بصمت وقفت أمام بوابة متحف آثار السلط، وبعد أن التقطت عدستي العديد من الصور لمبنى المتحف، والذي تحدثت عن تاريخه مطولاً في الحلقة الأولى، ولجت للداخل مع صحبي الكاتبة الألقة جميلة عمايرة وصاحبة الدعوة التي لا تنسى للسلط، ومع الأخ خالد عمايره نائب رئيس ملتقى زي الثقافي، وما أن أطللت على القاعة حتى شعرت برهبة التاريخ والحضارة، وبعد أن أصرت العزيزة جميلة أن تقتطع هي تذاكر الدخول.
وبعد حديث قصير مع المشرفين المتعاونين والذين تفهموا هدف زياتي ومنحوني الحرية في الحركة، بدأت بالتجوال في أنحاء المتحف، وفي كل زاوية من زواياه كنت أسمع همسات القطع الأثرية تهمس لي بحكاية السلط منذ أكثر من خمسة الآف عام قبل الميلاد، فإدارة المتحف لم تكتف بعرض القطع الأثرية فقط، بل وضعت تعريفات لها باللغتين العربية والإنجليزية، إضافة إلى مجموعة من اللوحات تحمل شروحات عن بعض المواقع الأثرية أو المراحل التاريخية، وبعضها مزود بالصور مما يساعد الزائر المهتم بالحصول على بعض المعلومات المفيدة له، وحقيقة أنصح كل زائر للسلط أن يبدأ الزيارة بزيارة هذا المتحف، فمن خلال المعلومات التي يحصل عليها يكوّن فكرة عن المكان والتاريخ، ما يساهم بأن يتعرف على المكان ويتنشق عبقه أيضاً.
من المتحف اتجهنا سيراً على الأقدام عبر شارع الميدان باتجاه سوق الحمّام، وهذا السوق قديم وتراثي ويزيد عمره عن مائة عام، وتروي بعض المصادر أنه يعود للفترة من 1881 – 1918، وهذا ما تؤكده طبيعة الأبنية في السوق، فيتميز نظام البناء بوجود القناطر والجدران السميكة، إضافة إلى نظام أبنية العقود، وأيضاً طبيعة النوافذ التي تعتمد على الطول أكثر من العرض، وتكون ذات عرض رفيع مقارنة بنظام النوافذ الآن، وهي من الأعلى مقوسة، وهي سميكة الجدران كما أسلفت، ما يجعل هذا النمط من الأبنية بارداً في الصيف ودافئاً في الشتاء، وكما كل أبنية السلط القديمة، فأبنية السوق والمحلات مبنية بالحجر الأصفر الذي ميز لون أبنية السلط.
وسوق الحمّام كان ولم يزل من أهم الأسواق التراثية في السلط، وهو بطبيعته يماثل أسواق الحميدية في الشام، والسوق القديم في نابلس، وإن كان يفتقد السقف، وهذا ما يؤكد ما قلته في مقالي الأول:
"في عدة مقالات لي أشرت إلى خيط سحري جميل يربط بين مدينة السلط العريقة وأحياء دمشق التراثية، وبين نابلس في فلسطين"، وإن كانت التغيرات الزمنية قد لعبت دورها في تغير نمط السوق، ففي القديم كان تراثياً وتجد به المنتوجات الشعبية والحلويات والبهارات والصابون المحلي ومواد تختص بالخيول والإبل والحمير والماعز، إضافة إلى احتياجات المزارعين والعمال من أدوات، ودكاكين لصناعة الأحذية وتصليحها، إضافة إلى محلات تصليح بوابير الجاز التي انقرضت، ومحلات تبيع وتصلح لمبات الجاز و(اللوكسات) للإنارة، إضافة إلى المخابز والمطاعم ودور العبادة، فما زال الجامع الصغير الذي بُدئ البناء به العام 1906 أنموذجاً للمباني الجميلة، وقد بناه البنّاء المعماري عبد الرحمن العقروق من مدينة نابلس، بعد أن جمع الأهالي كلفة البناء بالكامل، وقد لاحظت حجم التغير والذي لاحظته أيضاً في المدن التراثية الأخرى، فقد انتشرت محلات بيع أدوات الزينة والملابس الصينية الرخيصة الأثمان، وتراجعت الأدوات التراثية والتي تحمل ذاكرة المكان.
سوق الحمّام حمل هذا الاسم من وجود حمّام تركي في أوائل الثلاثينيات في السوق، وكان الحمّام فيه أوقات خاصة بالرجال وأوقات خاصة بالنساء، كما حمّامات دمشق ونابلس، وعانى فترة من الفترات من الإهمال، ولكن بعد أن بدأ مشروع تطوير قلب مدينة السلط من خلال البلدية ووزارة السياحة والآثار، استعاد السوق بعضاً من ألقه، وإضافة إلى ترميمه بدأت فيه فعاليات ثقافية وتراثية وفنية، حيث تمت فيه فعاليات ليالي سوق الحمّام للتراث والفلكلور، الذي نظمته وحدة إدارة مشاريع التطوير لوسط مدينة السلط، وكان ذلك في العام 2011 م، ولا أعرف إن أصبحت هذه الفعاليات تقليداً سنوياً أم توقفت، كما عملت وزارة السياحة والآثار على رسم مسارات سياحية في المدينة تصل إلى ثمانية عشر مساراً، تغطي المدينة التراثية، وتجعل من السلط أنموذجاً لمدن الأردن التراثية.
