غادرت كلورادو (غرب أمريكا) الأسبوع المنصرم متوجها جنوبا إلى فلوريدا، عبأت سيارتي بأمتعتي وصدري بالامتنان لهذه الولاية التي شرعت الأبواب لطالب أجنبي للركض في أروقتها وتسلق جبالها وأحلامها شأنه شأن أي مواطن ولد في أحد مشافيها...
    تدفقت في داخلي الدموع وأنا أحزم حقائبي وأترجل عن هذه الولاية المعجونة بالإنسان والتسامح، تذكرت كيف أجبرني جاري بول (50 عاما) على الأكل بعد أن فقدت شهيتي حينما علمت بنبأ وفاة شقيقي الشاب محمد في حادث مروري قبل نحو عام، استرجعت الموقف النبيل الذي أحرزه رجل شهم بجوار أحد البنوك عندما شاهدني أتوسل حارس الأمن للدخول بعد انتهاء الدوام بدقيقة من أجل الحصول على مبلغ مالي من حسابي أدفع من خلاله تأمين الشقة التي استأجرتها للتو آنذاك، لم يدع الرجل الكريم حارس الأمن أن يكمل ذريعته، قاطعه،قال لي: "ما هو المبلغ الذي تريده؟ أكتب لي شيكا فقط، وأستطيع توفير المال الذي تحتاجه، علامات القلق تكسو ملامحك، فقط انتظرني 10 دقائق، سأذهب الى مكتبي وأعود وما تريد".
انتظرته والأسئلة تنهمر والعرق من رأسي، قبل أن أتآمر والشيطان الذي يسكنني وأحاول أن أشكك في مدى التزامه في ممارسة عربية تقليدية، سطع وابتسامته من داخل سيارته. فرحت كطفل، وددت أن أقبل جبينه وأطير، المهندس ستيفن برينغ صار لاحقا أحد أقرب الأصدقاء الذين اتجه إليهم بحماسة وحبور كبيرين.
كلورادو، جعلتني أتعرف على العالِم السعودي الدكتور محمد الطريقي الحاصل على براءتي اختراع هما: مفصل كاحل دوار قابل للانغلاق لطرف صناعي ذي بنية تجميعية للبتر تحت الركبة (براءة اختراع أمريكية في عام 1989م)، وأيضا جهاز للتحليل الكمي لعدم وثاقة الركبة البشرية في الجسم الحي دون التعرض للأنسجة (براءة اختراع أوروبية في عام 1991م.
)عندما تلقيت اتصالا قبل شهور قليلة من أندرو بيل -منتج برنامج متميز- على قناة دبليو تو الأمريكية والتي تبث من دنفر-عاصمة كلورادو الإدارية- يطلب من خلاله تفاصيل موسعة عن عضو هيئة التدريس في جامعة الملك سعود بالرياض الدكتور الطريقي الذي يغيب عن وسائل الإعلام السعودية دون مبررات وجيهة.
شوارع أليفة ومزدوجة، تمتلئ بالأشجار والظلال، وحدها أخرجتني من غيبوبة الحزن التي ابتلعتني، رحلة استغرقت نحو 34 ساعة قيادة، تخللها توقف في فنادق على الطريق مؤثثة بوجوه تحترف الابتسام والفرح، مررت على نحو 4 ولايات، تختلف في مسمياتها ولهجات شعبها، وتتشابه في أرواحها والنظام الذي يسكنها...
طوال رحلة استغرقت 4 أيام وأكثر قليلا لم أجد ورفيقي مسجدا، كنا نؤدي صلواتنا في أماكن عامة لم نتعرض من خلالها إلى أذى بل شعور بالزهو ينبت على ملامح الآخرين، قطفناه بكل سعادة ونهم...
كانت بوصلة الرحلة، خريطة صغيرة، تتأرجح في جسدها المخارج والشوارع، ترصد كل الاستراحات ومحطات الوقود المرسومة على الدرب بدقة متناهية، لا تتبعثر ولا نتبعثر!
