- قد يفاجئ الداعية الزائر لمدينة مرسيليا، بكلمة ليكالونك، وما سوف يسجل في هذه العجالة مسامرة تمت ثمّ .
محمية ليكالونك الطبيعية،عبارة عن منحدرات جبلية ليس بينها وبين البحر برزخاً من الرمال، وعلى أكتاف تلك الجبال تقف أشجار الصنوبر ترقب زرقة البحر، ثلاثة مناظر كل منها نسيج لوحده، فهي مهوى أفئدة الزوار.
ويطيب لدعاة مرسيليا، الترويح عن أنفسهم، وإكرام ضيوفهم، بما اصطلح عليه بالخلوة الدعوية، فلا يفد إليهم زائر، إلا ويدعونه إلى هناك، فتراهم مجتمعين لا يند منهم داعية، إلا من قسرته الظروف قسراً.
في غروب يوم أحد، شُدت الرحال إلى محمية ليكالونك، أو الخلوة الدعوية، حيث ينفردون بمصدر علم، لشحن مدخرات الوعظ، ورفد مخزون العلم.
أما الضيف فهو ممن يصح القول فيه :
يندم من حضر عنده ولم تكن في جعبته، سلاسل لشد الوثاق، لكثرة الطرائد، التي ستفلت منه في بيداء النسيان .
واحتفاء دعاة مرسيليا بهذا الضيف لأنه شيخ ومفتي، ومما يتدوال بينهم قول إمام الحرمين الجويني في كتاب البرهان:
[ المفتي مناط الأحكام، وهو ملاذ الخلائق في تفاصيل الحلال والحرام...] 2/869 .
كانت الشمس تستأذن في ارتداء الحجاب، ولازال البصر يستوقفها لتأمل عظمة البحر، وما أن تحلق جمع الدعاة حتى أخذت نظرات الشيخ المقرئ إبراهيم شبيب العامر صدره بكتاب الله، تتأمل الأمواج، في ذهول لافت، حتى ليخال للناظر إليه أنه بلا صُحبة، ثم قال :
" إن الإنسان ليقف مبهورًا حائرًا، معترفًا بضعفه وعجزه أمام عظمة البحر وجبروته، فالبحر خلْق عظيمٌ، ذو شأن في كتاب الله؛ حيث ذكر في (43) موضعًا، أجملها في الأتي :
1. من جنود الله .
2. نفع العباد .
3. والبحر أيضًا محلٌّ لابتلاء العِباد بالسَّراء والضَّراء .
قال الشيخ محمد بلمختار :
ما رأيكم دام فضلكم، أن نتعبد في هذا المكان النزيه، وهل من عبادة تفضل مذاكرة العلم؟ ونحن بحضرة عالم فاضل، اقترح عليكم حديثاً من فقه المكان .
أجاب أحد الحضور، كثرت الأسماء من فقه الواقع إلى فقه الأوراق، والآن فقه المكان ...
فذكره الشيخ محمد بقاعدة : لا مشاحة في المصطلحات " ، وفرض الأدب مع العلماء نفسه على الدعاة، فأخذت الأنظار تستجدي الشيخ المفتي عمر دورمان، فقال :
"" روى سيدنا أبو هريرة، وأخرج أصحاب السنن، وصحح من بعدهم الإمام الألباني، قال :
( سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء؛ فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) .
قال الإمام الترمذي : سألت الإمام البخاري عن هذا الحديث فقال : صحيح. وقد استشكل الإمام ابن عبد البر هذا الجواب و قال لو كان عند البخاري صحيحاً لخرّجه في جامعه "" .
تعجبت من طرح الشيخ عمر لهذه النكتة الحديثية !، وأطرق جمع الدعاة، إلا الشيخ الشاب الداعية يوسف بجداين وهو مدرس علم الحديث، هرع إلى حاسوبه الكفي، بينما اكتفى الباقون وأنا منهم في مراجعة ما في أرشيف الذاكرة، ثم قال الشيخ يوسف :
"" لم يغب عن ابن عبد البر –رحمه الله- أن البخاري لم يشترط في صحيحه تخريج كل حديث صحيح، لكنه على ما يبدو ما اطمأن لسنده، حيث قال : [ وهذا الحديث لا يحتج أهل الحديث بمثل إسناده] التمهيد 16/218، لكنه قبل العمل به لتلقي علماء الأمة له بالقبول "" .
كان الشيخ عمر- حفظه الله- قد استجاب لرأي الشيخ عمر بلمختار، على أسلوب العلماء، في استثمار الواقعة، فعمد إلى طرح إشكال حديثي، ورمى إلى سبر المعلومات الشرعية على مختلف النواحي، وكثير من الدعاة يحاول طرح كل ما في جعبتنه أمام السادة العلماء، يريد توثيق الفهم، وزيادة المعلومة .
