منح اللهُ سبحانه وتعالى الإنسانَ الصورة الجميلة المشرقة، بأسباب الكمال، وجعل لها أُفُقًـا يغمره البِشر والخير، ولكن الإنسان هو مَن أطفأ وَهَجَ هذا الإشراق، وهو مَن أبدلَ ذاك الأفق الوضيء بالأكدار والأوزار والبغي، فأفلت لنفسه العنان في ظلم الآخرين، وجعل من إنسانيته التي دنَّسها بالكفر والضلال سيف حقد يحزُّ بها عُنُقَ الأمن والطمأنينة والحرية التي هي من حقِّ كل إنسان .

 

هذا الإنسان المنحرف الشاذ مكَّن للآخرين أن ينتقموا وأن يثأروا، في حين ظنَّ هو أنه الذئب الذي لايقوى عليه أحد، ونسي لغبائه أنه مكَّن مرة أخرى لمقولة (الذئب ما كان ليكون ذئباً لو لم تكن الخرافُ خرافاً ) . ولم يعد في البشرية ــ بعد اليوم ــ مَن يرضى أن يكون خروفا في عالم الذئاب . والسبب هو هذا الإنسان المنحرف الشاذ الذي لم يعد يملك النيَّة الصَّافية التي تدفعه إلى مكارم الأخلاق، وفضائل الأعمال التي تؤكدُ على تماسك المجتمعات، وتؤكد على تأصيل قيم التآخي بين أبناء البشر . هذا الإنسان نأى عن أوامر الخالق جلَّ وعلا، فأوقد نيران الفتن في حياة الناس حيث الإثم والعدوان والبغي بغير الحق، وخالف مخالفة صريحة قول الله : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )، وفقد هذا الإنسان شرعيته إن كان يسوس قطرا أو أمة، فهو مأمور في هذه الحالة أن يُدخل السرور على الناس، لا أن يجعلهم يقاسون من الخوف والجوع ، والنَّبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( أيما أهل عرصة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله ) رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والحاكم . ومن الأجمل رغم كل الكآبات والأرزاء أن نجدد هنا القول في رحمة الإسلام للخلق ، ورعايته لشرائح الناس ، وحرصه على تأمين العيش الرغيد لهم ، يقول الله تعالى : ( فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ، فَكُّ رَقَبَةٍ ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ) 11 /17 / الآيات من سورة البلد . ومن الأجمل والأسمى أن يعلم أعداء الإسلام من أبناء جلدتنا، ومن أبناء الأمم الأخرى أن عالمية الرحمة والإخاء والتعارف والتآلف هي من أسس الدين الحنيف، فخصائصه الكريمة وتوجيهاته الأثيرة، وأصوله الرصينة الباقية، والخطاب القرآني الجليل، وهَدْي نبيِّه صلى الله عليه وسلم ... كلها تدعو الخَلقَ إلى حقيقة واحده وهي توحيد الله وطاعته للفوز بالسعادة الدنيوية والأُخروية .

 

ولعل مايقوم به الضَّالون المفسدون من حربٍٍ على الإسلام وأهله، ويريدون التسلط على الناس بالقوة الغاشمة، ويدَّعون أنهم أهل الإنقاذ والإصلاح، وهم والغون في الضَّلال والفساد والعدوان والظلم، باتباعهم أفكار وعقائد الكافرين، وهم كاذبون بلا ريب، ومثلهم كمثل ذاك المحامي الذي يظن نفسَه فذًّا بارعا من خلال إيتانه الحيل والتلاعب، والجميع يعرفونه أنه محتال، وأنه بلا ضمير. فهؤلاء الضَّالون المفسدون الذين ألبسهم ضلالُهم وفسادُهم أثوابَ الحقد والضَّغائن هم مَن صنعوا للناس المآسي والأحزان، ورموهم في هذه الغاشية من الأهوال والأحداث الجِسام، فأهلكوا الحرث والنسل وأمعنوا في الإفساد، والله لايحب الفساد، ونسوا أنهم لن يفلتوا من قبضة الجبَّار سبحانه ، وأنهم محاسبون في الدنيا وفي الآخرة على إجرامهم، يقول تعالى : ( أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهم غاشِيةٌ من عذابِ اللهِ ) ...
 
لايمكن للناس أن ينسوا أو أن يتناسوا ما حلَّ بهم، ولن يرضوا بالسلام مع هؤلاء المجرمين الذين أوقدوا نار الأحقاد، بين أبناء مجتمعهم، وهم الجبناء الذين لايستطيعون رفع أعينهم في وجوه أعداء الأمة، والغاشية آتية لاريب فيها لتأكلهم نارُها، ولسوف يصيبهم الخَوَرُ واليأسُ، وتتضعضع قُواهم وتنهار عنترياتُهم الجوفاء التي أرهبوا بها النساء والأطفال، إن فراعنة الظلم في هذا العصر رغم قِصَرِ قاماتهم الوضيعة، ورغم هوانهم على الله وعلى الناس ، ماأجرموا إلا عندما رأوا أن البيئة باتت تناسب سلوكهم الأحمق، وحين رأوا الناس قد استكانوا وركنوا، فأذاقوهم سوء العذاب ، يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب) رواه أحمد، وهانحن نرى ونسمع عن تعذيب الناس بالذبح والحرق والرمي من أعلى المنازل ، إضافة إلى سلب الأموال وهتك الأعراض ... وما إلى ذلك من الأهوال والفضائع التي لم يعلم تاريخ البشرية منذ القِدم مثلها أبدا.
 