    حتى الأعزاء الذين يطلون عبر الإعلانات الضخمة التي تتوزع بسخاء واهتمام على جوانب الطريق نشعر أنهم يقترفون التلويح والبهجة التي يظهرون من خلالها من أجلنا وليس من أجل الترويج لتلفزيون أو بطاطس أو سلع تجارية أخرى!
    كنت أدعو الله كثيرا أن لا أجبر في الطريق الطويل على الدخول إلى دورات مياه بعد مشاهد غير حضارية علقت في ذاكرتي إزاء رحلات مكوكية كنت أقطعها من الدمام إلى الرياض والعكس صحيح جعلتني أقطع وعدا على نفسي أن أتلافى مستقبلا الرحلات البرية.
    لكن ما شاهدته في أمريكا يعكس الاهتمام بالمسافر والحرص على الاهتمام بالانطباع الصغير الذي ربما يحتفظ به الزائر السريع عن المدينة إلى الأبد بسبب سلوك غير صحي يتمثل في رمي منديل على قارعة الطريق أو التعالي على النظافة!
     وصلت إلى فلوريدا، وتمنيت أن لا أصل بهذه السرعة بعد المشاهد المفعمة بالحضارة.
    الاهتمام بالأمكنة والخدمات يحثني على الحديث عن العمل التطوعي في أمريكا حيث ينمو والإنسان، يتوجب على طالب المرحلة الابتدائية إنهاء ساعات محددة متطوعا كل فصل دراسي، يفرض عليه أن ينظف فصول المدرسة ومرافقها حسب سنه وإمكاناته، عندما يكبر تنتقل معه الواجبات وتتفاقم كجسده تماما، الصغير الذي كان يقوم بري النباتات بعد 5 سنوات نراه يعمل متطوعا في حديقة الحيوان على سبيل المثال.
    قبل أعوام وأثناء دراستي البكالوريوس في إحدى الجامعات الأمريكية وجدتني تائها و30 ساعة يجب أن أنهيها متطوعا كجزء من المتطلبات الرئيسة للتخرج، رفضت كلية الإعلام تعييني متطوعا كونهم يعلمون أني أدرس هذا التخصص ولن أتعلم جديدا لو عملت 30 ساعة إضافية بين الإذاعة والجريدة الجامعية!
    اقترح علي صديق أن أعمل 10 ساعات في قسم التشجير والزراعة في الجامعة، بدا لي الأمر هينا لكنه كان خلاف ذلك، كنا نزرع الأشجار ونستأصل بعض النباتات الفاسدة،نوزع الفسائل ونتعاطى مع التربة الخشنة، المشكلة الحقيقية لم تكن تقنية بقدر ما كانت نفسية وبدنية بسبب عدم اعتيادي وأبناء جلدي على هذه الممارسات باكرا، لم تكن برامجنا اللامنهجية في السعودية ذات جدوى وإلا لما أهملنا مرافقنا والأماكن العامة، ولم أصبح آخر الرفاق في إنهاء الواجبات الخدمية!
      اندهش حقا من الناقمين على الشبان الأمريكيين خاصة عندما يتهمونهم بالكسل والنزوح إلى اللعب البريء وغير البريء على الدوام...
لم أتعلم قيادة الشاحنات ونقل عفشي من شقة إلى أخرى ومدينة إلى مدينة إلا في أمريكا التي لا يتوافر في أمعائها من سيخدمك وأنت تصدر الأوامر بفظاظة!
      فكما يعيش في أمريكا المهمل والرديء فهي تعج بالمتميزين الذين سيحافظون على المكتسبات وسيحققون المزيد من النجاحات على كافة الأصعدة...
    رغم عدم انسجامي والسياسة الأمريكية، إلا أني وأصدقاء كثر نحب شعبها الدافئ، الطيب،نحب تقبلها للجميع ورغبتها بالجميع...
    نحبها لأنها جعلتنا نحب وطننا أكثر، نغار عليه أكثر...
    نبكي أكثر!
           
 
 *منقول عن صحيفة الوطن السعودية بتصرف
 

المراجع

odabasham.net

التصانيف

قصص  أدب  مجتمع   قصة