أن يظل المسلم مشتاقاً إلى المدينة المنورة هو الفطرة السوية لدى كل مسلم مست قلبه جمرة الإيمان، وسكنت قلبه طيوف حسان من هذه المدينة الطاهرة، الملأى بالبهجة والأنس، العامرة بالذكريات الوضاء، الفاتحة ذراعيها دائماً لاستقبال زائرها بكل الحب والجود والصدق.
هذه المدينة السخية السنية الودود هي مقر أول دولة قامت للإسلام في العالم وما الدول الأخرى التي تلتها إلا امتداد لها.
فيها المسجد النبوي الشريف، مثابة النور والهدى، وواحة العلم والمعرفة، ومنطلق الفتوح المظفرة التي خرجت منها لتنشر أنوار الإسلام في العالمين.
وفيها القبر الشريف الطاهر، على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، أكرم بشر كان ويكون، والنبي الخاتم الأمين، الذي كان آخر من تنزلت عليه كلمة السماء فبلغها أحسن بلاغ وأداها أحسن أداء. وبالقرب منه قبرا الصاحبين العظيمين الصديق والفاروق اللذين قدما أروع نموذج ممكن للكمال الإنساني، وسيبقيان المنارة الهادية لأجيال المسلمين حتى يوم الدين.
وهناك البقيع حيث يرقد آل بيت النبوة والصحابة الكرام وعدد لا يحصيه إلا الله من الصالحين والزاهدين والعلماء والمجاهدين دفنوا في ثراه الطاهر، وهناك جبل أحد بكل ما يثيره في الذهن من معاني الفداء والبطولة التي شهدها خلال المعركة التي عرفت باسمه، وهناك موقعة الأحزاب أو الخندق التي كانت إيذاناً بانتهاء عهد تغزو فيه قوى الكفر دولة الإسلام الوليدة، وابتداء عهد آخر تقوم فيه هذه الدولة الوليدة المباركة بغزو الكفر وتطهير الجزيرة العربية من رجسه، وتضع القواعد المباركة لحضارة الإسلام الهادية البانية التي عطرت معاقلها ومناراتها وعواصمها وحواضرها ومساجدها في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة ودلهي وإستامبول الدنيا كلها، وهناك مسجد قباء أول مسجد أسس في الإسلام يربض في مدخل المدينة المنورة من جهتها الجنوبية وسط غابة خضراء من النخيل تضفي على جلاله وجماله جلالاً وجمالاً.
ظلت هذه الطيوف والخواطر والدواعي تسكن أعماقي كما تسكن أعماق كل المسلمين، وظللت لا أستجيب لها لكسل أو تسويف أو شواغل، حتى إذا كان موسم الحج عام 1418هـ - 1998م استيقظت فأججت فيّ نار الشوق إلى طيبة الطيبة، خاصة أني تذكرت الهبة السخية التي تنتظر من استطاع أن يصلي في المسجد النبوي الشريف أربعين صلاة لا تفوته صلاة وهي براءة من النار وبراءة من النفاق ونجاة من العذاب[1].
وصلت إلى المدينة المنورة وقد غادرها الحجاج إلى مكة المكرمة فكانت فرصة ثمينة أن أستمتع بحرمها الشريف دون أن أزاحم أحداً أو يزاحمني أحد، وهو ما أعانني على العبادة والتلاوة والدعاء والخلوة والمكث في الروضة الشريفة طويلاً وزيارة القبر الشريف في هدوء ووقار يليقان بساكنه عليه أفضل الصلاة والسلام، ووقع في قلبي خاطر كريم هو الدعاء أن يتقبل الله تعالى من الحجاج حجهم وأن يهب لي ثواب حج مثلهم إذ كنت في شوق إلى الحج، لكنني استمعت إلى النصيحة الطيبة المنصفة التي تدعو من حج من قبل أن يترك الفرصة لسواه ممن لم يحج فيوسع على نفسه ويوسع على سواه وأن يتصدق بنفقة حجه فيما لو حج، فإن فعل فله أجر التوسعة على المسلمين وله أجر ما تصدق به، ثم إن كرم الله تعالى لا حد له فعسى أن يفوز بثواب حجة مبرورة.
يسّر الله عز وجل لي غرفة طيبة في فندق قريب من الحرم الشريف فسررت بها كثيراً ووضعت فيها متاعي القليل وأخذت أرتب نفسي بحيث أفوز بالصلوات الأربعين دون انقطاع. رتبت أمور الطعام والشراب بحيث أحافظ على وضوئي فأذهب إلى الحرم الشريف وأنا هادئ مطمئن، فقللت مما أطعم وقللت مما أشرب وجعلت لذلك مواعيد منضبطة، ورتبت مواعيد النوم واليقظة بالاعتماد على إدارة الفندق في تنبيهي قبل الأذان بوقت كاف وبالاعتماد على منبه كنت أضعه بجواري، وحرصت على ألا أبتعد عن الحرم لزيارة المشاهد أو قباء أو الأصدقاء إلا في الضحى أو بعد صلاة العشاء حيث في الوقت سعة، ثم إني توجهت إلى الله عز وجل بقلب منكسر أن يعينني على الظفر بالصلوات الأربعين بعد أن أخذت بالأسباب.
