همسات بغداد 2
زياد جيوسي
ziadjayyosi1955@yahoo.com
عضو لجنة العلاقات
الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب
أغادر رام الله العشق والجمال في الثّاني من تمّوز لهذا العام، متّجهًا إلى عمّان
الهوى، يجاذبني العشق بين رئتيّ القلب الّتي يفصل بينهما نهر مقدّس. أجول شوارع رام
الله صبيحة سفري رغم حرارة الجوّ، أتنسّم عبق ياسمينها وهواها، أركب السّيّارة
باتجاه استراحة مدينة أريحا لركوب الحافلة باتّجاه عمّان، يتمزّق صدري من امتداد
المستوطنات الّتي تستولي على أراضينا المقدّسة، في ظلّ صمت دوليّ مريب وعجز عربيّ،
تمزّق فلسطينيّ لا تلوح له في الأفق حلول.. أصل الاستراحة وآخذ رقم صعودي للحافلة،
أستغل وقت الانتظار بقراءة (عين هاجر) للمرّة الثّانية للكاتبة المغربيّة رجاء
الطّالبي، وديوان شعر (فراشة أم ضوء) للشّاعرة الفلسطينيّة رانيا ارشيد.. أسجّل
العديد من الملاحظات وأواصل القراءة في رحلة الشّوق والمتاعب، الّتي استمرّت ثماني
ساعات متواصلة- منذ لحظة مغادرتي رام الله حتى وصولي إلى عمّان في المساء. ألتقي
شقيقي الأكبر وسيم ومجموعة من أصدقائي وزملائه الضّبّاط في المعبر الفلسطينيّ بعد
غياب شهرين، يلومونني لإصراري على أن أنتظر في الاستراحة بدل المجيء للمعبر مباشرة
لاختصار الوقت، فأبتسم وأقول: أفضّل الاستراحة كيّ لا آخذ دور من سبقني من أبناء
شعبي، وأستغلّ الوقت بالإحساس بمعاناة المواطنين الّذي لا يحملون بطاقات الشّخصيّات
المهمّة، ولا يحصلون على تنسيق لتسهيل مرورهم من قوّات الاحتلال، وأستفيد من الوقت
بالقراءة وتسجيل الملاحظات.
بمجرّد أن تطلّ السّيّارة باتجّاه عمّان، ينتابني دومًا شعور غريب بالفرح. فعمّان،
الّتي شهدت بعض طفولتي وشبابي، مدينة تسكن القلب وتتجذّر به يومًا إثر يوم، لكنّ
رام الله تأبى أن تفارقني في عمّان أيضًا. عمّان تشهد صيفًا حافلاً بالنّشاطات
الأدبيّة والفنّيّة، ورغم ضيق الوقت كان يتاح لي متابعة بعض هذه النّشاطات، فحضرت
معرض عمّان (إن حكت) في مركز الحسين الثّقافيّ، ومسرحيّة متميّزة بالإخراج والدّمج
بين أشكال الفنون- تحمل اسم (ليننغرادكا) أنتجها وأشرف عليها فنّيًّا: عبد السلام
قبيلات. وفي مركز رؤى للفنون أتيح لي حضور معرض للفنانة هيلدا الحياري. وبعده وفي
مركز رؤى أيضا، شاهدت معرضًا فوتوغرافيًّا متميّزَا للفنّانة فرح حوراني بعنوان
(جاذبيّة غير مصقولة) سيكون لي معه مقال خاص، لأكمل بعده إلى حدائق الحسين لحضور
سهرة أغنيات عمّانيّة مع أصدقائي من آل حتر الكرام. وحملت لي رام الله إلى عمّان
أمسية أدبيّة في مقرّ رابطة الكتّاب الأردنيّين، استمعت إلى أحلام بشارات وصفاء
عمير وأماني الجنيدي وغيرهن، بينما جمعتني أمسية شعريّة جميلة في اتحاد الكتاب
والأدباء الأردنيّين بالكاتبة والشّاعرة الصّديقة مها أبو عين الّتي لم ألتقيها منذ
عشر سنوات حين غادرتْ رام الله الى الاسكندريّة، من أجل استكمال دراستها والحصول
على الدّكتوراة.. كان لقاء أصدقاء قدامى فرحت به، واحتفينا بها- أنا وزوجتي- في
جلسة أحاديث وذكريات حتّى وقت متأخّر في مكان جميل بهمسات مساء عمّان، لنودّعها وهي
تستعدّ للعودة إلى الوطن في الصّباح القادم.