وكان ممن يغيب لظروف خاصة أحياناً الداعية الشيخ أحمد عمروش، والمعروف عنه الدعابة، مع أن إخوانه يلقبونه الرباني، لما يلاحظون من تنسكه الخاص، وحذره المفرط من الصيت أو السمعة، فقال :
ورد عن الإمام الشافعي أن هذا الحديث نصف علم الطهارة كما في أوجز المسالك على موطأ مالك 1/317 ، وأزيدكم قول الإمام الزرقاني : هذا الحديث من أصول الإسلام، أتدرون لماذا ؟ .
به ابتدأ ابن حجر باب الطهارة في فتحه ، لأهميته، والماء أصل الطهارة، وتعد زيادة الحل ميتته أصلاً في باب الأطعمة .
قال الشيخ إبراهيم شبيب :
لاحظوا أن الرسول الأعظم عليه أفضل الصلاة والسلام، لم يجب بكلمة نعم، حيث لو قال: نعم لأفاد الضرورة فحسب . نيل الأوطار الشوكاني 1/152
قلت : نقل الإمام الزركشي في البحر المحيط، قول الإمام الشافعي( ترك الاستفصال في وقائع الأحوال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم، فلم يسأل الحبيب عليه الصلاة والسلام السائل : لمَ
لم تحملوا معكم ما يكفي للوضوء والشرب 201/4.
قال الشيخ محمد بلمختار: عاب بعض على الإمام ابن تيمية الاسترسال في الأجوبة، فرد بعض محبيه، بأن ذلك من سعة علمه، واستدلوا بهذا الحديث .
عاد الشيخ أحمد عمروش لطبيعته في الدعابة، فقال:
ما رأيكم دام فضلكم، في من أكل لحم ميتة وهو غير مضطر، بل غير جائع أساساً ؟ .
فضحك الحضور إلى درجة القهقهة، وردوا عليه، أكل حوتاً على تسمية أهل المغرب للسمك .
قال الشيخ عمر: " و من أعظم تعاليم هذا الحديث الشريف ، التعليل الذي أجاب به الرسول عليه السلام فلم يقل "نعم"، بل علل الإجابة كي يشير إلى أهمية تعليل الأحكام و الاعتبار بالحكم و مقاصد التشريع الإسلامي الحكيم فإن هذا العلم هو أساس التوفيق بين العقل و الشرع . و لا يكون الحكم الشرعي إلا مع وجود علته ، كما قالوا : الحكم يدور مع علته وُجوداً و عدماً .
هذا ما نعاني منه اليوم ، البُعد عن سنة رسول الله تعالى في التعامل مع النص الديني بالمنهج التعليلي .
هذا المنهج السليم هو الأوحد القادر على ديمومة الشريعة الإسلامية؛ و إعطائها القدرة لمواكبة المستجدات، فكما قالوا : النصوص متناهية و الحوادث غير متناهية .
بيد أن سؤالاً يفرض نفسه بناءً على هذا الحديث :
هل تقدم النفس المحترمة عندما تتعارض مع الدين أحياناً ؟"" .
وتشاغل بجهاز الهاتف .
أبحر الدعاة في تيه الآراء، فمن خائض في لج العقيدة، إلى سابح في بحر الفقه، وعائم في تجاذبات المصالح سياسة،... كان الشيخ عمر يوزع نظرات مفعمة بالابتسامات، وخالية من العبارات، مما أربكنا، فلم ندر ماذا يقصد؟ .
وانتقل المجلس من المشاركات إلى الهمسات الجانبية، كأننا في امتحان مفتوح ، لم يجيب الشيخ على السؤال، وإن كان الظن أنه سمع جل ما قيل، وربما أن معرفته بالحضور وهم على قدر من العلم، اكتفى بالقول :
"" قاعدة أصولية مقاصدية ، و هي أن المتوقع كالواقع و المظنون كالمعلوم . وأن الإمام الشاطبي قال : النظر إلى مآلات الأفعال واجب شرعاً، وهذا الحديث من أدلة الجمهور خلافاً للحنفية ؛ في خبر الآحاد يخصص المتواتر "" .
حضر السمك المشوي، وعند الطعام يبطل الكلام على سنة من يشعر بالجوع، وعندما رجعت إلى البيت كتبت كل ذلك، وخطر لي، إرساله إلى شيخنا الفاضل العلامة الأخضري، لينظر إلى جهد بعض من تلامذته، ولعله يكتب شيئاً، أرسلتها عبر البريد الالكتروني .
فأرسل لي رسالة قال فيها :
"" سبق الحديث في مواقع الإجابة عن سؤال وارد على مقام التشريع، حيث يتشوف الشارع الحكيم إلى الزيادة على المطلوب، تحقيقاً لمقام إكرام أهل الفتوى، وتحصيلاً لمقام رفع الحرج،
من حيث تعميم منظومة الطهارة ، والإباحة بما يدخل السرور لرعي حظوظ المكلفين .
وأنا أتشوف إلى الغبطة الحاصلة للسائل وقد ظفر بما يستوعب الجبال غنيمة .""
المراجع
odabasham.net
التصانيف
قصص أدب مجتمع الآداب قصة