإسلام والمسلمين ، لكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عليماً بمعادن الرجال وأقدارهم – وهذا ما ينبغي أن يكون عليه الداعية – يكسب بكسبهم من يأتي بعدهم ويأتمر بامرهم . ألم يقل المعلم الأول صلوات الله وسلامه عليه " خياركم في الجاهلية ، خياركم في الإسلام إذا فقهوا " وعكرمة رضي الله عنه شهيد اليرموك الذي ابلى فيها بلاء حسناً . وصفون كان من سادات المسلمين كما كان من سادات الجاهلية. أمّنه النبي أربعة أشهر، واستعار منه أدرعاً وسلاحاً ومالاً. حضر حنيناً مشركاً، ثم أسلم ودخل الإيمان قلبه.
المراجع
odabasham.net
التصانيف
قصص أدب مجتمع