وبدأت في الصلوات، وشيئاً فشيئاً كان العدد يزداد، وكان يقترن مع هذه الزيادة شعوران متلازمان: شعور بالفرحة وشعور بالقلق.
أما الفرحة فللزيادة المطردة وأما القلق فمرده إلى الخوف من إضاعة إحدى الصلوات وهو ما يعني انقطاع التسلسل وضرورة البدء بالعد من جديد. ولا أزال أذكر كيف كنت أستيقظ في الليل أحياناً عدة مرات متوهماً أن الوقت أزف وأن إدارة الفندق نسيت أن توقظني وأن المنبه قد خذلني. ولكن عون الله عز وجل ظل يمدني بالقوة حتى ظفرت بالصلوات الأربعين، ولعله من الطربف أن أذكر أنني خلال أدائي للصلاة الأخيرة، وكانت صلاة عصر ظل فيّ شعورا الفرحة والقلق معاً حتى إذا سلم الإمام وسلمت معه ذهب القلق واتسعت الفرحة فوجدتني أسجد لله عز وجل سجدة شكر بكل كياني على وافر فضله وكريم هباته، ولقد كان لهذه السجدة من السرور والرضوان واليقين والسكينة ما جعلها حالة متفردة لا تكاد تنسى.
حين عزمت على مغادرة المدينة المنورة في اليوم التالي للفوز بالصلوات الأربعين ذهبت إلى الحرم الشريف مودعاً، فصليت فيه ركعتين تحية له، ثم ذهبت إلى القبر الشريف فزرته وزرت قبر الصاحبين، ثم انتحيت مكاناً هادئاً في الحرم فدعوت الله عز وجل أن يتقبل مني ما فعلت وأن ييسر لي العود ثم العود بكرمه وفضله ووقع في قلبي أنني قد ظفرت بالقبول.
خرجت من الحرم الشريف سعيداً نشيطاً، فلفحت وجهي نسمات حارة ما لبث أن أعقبها تيار من الهواء يسوق الغيم بأمر ربه، وإذا بهذا الغيم يرسل مطراً خفيفاً يلطف الجو ويغسل الطريق ويبلل الملابس وينعش النفس. ولقد زاد هذا المطر من سعادتي حيث وجدت فيه أمارة على الظفر بالقبول فالمطر رحمة والزمان شريف والمكان شريف والحال طيبة، عندها وجدت قلبي يهتف وهو عامر باليقين: إنها بشرى القبول، إنها بشرى القبول.
لقد خرجت من هذه الصلوات الأربعين بفوائد كثيرة. تعلمت منها أن كثيراً مما يشغلنا إنما هو صوارف سلبية أو ضارة وأن بوسعنا أن نعيش بالأقل عيشة أفضل.
وتعلمت منها فرحة السيطرة على الذات، فنحن في هذه الحياة أسرى الحقائق وأسرى الأوهام، وربما أسرتنا الأوهام أكثر من الحقائق، والنفس المتشهية الجموح تقود صاحبها، فطوبى لمن ملك زمام نفسه وقادها.
وتعلمت منها فائدة الخلوة النافعة، التي ينقطع فيها الإنسان لذاته فيحاورها وجهاً لوجه ويحاسبها ويأمرها وينهاها، وينفي عنها صدأ الكسل وإلف العادة، ويجدد فيها التوبة، ويوقد فيها العزيمة، ويعيد ترتيب الأولويات إضافة وحذفاً وتعديلاً، في الأفكار والاهتمامات والأشياء والناس.
وتعلمت منها أن للمتع المعنوية لذة أبقى، فالطعام اللذيذ ينسى، والشراب اللذيذ يفنى، والسياحة الجميلة تذوي، والثوب الأنيق يبلى، والمركب الفاره يشيخ، والبيت الرائع يتآكل، لكن مثل هذه المتعة الغالية تبقى، يحن إليها الإنسان، ويتمنى لو عاد إليها وإلى أمثالها مرة بعد مرة.
وبعد:
فعليك السلام أيتها المنوَّرة المنوِّرة، وأعادني الله عز وجل إليك في أربعينات أخرى، وهيأ لي مثل ذلك في الحرم المكي الشريف وفي المسجد الأقصى بعد تحريره الذي لابد أن يأتي بإذن الله، وتقبل مني نيتي وعملي، وصحح مني سري وعلني، وأكرمني بحسن الخاتمة.
                  
[1] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى في مسجدي هذا أربعين صلاة لا تفوته صلاة، كتبت له براءة من النار ونجاة من العذاب وبرئ من النفاق"؛ رواه الإمام أحمد في مسنده.
 

المراجع

alukah.net

التصانيف

قصص  أدب  مجتمع