لقاء عمّان هذا العام مختلف تمامًا، فقد احتفلت بزفاف ابني المهندس مصطفى، الأكبر
في الذّكور مع محبوبته هلا ظاظا، هي فرحة كبيرة بعد أن حرمني الاحتلال من حضور زفاف
ابنتي الوحيدة ذؤابة قبل عامين في عمّان. واكتملت فرحتي بصدور كتابي (فضاءات قزح)
الّذي تكرّمت وزارة الثّقافة في الأردن الجميل بدعم طباعته، وتولّت طباعته والإشراف
على توزيعه دار فضاءات في عمّان، وقدّمه الرّوائيّان والنّاقدان المعروفان- الأخوان
أحمد أبو صبيح وعوّاد علي في حفل الاستقبال الّذي أقيم في رابطة الكتّاب في عمّان،
بحضور جميل لأحبّة وأصدقاء. وحقيقة ومن قلبي قدّمت وأقدّم الشّكر لكلّ من كان لهم
دور في اصدار هذا الكتاب: طيفي الجميل الّذي لا يفارقني وأسرتي الجميلة وشقيقتي
وأشقّائي، أحبتي؛ الشّاعر محمّد حلمي الرّيشة للجهود الّتي بذلها في التّدقيق
والمراجعة، الكاتبة والشّاعرة منى ظاهر لجهودها الّتي لا تنسى معي، أصدقائي وأصدقاء
الصّومعة في رام الله- د. هاني الحروب وعبد السّلام العطاري الّذين لم يتوقّفوا من
سنوات عن الحديث عن ضرورة إصدار الكتاب الّذي تولّى تقديمه توأم روحي د. هاني
الحروب.
في لحظات الفرح تستعيد روحي ذكريات همسات بغداد في أوائل سبعينات القرن الماضي، فما
أن استقرّت روحي في الدّراسة، حتّى وضعت نصب عينيّ برنامج لمعرفة المكان بتفاصيله.
فبدأت التّجوال شبه اليوميّ في بغداد وخاصة في الأوقات المناسبة من حيث الجو.
فبغداد مدينة كنت أرى فيها الفصول الأربعة في اليوم أحيانًا. تجوّلت في كافّة
شوارعها، لم أترك مكانًا يمكنني الوصول إليه ولم أزره، كان يشدّني شارع أبو
النّوّاس كثيرًا بوقوعه على ضفاف دجلة، كانت التّماثيل والنّصب في ذلك الشّارع
متميزة، إضافة إلى حدائقه الممتدّة على الشّاطئ، لم أترك ميدانًا من ميادين بغداد
وفي داخله عتب عليّ، وكانت سهولة توفّر الحافلات العامّة ودقّة حركتها تساعدني
كثيرًا في التّجوال. فوضعت لكلّ منطقة أيامًا محدّدة تتناسب مع برنامج دراستي
لزيارتها.. في بداية دراستي سكنت في شارع الجمهوريّة الواصل بين ساحة الجمهوريّة
حتّى ساحة التّحرير متوازيًا مع شارع الرّشيد، سكنت بالقرب من ساحة الرّصافي
الصّغيرة والّتي يزيّنها تمثال الشّاعر الرّصافي، ثمّ انتقلت بعدها إلى السّكن في
حيّ راغبة خاتون. أتاح لي هذا الحيّ معرفة أحياء الكاظميّة والأعظميّة بتفاصيلها،
وكنت أتمتّع بالسّير في حيّ الأعظميّة وخاصّة بجوار دجلة مرورًا على جسر الأئمّة
باتّجاه حيّ الكاظميّة والتّجوال في أحيائه القديمة، ولقاء أصدقائي على شارع المحيط
حيث النّهر وغابات النّخيل. كانت الوزيريّة من أجمل الأحياء، ارتبطنا بها كون
كُليّتنا فيها إضافة لتجمّعات الاتحّادات الطّلابيّة. ثمّ انتقلت إلى حيّ شعبيّ
معروف باسم كمب الأرمن، والبعض يسمّيه كمب الجيلاني، فعرفت أحياء جديدة وساحات
وشوارع جديدة. فمن شارع الكفاح الى شارع النّضال فساحة الأندلس، وساحة علي بابا
وساحة الفردوس وميدان الجنديّ المجهول وغيرها الكثير. في تلك المرحلة كانت كافّة
مباني بغداد تعتمد الامتداد الأفقيّ، وكانت البنايات المرتفعة قليلة، وكانت شوارعها
متّسعة ومشجّرة بجمال متميّز، لم تكن هناك جسور ولا أنفاق على تقاطعات الشّوارع
وبين الأحياء، وفي فترتنا افتتح نفق ساحة التّحرير فكان في أذهان النّاس حدث له
أهمّيّة. والجسور كانت الوحيدة الّتي تصل بين ضفّتيّ النّهر وبين أحياء الكرخ
والرّصافة فقط. وقد تميّز في تلك الفترة الجسر المعلّق الّذي مثّل تحفة فنّيّة
وهندسيّة مغايرة. وسيكون لهذه الذّكريات بعض همسات قادمة.
صباح عمّاني لطيف وجميل، فنجان قهوتي السّندسيّ وطيفي الجميل، رام الله ترافقني كما
عمّان وبغداد، نستمع معًا الى شدو فيروز: (يا جبل الـ بعيد خلفك حبايبنا، بتموج مثل
العيد وهمّك متعّبنا، اشتقنا عالمواعيد، بكينا وتعذّبنا، يا جبل الـ بعيد قول
لحبايبنا، بعدوا الحبايب بيْعدوا الحبايب على جبل عالي بيْعدوا والقلب دايب).
صباحكم أجمل.