ولكن يجب أن يعلم الخلق بأن الله سبحانه وتعالى لن يسامح الظَّلمة على ظلمهم وبغيهم، فالظلم حرَّمه جبَّار السماوات والأرض على نفسه، وجعله بين الناس محرَّمًـا، ففي الحديث القدسي : (ياعبادي إن حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا). وتوعَّد سبحانه وتعالى الظالمين بالعذاب والخزي في الدنيا والآخرة، قال تعالى : ( إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب عظيم)، ويقول عزَّ وجلَّ : (إنَّ الله يعَذِّب الذين يعذِّبون الناسَ في الدّنيا) رواه مسلم، فالظلم هو معجم القبائح ، حيث ينضوي تحت جحيمه البغيُ والعدوانُ والاستكبارُ واستباحةُ المحرماتِ وفقدانُ القيم الإنسانية عند الظالم ... وتبقى العقوبة الإلهية مسلطة على الظالمين مهما طال أمد ظلمهم ، وقد يعجِّل اللهُ بها، عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من ذنبٍ أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم) رواه أبو داود. وهيهات هيهات يفلت الظالمون من قبضة الدَّيَّان سبحانه : (فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ... )، وظلمهم انقلب عذابا ووبالا عليهم، وإلا فإن الله بعباده رؤوف رحيم : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون )،
 
وقد يصيب بعض الناس اليأسُ لشدَّة بطش الطغاة، ولطول أمد حكمهم وبغيهم، إذا لم تنزل العقوبة فيهم أو تأخرت لحكمة يعلمها الله، ولكن سُنَّة الله جارية في الكون ولا مناص عنها، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) قال : ثم قرأ: ( وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِىَ ظَـٰلِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ )، لأن الأدعية التي تنطلق من صدور المكلومين، ومن قلوب الذين قُتِل أولادهم أو آباؤُهم أو أمهاتهم أو ... أو ... لايردها الله، ولقد أرسل النبيُّ صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن وكان فيها نصارى فأوصاه قائلا : ( واتَّق دعوةَ المظلومِ، فإنه ليس بينها وبين الله حِجاب) . ويقول عليه الصلاة والسلام : ( ثلاثةٌ لا تردّ دعوتهم)، وذكَر صلى الله عليه وسلم : (ودَعوة المظلوم، يرفعها الله فوقَ الغَمامِ، ويَفتَح لها أَبوابَ السَّماء، ويَقولُ الرّبّ جلّ وعلا: وعِزّتي، لأنصُرَنَّك ولو بعدَ حين )، وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم : ( دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه).

 

إن مانشهده اليوم من جاهزية الظلم ومن فاعليته بشكل لم يسبق لها مثيل ليؤكد أن الفرج قريب، وأن مسارح الظلم على اتساعها، وتعدد أدوار جُناتها ومجرميها، وفداحة الخطوب التي تغشى الأمة من إهلاك للحرث والنسل، ومن تحدٍّ لله جلَّ وعلا، كانت وما زالت بيد الحيِّ القيوم، ونحن نعتقد بدون أدنى شك أن الغاشية الكبرى آتية في الدنيا قبل الآخرة، وأنَّ نهاية الطغاة الظالمين ... أفرادا كانوا أو أحزابا أو دولا، كائنة لاريب فيها، قال تعالى : ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ )، وظلمهم وبغيهم سيعود عليهم بالوبال والخسران : ( ولَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ )، فما من مهرب ولا من مناص لهم من العقوبة : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) ولسوف يندم أذناب الطغاة على معاونتهم لأسيادهم المجرمين، يوم لاينفع الندم : ( يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ )، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب الله عز وجل ) .
فالبشرى بقدسيتها تبقى تتلألأ في وجوه الصَّابرين المحتسبين، تشحن القلوب بالإيمان والعزيمة، وتدفع الشَّباب الوثَّاب إلى الانحياز الفاعل إلى إعادة العوامل المؤثرة في بناء الجيل الواعي الذي يرفض كل ماجاءت به النظم الأرضية الفاسدة، والتي أوصلت البلاد والعباد إلى هذه الحالة المزرية المحزنة، وإلى هذا التأخر المشين عن ركب التقدم الإنساني المتجدد، ولسوف يعمل الجيل الجديد على ترجمة هذا الإيمان وهذه العزيمة إلى أعمالٍ جليلةٍ وفضائلَ مستحسَنةٍ ، تشهد بنقاء قلوب الصالحين، وصفاء نفوس الأوفياء المخلصين. وستنتهي عهود الضياع والفساد والتأخر والانحطاط، وتبدأ مرحلة جديدة تتميز باعتناقها لمآثر الدعوة الإسلامية بمشيئة الله سبحانه وتعالى . أما بقايا الظالمين والطغاة المجرمين، فنذكرهم مرَّة أخرى بقول الله الذي أنزل الوحيَ على أنبيائه : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ) 55 / النور .
 

المراجع

odabasham.net

التصانيف

قصص  أدب  مجتمع   الآداب