للمرة الثانية خلال العام تطأ أقدامي أرض مصر، شعورٌ مختلف ذلك الذي يختلج النفس كلما ذهبتُ خارج حدود القطاع، فمن ناحية النفس راغبة باستكشاف كل ما هو جديد في عالم متجدد لا تتوقف فيه الحياة والتطور خارج حدود القطاع، وفي ذات الوقت يبقى الوجدان معلقاً بغزة العزة وما تمر به من معاناة وما يعانيه أهلنا من ظلام وحصار.
أحاول من خلال الكلمات ترجمة مشاعر وأحداث أمر بها خلال الزيارة الحالية مستفيداً من رحلتي السابقة والحالية، البداية مابين الحدود وفصل من فصول معاناة شعب تكالبت عليه الأمم وضيّعت حقوقه منذ زمن ومازالت تتآمر عليه وعلى صموده.
خروج من البيت الخامسة صباحاً وصولاً لقاعة أبو يوسف النجار، لترتيب وتنظيم صفوف المسافرين، بعد حجزٍ مسبق يضطر له المسافرون الراغبون بمغادرة غزة وكشوفات غالباً ما تنغص عليهم لطولها ولاضطرارهم انتظارها وهى بدعة أوجدها القطاع لتنظيم السفر نتيجة الظروف اللا استثنائية للمعبر.
ومن ثم سير ببطء، شوق قاتل لمغادرة القطاع يُخيم عليه خوف من رفض السلطات المصرية للبعض بالمرور عبر الحدود لعدم استيفاء الأوراق تارة ولوجوده في قوائم المنع الأمني الموضوعة زوراً من قبل بعض المنتفعين والمرتزقة والحاقدين على شعب صابر يجاهد بالنفس والمال.
تمضي الدقائق وكأنها سنين على المسافرين بانتظار الوصول لما بعد الحدود، بينما تُفتح الأبواب مشرعة للمسؤولين وذوي النفوذ دون طوابير انتظار ودون خوف من رجوع وحتى دون الوقوف لتفقد أحوال شعب ينتظر وهم يمرون.
تفتح البوابة المصرية أخيراً ويبدأ تدفق الباصات للصالة المصرية وصولاً، ولا يخلو الأمر من منغصات يضطر فيها المسافرون تكرار تجربة الانتظار حتى الوصول.
صالة مصرية تكاد تخلو من مقومات الاستخدام الآدمي، يضطر فيها الطفل والمرأة الوقوف أو الجلوس على كراسي مهترئة غير مريحة تجلب الآلام وتُجدد صور المعاناة.
تبدأ الإجراءات، تُسلم الجوازات ومن ثم انتظارٌ وترقب، هذا يستدعيه الأمن الوطني – أمن الدولة سابقاً – وهذا يستجوبه جهاز المخابرات، ولا يُستثنى شاب أو فتاة من السؤال، اللهم المرضى غير المدرجين على قوائم المنع وكبار السن، إلاّ أن المعاملة الإنسانية للضباط والجنود اختلفت، فقبل الثورة كان التصرف مع الفلسطينين تصرف العبيد وتعمد الإهانة اللفظية والحط من قيمة الإنسان الفلسطيني أما الآن فلا إهانة ولا شتم ولا زجز.
تعقُب عملية التسليم حالة من الانتظار وقلق يعتري الجبين، تُرى من سيكون عاثر الحظ فيعود، ومن سعيد الحظ فيستمر، كنت من سعداء الحظ ممن خُتم جواز سفرهم ومضيت قدماً عبوراً باتجاه الجانب المصري من الحدود التي تكمن خلف البوابات المغلقة.
ما أن تجتاز بوابة المعبر حتى يُقابلك سائقوا السيارات بحفاوة شديدة، وتنهمر عليك مطراً البطاقات التعريفية والعروض الخاصة بتوفير مكان في العريش أو سيارة فخمة تُقلك من رفح إلى القاهرة، تُصاب بالانزعاج الشديد فأنت بحاجة لبعضٍ من الوقت والخصوصية في التواصل مع أقربائك وأصدقائك الذين ينتظرون الاطمئنان على عبورك أو عودتك.
ينطلق السائق مسابقاً الريح طلباً للوصول إلى القاهرة بعد أن أعياه التعب في انتظار مسافر يُنهي انتظاره علّه يصل الوجهة ومن ثم ينطلق إلى عائلته ببعض مما جاد الله عليه.
جمالٌ صحراوي خلاّب ذلك الذي يأسرك من رفح إلى القاهرة، تقف فيه ما بين التفكر في قدرة الله وصنعه وبين بساطة حياة البدو وطبيعة الحياة القاسية التي يحيونها، يصاحبها حديث شيق مع سائق يعرف تفاصيل غزة ومشتاق لمزيد من أخبارها تعلوه ابتسامة وطيبة تبعث على الارتياح.
ولابد لك أن تتوقف في استراحة بمنتصف الطريق تتناول ما يعينك على إكمال المسير، وستكون محظوظاً بأكل طيب ورفقة حسنة إن توفقت في اختيار السائق والمطعم.
تواصل المسير وصولاً إلى القاهرة لا تعترضك سوى نقطة تفتيش واحدة في جسر أكتوبر والذي يعتبر تحفة هندسية راقية فخر لمصر والعرب، يبتسم الجندي لك مُرحباً فيك بأرض مصر، في الوقت الذي يكون بلغ التعب منك مبلغه فتُرخي عينيك وتستقبل النوم لساعتين أو يزيد، ثم تكون في وجهتك بالقاهرة ينتظرك أصدقاؤك وأحبابك ممن كانوا يتوقون وصولك.
                  
 

المراجع

pulpit.alwatanvoice.com

التصانيف

قصص  أدب  مجتمع   قصة