أنهينا الجولة في سوق الحمام في ساحة العين أو ساحة السلط المركزية، وكنت طوال الوقت ورغم حرارة الجو لا أهدأ عن التحرك والتقاط الصور بعدستي، وفي الساحة أصرت عليّ العزيزة الكاتبة جميلة عمايرة، صاحبة الدعوة لي لزيارة السلط، والألق خالد عمايرة نائب رئيس منتدى زي الثقافي، أن أرتاح معهم على أحد المقاعد لنحتسي العصير وبعض قطع الشيكولاتة، وهمست لي الكاتبة جميلة عمايرة: كنت أقرأ لك في مقالاتك أنك تعود إلى سن الشباب حين تكون في الأماكن التراثية والتاريخية، لكني كنت أنظر لوجهك اليوم، فأجد أنك عدت طفلاً يتألق وجهه بالطفولة والفرح والاندهاش أثناء الجولة، فضحكت وقلت لها: التاريخ والتراث وعبق المكان يأسرني يا صديقتي، وكذلك أرواح الأجداد والجدات، فهذه الأمكنة تروي لي الكثير، وتهمس بأذني عن قصص عشق الأجداد والجدات، وتبوح لي بأسرارها.
من سوق الحمّام صعدنا إلى حي الخضر نسبة إلى سيدنا الخضر عليه السلام، والمعروف باسم القديس جاورجيوس، ويسمى أيضاً حي الحدادين نسبة إلى عشيرة الحدادين، حيث كنيسة الخضر التي تروى عنها حكايات، ولكن لم نتمكن من زيارة داخل الكنيسة بسبب التوقيت، فاكتفيت بتصوير المنطقة على أمل زيارتها في رحلة أخرى، وقبل أن نتجه إلى الرميمين طلبت من العزيز خالد أن يقف قليلاً، فنـزلت من السيارة لالتقاط بعض الصور، وقفت أنظر للسلط من على هذه التلال، وأهمس لنفسي: لا بد من زيارة أخرى.
فهناك الكثير من الأمكنة في السلط، مثل مقامات معروفة تحت أسماء النبي شعيب والنبي يهوشع في بلدة زي والنبي جادور، إضافة إلى تلال أثرية وخرائب في ضواحي السلط مثل خربة السوق وهي على بعد أربعة كيلومترات جنوب مدينة السلط، وخربة أيوب وخربة حزير وخربة الدير، والكثير من المواقع التي تستحق الزيارة والتوثيق، وهمست لنفسي مرة أخرى: إن كان ما زال علماء الآثار في الأردن لم يكتشفوا إلا القليل من المواقع في السلط، والعديد من المواقع تم اكتشافه بالصدفة المجردة أو خلال عمليات البناء، وأشعر بروحي تحلق كل هذا التحليق، فكيف لو اكتشف كل شيء فيها؟ بالتأكيد ستصبح السلط متحفاً متكاملاً يروي الحكايات.
ومن السلط وعبر طريق جميل وغابات من الأشجار اتجهنا إلى بلدة زي، فارتحنا قليلاً واحتسينا القهوة وأكلنا بعض الفواكه في حديقة منـزل السيد خالد عمايرة، الجميل كما صاحبه، لنأخذ طريقنا إلى بلدة الرميمين، وكلي اشتياق إلى معانقتها، فمنذ سن المراهقة لم أزرها، ولي فيها ذكريات زيارات عدة مع أسرتي والوالد أطال الله بعمره، ومع الوالدة رحمها الله، وحين حاولت أن أزورها أثناء أحد زيارتي لعمان، تهت عن الطريق، فكنت محلقاً بروحي التي كانت تسابق السيارة التي نركبها للوصول إلى الرميمين، وهذا ما سيكون في الحلقة المقبلة، حين تمزق الفرح على صخرة الواقع، ولم يبق في روحي إلا الأمل والحلم، بعودة الرميمين كأجمل مما كانت.
صباح آخر لرام الله، الجو حار ودرجات الحرارة مرتفعة عن معدلها السنوي العام، وكون اليوم عطلة الجمعة الأسبوعية، فقد قررت أن أعتكف في صومعتي ولا أغادرها إلا لصلاة الجمعة، ونفذت ما رغبت واكتفيت بمراقبة طيور الحمام، وهي تحط على نافذتي لتلتقط الطعام الذي اعتدت أن أضعه لها كل يوم، وأهمس لطيفي الذي ترافقني روحه في الصومعة دوماً: ما أجمل الصباح مع فنجان قهوة وعبق ورود وهديل حمام، وذكرى زيارة للسلط تنهمر من ذاكرتي إلى الورق، مع شدو فيروز وهي تشدو أغنية يعود تاريخها لعام 1957: (أنا والمساء على بابي والخير الأردن يسقي ترابي، أنا والمساء وسراجي ونهرنا الأردن يروي سياجي، بيتي يشيع ظل ربيع خلف معابره، قصب الغور ورق الحور لون ستائره، مغمور وتغير وأحب ثراه كثير، وأطل على شباكه وأطير).
فأهمس: صباح الخير يا وطني، صباح الخير يا سلط، صباحكم أجمل أحبتي أينما كنتم.
بقلم: زياد جيوسي.
المراجع
alnoor.se
التصانيف
قصص روايات فنون مسرحيات روايات وكتب ادبية الآداب