أذكر أنني ذات يوم تمكنت من الوصول لبلدة بيت اكسا، وكانت فرصة قائمة على المغامرة، فالبلدة يمنع دخولها من قبل الاحتلال الصهيوني لمن لا يحمل هوية تثبت انه مقيم بها، وبعد جولة وثقت فيها بيت اكسا بالصور وكتبت مقالات عنها لاحقا، وحين كنت انظر من البعيد لتلال القدس نظرت إلى لفتا او إلى ما تبقى منها بألم، فهي بلدة صغيرة ولكنها عميقة الجذور، بلدة من الحوريات الكنعانيات التي بناها وسكنها اليبوسيون من كنعان، فأنشئوا بداياتها كما انشئوا القدس، وهي لصيقة في القدس فلا تبعد أكثر من 2 كم من قلبها إلى قلب القدس، ومنذ كنعان وحين كانت تسمى (نفتوح) أي الفتح، حتى حملت اسم لِفتا في عهد الفتوحات العربية الإسلامية وبقيت حتى الآن وستبقى، مرورا بمسمى (نفتو) أثناء الفترة البيزنطية، و(كليبستا) أثناء الغزو الصليبي، بقيت لفتا بوابة للقدس ومطمعا للغزاة، حتى كانت نكبة 1948، فطرد سكانها تحت سطوة الارهاب الصهيوني والتخاذل العربي، لكن لم ينساها احد من أهلها، وتوارث أهل لفتا عشقهم المكان ابا عن جد.
حين اتصلت بي ابنة لفتا نائلة حمودة، ودعتني لحضور إحياء ذكرى النكبة في الجمعية، وجدتها فرصة لتحقيق بعض من الرغبة بمشاهدة بعض من تراث لفتا الذي حفظه أهلها، وخاصة أني حاولت بالسابق أن أزور لفتا مع الجمعية لأوثق ما تبقى منها بالقلم والمقال، وإرواء بعض من عطش الروح، ولكن كالعادة رفض الاحتلال منحي التصريح لأرى بعض من وطني، فسارعت لإلغاء كل ارتباطاتي من أجل المشاركة والحضور.
حين وصلنا بوابة الجمعية استقبلنا بترحاب شديد الأستاذ ضياء معلا رئيس الجمعية وعدد من صحبه، فترك هذا الاستقبال أثر طيب في روحي، وأعاد للذاكرة بعض من أصدقاء الطفولة من لفتا، حين كنا نسكن منطقة سطح مرحبا في مدينة البيرة توأم رام الله السيامي قبل عام النكسة 1967.
جمعية لفتا الخيرية في مدينة رام الله أحيت ذكرى النكبة التي لم تفارق ذاكرة من عاشوها، ولا تفارق ذاكرة من رضعوها ممن سبقهم بالعمر، إحياء متميز ومختلف، فكان أهل لفتا ينتظرون في الشارع قدوم شاحنة المرحوم الشيخ حامد الصفران وهي الشاحنة التي لو نطقت لروت بعض من حكاية لفتا وحكايات من الوطن، فهي من صناعة 1938 وكانت مرخصة في فلسطين قبل النكبة ورخصت بالأردن بعد النكبة، لها حكايات ومساهمات مالكها المرحوم الشيخ حامد، وربما يكون لها مقالة لاحقة تروي الحكاية، ولعل أطرف ما فيها أن وزارة النقل والمواصلات طالبت الورثة حين طالبوا بترخيص المركبة التراثية بمبلغ 76 ألف شيكل كرسوم متراكمة، بدلا من أن تحظى هذه المركبة التراثية بالاهتمام والعناية، باعتبارها بعض من تراث فلسطين.
وصلت المركبة يقودها الحاج عماد الدين ابن الشيخ حامد الصفران (أبو حامد)، يرافقها الكشافة مرتديا الزي العربي التقليدي، وعلى الشاحنة يافطة كبيرة تحمل في وسطها صورة الشيخ المرحوم، تتوسط صورة لبلدة لفتا وصورة تحمل شجرة عائلات وعشائر البلدة، وكلها مؤطرة بعلم فلسطين، وعبارة تقول: (راجعلك يا دار، بـ "ترك" أبوي الختيار)، ليكون الاستقبال المهيب من رجالات لفتا والحضور للمركبة وقائدها وذكرى المرحوم الشيخ لمن عرفه، وحين استقبله الحضور بالعناق والأحضان، لمحت الدمعة في عيون كبار السن، وكأنهم وهم يعانقون الحاج عماد الدين يعانقون والده الشيخ حامد، فهمست في داخلي بالمثل الشعبي: (يلي خلف ما مات)..
وفي ممر الجمعية حتى البوابة كانت اليافطات التي تروي الحكاية، حكاية لفتا وقرى وبلدات القدس المهجرة، والتي ما زالت تحلم أن تضم أحبتها وأبنائها من جديد، وفي داخل الجمعية كان المعرض التراثي تحت عنوان معرض: أرض بلادي عليها الدار.. لأجول وعدستي تسابقني لتصوير الاحتفال، وما شاهدت من أدوات من التراث احتفظ بها أبناء لفتا، وكل قطعة فيها تروي حكاية، ومجمل الحكايات تروي بعض من ملحمة شعب أختط مسيرته في هذه الأرض المباركة، منذ أول ضربة معول لكنعان الأول، وسيبقى فيها ما شاء الله للدنيا أن تبقى، فبدأ الاحتفال وألقيت الكلمات من رئيس الجمعية ومن بعض الحضور ووزعت دروع التكريم، لكني كنت طوال الوقت أتجول بين تراث الوطن وجماله، أحلم بلحظة الحرية والصباح الأجمل، أتنسم عبق التاريخ والتراث، وأشعر بأرواح الأجداد ترافقني وتهمس: لا بدم من العودة فحذار من التقاعس مهما بلغت التضحيات، فغادرت القاعة بصمت بعد أن جلتها عدة مرات، ولم تترك عدستي زاوية فيها لم توثقها بعدسة القلب، وبقيت لفتا منيرة في القلب ترافقني، كما أنارتها شموع زهرات لفتا في أرض المعرض، على خريطة للبلدة من ترابها ورسمت اسمها منيرا بالشموع، وكأنها شموع الحرية ومشاعلها التي لا بد أن تكون ذات صباح فجر حرية آت.
صباح آخر لرم الله ونسماتها المنعشة والبكر أتنشقها بعد صحوي المبكر ومعانقتي الشمس وهي تنـزع غلالتها السوداء، أقف لنافذتي وأسقي أزهاري وحوض النعناع وأضع للحمائم والعصافير بعض من فتات الخبز، فهذه الطيور ربطتني بها علاقة محبة منذ زمن، وأحتسي قهوتي برفقة طيفي البعيد القريب، أحتسي قهوتي وأستمع لشدو فيروز: (لا يدوم اغترابي لا غناء لنا يدوم، فأنهضي في غيابي و اتبعيني إلى الكروم، هيئي هالدنانة كرمنا بعد في ربى، يوم تبكي سمانا نشبع القلب و الشفاه، حبيبتي زنبقة صغيرة أما أنا فعوسج حزين، طويلا انتظرتها طويلا جلست بين الليل و السنين).
فأستعيد ذكرى أول الأمس وإحياء لفتا لذكرى النكبة فأهمس: صباحكم أجمل بني وطني، وأهمس إلى لفتا ووطني المغتصب: لا بد من لقاء يا وطني ولو بعد زمان.
المراجع
odabasham.net
التصانيف
قصص أدب مجتمع قصة