(6)
يا ايها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ، وقولوا انظرنا ، واسمعوا ، وللكافرين عذاب أليم
نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم وذلك أن اليهود كانوا يجتهدون في إيذاء الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم فقالوا : كنا تسُبُّ محمداً سراً، فالآن نسبه جهراً لأنهم أرادوا بقولهم " راعنا" الرعونة ليّاً بألسنتهم وطعناً في الدين، ويُهيّأ لمن يسمعهم أنهم إنما يريدون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يراعيهم ويسمع لهم. وهؤلاء قال فيهم الله تعالى " من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليّاً بألسنتهم وطعناً في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ،ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا "
وهم الذين يقولون " السام عليكم " يوحون بالسلام ويقصدون الموت، فالسام الموت.فأمرنا أن نرد عليهم بـ " وعليكم" وإنما يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا – كما جاء في الحديث الشريف الذي روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وفي الآية نجد نهيَ المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا، وذيّلها بالعذاب الأليم لمن خالف. فمن تشبه بقوم فهو منهم، ومن جميل ما رواه ابن مسعود أن رجلاً قال له: إذا سمعت الله يقول " يا أيها الذين آمنوا" فأرعها سمعك ، فإنه خيرٌ يأمر به أو شرٌّ ينهى عنه.
وقال الحسن: " لا تقولوا راعنا" إنّ الراعن سخرية من قول محمد صلى الله عليه وسلم وما يدعوهم إليه من الإسلام. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين فيقول أرعنا سمعك فأعظم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقال ذلك له ،وكان رجل من يهود بني قينقاع يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيكلمه قائلاً : أرعني سمعك واسمع غير مسمع وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تفخَّم بهذا، فكان الناس يقلدونهم . فنبههم القرآن إلى حُسن مخاطبة النبي والتأدب في الحديث معه،
ولعلنا نذكر في سورة الحجرات وجوبَ توقير النبي صلى الله عليه وسلم في النداء الرائع " يا أيها الذين آمنوا، لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالُكم وأنتم لا تشعرون" ليحذروا المنزلق الذي قد يقعون فيه دون أن يشعروا فيهلكوا، وقد كاد الخيّرانِ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يهلكان حين ارتفعت أصواتهما أمام رسول الله في تأمير ركب من بني تميم ،فاختلفا فيمن يُؤمّر، فنزل النهي في رفع الصوت أمام القائد العظيم ، فكان الصديق بعد هذا يقول: والله لا أكلمك إلا كأخي السرار - أي الهمس – وكان الفاروق يخفض صوته حتى يكاد لا يُسمع، رضي الله عنهما، ما أرْوَعَهما وأعظَمهما.
وما أشد شفافية قيس بن الشماس – وكان جهير الصوت – حين سمع آية الحجرات هذه ظنّ نفسه المقصودَ بها فلزم بيته يبكي خوفاً وحزناً أن يحبط عمله، فلما افتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلم سبب احتجابه عنه طيّب خاطره وقال له: أنت من أهل الجنّة .
واقرأ معي قول سيد قطب رحمه الله تعالى في تعليقه على هذه الآية: لقد وعى المسلمون هذا الأدب الرفيع، وتجاوزوا به شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل أستاذ وعالم لا يزعجونه حتى يخرج إليهم، ولا يقتحمون عليه حتى يدعوهم.
يُحكى عن أبي عبيد – العالم الزاهد- أنه قال : ما دقـَقـْتُ على عالم باباً قطّ حتى يخرج في وقت خروجه.
نحن بحاجة إلى أن يحترم المسلمون علماءهم وأن يُجل أحدنا الآخر، فنضرب مثلاً في الأخلاق الإسلامية الحضارية التي جعلتنا سادة العالم ومربيه، فننتشله من وهدة الجهل وعِمايته إلى ذروة السموّ والأدب الرفيع ..
إنه ينادينا .... فهل سمعنا النداء ووعيناه؟!
7
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) سورة البقرة.
أمر المسلم عجيب ، يربح في اليسر والعسر ،والسراء والضراء عندما يكون رضا الله سبحانه نصب عينيه، ولعلنا نذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه صهيب بن سنان" عجبًا لأمرِ المؤمنِ ، إنَّ أمرَه كلَّهُ له خيرٌ، و ليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمنِ ، إن أصابتْهُ سرَّاءُ شكر وكان خيرًا لهُ ، و إن أصابتْهُ ضرَّاءُ صبرَ فكان خيرًا له" فما يُقضى له بشيء فيرضاه ويحتسب أجره عند الله تعالى إلا فاز وأفلح.
تقف في صلاتك بين يدي الله سبحانه تعلن الحب والإيمان والخضوع له ، وتسأله العون في أمورك فتلجأ إلى ملاذ أمين وحصن حصين، ولك أن تقف بباب الكريم في كل لحظة من حياتك لا يردّك عنه مانع ، إنما يحب الله سبحانه أن تلِحَّ في التقرب منه،على عكس صلتك بالمخلوق الذي يتأفف إن لزمته ويأنف أن يجيب سُؤلك ويضجر منك:
لا تسألنّ الناس أدنى حاجة *** وسـل الـذي أبـوابُـه لا تُحجـبُ
فالله يغضب إن تركتَ سؤاله *** وإذا سألت المرءَ يوماً يغضبُ
والصبر دليل عزم وقوة شكيمة ، وهو ثلاثة أنواع :
فصبر على ترك المحارم والمآثم،
وصبر على فعل الطاعات والقرُبات ،
وصبر على المصائب والنوائب ولعله المقصود الأول هنا.
قال أحدهم : الصبر في بابين : الصبر لله بما أحب وإن ثقل على الأنفس والأبدان، والصبر لله عما كره وإن نازعت إليه الأهواء ،فمن كان هكذا فهو من الصابرين الذين يسلم عليهم إن شاء الله
وقال علي بن الحسين زين العابدين إذا جمع الله الأولين والآخرين ينادي مناد: أين الصابرون؟ ليدخلوا الجنة قبل الحساب ؟ قال فيقوم عنق من الناس فيتلقاهم الملائكة فيقولون إلى أين يا بني آدم ؟ فيقولون إلى الجنة فيقولون وقبل الحساب ؟ قالوا نعم قالوا ومن أنتم ؟ قالوا نحن الصابرون. قالوا وما كان صبركم ؟ قالوا صبرنا على طاعة الله ،وصبرنا عن معصية الله حتى توفانا الله .قالوا أنتم كما قلتم ،ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. ويشهد لهذا قولُه سبحانه " إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب"
يذكر الطبري في تفسيره لهذه الآية : (فإنكم بالصبر على المكاره تدركون مرضاتي , وبالصلاة لي تستنجحون طلباتكم قـِبَلي وتدركون حاجاتكم عندي ، فإني مع الصابرين على القيام بأداء فرائضي وترك معاصيّ , أنصرهم وأرعاهم وأكلؤهم حتى يظفروا بما طلبوا وأملوا قِبَلي) .
إننا بالصبر والصلاة نستعين على مصائب الحياة وننال الأجر العظيم " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب "
قال سعيد بن جبير: الصبرُ اعترافُ العبد لله بما أصاب منه واحتسابه عند الله رجاء ثوابه ، وقد يجزع الرجل وهو متجلد لا يرى منه إلا الصبر .
ولعل من أنواع الصبر ( الصيام) لقوله صلى الله عليه وسلم " والصبر ضياء" وفسره العلماء بالصوم وترك الملذّات وأطايب الطعام والشهوات. والصيام من عزائم الصبر.
وما أروع الفاصلة التي أنهت الآية ( إن الله مع الصابرين) فمعيّة الله سبحانه أعلى ما يرجوه المرء ، إنْ وصل إليها شعر بالطمأنينة والأمن والأمان ونال مبتغاه، والحكمة الرائعة تصف حال أهل الصبر وحال الضعفاء عنها (فمن صبر ظفِر ومن لجّ كفر) .
ونحن في مقارعتنا لعدو الله الذي دمر سورية الحبيبة واذاق أهلها المرار واستعان بالظلَمة أمثاله على الشعب المصابر نحتاجُ أيما حاجة إلى الصبر على قضاء الله وإعداد العدة للثبات أمام مكر العدو وفساده ، ولا يكون هذا إلا بالعودة إلى الله والإخلاص في العمل والنية وترك حظوظ النفس والسير في أقصر طريق وأسرعه إلى مرضاة الله تعالى . أما الصلاة فهي الصلة الوطيدة بالمولى سبحانه ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبه أمر لجأ إلى الصلاة وقال ( أرِحنا بها يا بلال) فالراحة أن تكون في كنَف الله ورعايته ، وقال بأبي هو وأمّي ( وجعلتْ قرّةُ عيني في الصلاة) والصلاة هُوّيّة المؤمن وزاده في الطريق ، إن قبلتْ منه قُبل سائر عمله .
هذا نداء الله لنا .....
فهل سمعنا النداء ووعيناه؟
8
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)
قال مالك: إن الطيب هو الحلال . وقال الشافعي : الطيب المستلذ.
ويقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم " أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم " وقال يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك ؟ " ورواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة.
فالمؤمن يأكل من طيبات ما رزقه تعالى و يشكر الله تعالى على ذلك ، وهذه من سمات عباد الله . والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة كما مرّ آنفاً.
وسمي الحلال حلالا لانحلال عقدة الخطر عنه . قال سهل بن عبد الله : النجاة في ثلاثة :
1- أكل الحلال ,
2- وأداء الفرائض ,
3- والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم .
وروى القرطبيّ أن سعيد بن يزيد قال: خمس خصال بها تمام العلم , وهي :
1- معرفة الله عز وجل ,
2- ومعرفة الحق
3- وإخلاص العمل لله ,
4- والعمل على السنة ,
5- وأكل الحلال , ....فإن فقدت واحدة لم يرفع العمل .
قال سهل : ولا يصح أكل الحلال إلا بالعلم , ولا يكون المال حلالاً حتى يصفو من ست خصال : 1- الربا 2- والحرام 3- والسحت (وهو اسم مجمل يقصد به الحرام كله) 4- والغلول 5- والمكروه 6- والشبهة . فمن التزم أمر الله فقد عبده ، ومن عبده بالطريقة الصحيحة فقد شكره. وبالشكر تدوم النِّعم.
ولئن أمر الله تعالى المؤمنين بأكل الحلال فقد خصّهم بالخير تفضيلا ، وأمر غيرهم بذلك تحصيناً من المرض والأذى....والمقصود بالأكل الانتفاع به من جميع الوجوه.
ولما امتن تعالى على عباده برزقه وأرشدهم إلى الأكل من طيبه ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك إلا 1- الميتة وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية (وسواء كانت منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو عدا عليها السبع). وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى " أحل لكم صيد البحر وطعامه " .ولحديث سمك العنبر في الصحيح والسنن إذ قال عليه الصلاة والسلام في البحر " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " . وروى الشافعي وأحمد وابن ماجه والدارقطني حديث ابن عمر مرفوعا " أحل لنا ميتتان ودمان (السمك والجراد) و(الكبد والطحال) .
2- والدم ( ما عدا الكبد والطحال وما خالط اللحم والعروق بعد تنظيفهما) لما فيه من ضرر.
4- وكذلك حرّم عليهم لحم الخنزير - قولاً واحداً - سواء ذكي أو مات حتف أنفه.
5- . وكذلك حرّم عليهم ما ذبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد والأزلام ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له .
ومن عظيم رحمة الله بعباده الإباحة على الإطلاق في قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم " ثم حصر التحريم فيما ذكر سابقاً ، قال صلى الله عليه وسلم: ( الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه )
فمن اضطر فلا بأس أن يتبلّغ ما يبقي عليه الحياة، ولا يُكثر، فالضرورة تبيح المحظور والاضطرار خوف الموت أو الإكراه .
يريد الله تعالى لعباده أن يطعموا الطيب فلا يتغوّلوا في الحرام ولا يطغوا في التزيّد ، ولا يعتدوا على حرمات الله ولا حقِّ العباد . إنه يريد لنا أبداناً صحيحة قوية ومجتمعاً يعرف فيه أفراده حقوقهم فيلتزموها وحقوق غيرهم فيدَعوها . أما الاعتداء والبغي والظلم فمنقصة تفتت الأمة ، وتؤدي إلى خرابها ، والمسلم حريصٌ على بناء أمته نقياً من الضعف والشوائب راغبٌ في قوته وكماله.
هكذا ينادينا الله تعالى ليرفع ذكرنا، ولنحيا في الدنيا أعزة وفي الآخرة كراماً .
فهل سمعنا النداء ووعيناه؟
المراجع
islamsyria.com
التصانيف
الآداب قصص أدب مجتمع