فالدعاء والتضرع ليس هو من سُنَنِ الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين فحسب، بل هو ـ كما يرى النورسي ـ سنّة كونية عامّة، تشملُ الكون وما حَوَى، والوجود ومَا وَعى، فما مِنْ فانٍ لَبِسَ ثوبَ الوجود إلاَّ بسبب استجابة رحمانية لدعوة سابقة في علم الله تعالى بلسان الحال أو المقال، لذلك قال جَلَّ شأنه {وآتاكم من كُلِّ ما سألتموه}(ابراهيم:34) فالآخرة والخلود فيها جواب على استغاثة الفطرة في الإنسان، وحنينها إلى الخلود، وإشفاقها من العدم.
فالفطرة دعاء، والأخذ بالأسباب دعاء، والذكر دعاء، والثناء على الله دعاء، والشكر على نعمائه دعاء، وما تنطوي عليه النفس البشرية من استعدادات عقلية ووجدانية للارتقاء في سلّم المدنية والحضارة دعاء.
والنورسي بهذا الفهم الشمولي الكوني والوجودي للدعاء والتضرع يشكل استدراكاً في غاية الأهمية على الفهم التقليدي النمطي الذي يقصُرُ الدعاء على الإنسان وحده من دون العالمين، وبذلك يعيد للخليقة اعتبارها التعبُّدي من حيث كَوْنُها ليستْ بأقلَّ حاجةٍ من الإنسان للدعاء والتضرع، واستمداد ديمومية حياتها ووجودها من القيومية الإلهية المحيطة بكلية الكون والوجود.
فالدعاء والتضرع ـ بلسان الحال أو المقال ـ ينتظم جميع الأشياء في هذا العالم، وإذا ما سكت مقال الإنسان عن الدعاء لأي سبب من الأسباب، يبقى لسان حاله في دعاءٍ خفيٍ لا يتوقف لحظةً واحدةً راجياً مستغيثاً طالباً العون والتأييد من الربّ المعبود على حفظ وجوده وإمدادهِ بما يمكّنِهُ من أداء رسالته المناطة به في هذه الحياة.
وقد اهتمَّ "النورسي" كثيراً بتوكيد هذا المعنى في النفوس، ومن أجل ذلك كان يستهل دروسه الإيمانية، ويبدأ رسائله وخطاباته إلى تلامذته بالآية الكريمة: {وإنْ مِنْ شئٍ إلاّ يسبح بحمده}(الإسراء:44) ويختمها بعبارة "يا باقي أنت الباقي" تذكيراً للناسين وتنبيهاً للغافلين، وإشارةً إلى هذه السنة الإلهية في الدعاء والتضرع التي لا يشذ عنها مخلوق من مخلوقات الله، فلو كُشِفَ الغطاءُ عن أسماعنا لسمعنا:
"ملايين الأصوات بملايين اللغات، تضجُّ بدعاء ملتهب تستنـزل به من خزائن الرحمة الإلهية حاجاتها المتجددة بتجدد اللحظات.
صلوات وتسابيح وأذكار تتعالى من قلب الكائنات في كل لمحة تومئ وتشير إلى إمدادات الله وعطاياه.. أصوات.. أصوات.. أصوات كل الكائنات، وجميع الموجودات من الذرّات حتى المجرَّات تتخاشع أمام ربّ العالمين وتهمس في رجاءٍ وإشفاق:
فقراء ـ يا ربنا ـ فاغننا .. عُراةُ فاكسنا .. جوعى أطعمنا .. عطشى اسقنا .. موتى أحينا .. معدومون أوجدنا .. محجوبون ـ بنورك ـ أظهرنا .. حاجاتنا إليك ـ يا ربنا ـ لا تنتهي.. فأعطنا حاجاتنا.. أمّنْ رغباتنا.. حِقّقْ آمالنا..
مِنْ غيرك نحن مشلولون.. بسواك نحن هامدون.. فأعِنَّا يا خالقنا لأداءِ ما لأجله خلقتنا.. وحركنا لإنجاز مهامَّنا التي بها حياتنا..
يا واجب الوجود.. يا الله.. يا رحمن.. يا رحيم.. مَنْ للممكنات أحدٌ سواك..؟ ومَنْ لها غيرك..؟ منكَ أتينا وإليك ـ في حاجاتنا- نعود.. ومنك حياتنا وإليك ـ في حفظها ـ نرجع.. فأجب دعاءنا يا مجيب كُلِ داعٍ.. ويا معطي كلَّ ذي حاجةٍ حاجته.. آمين" [1].
وفي عتمة التراب تنادي البذور والنّوى بلسان استعداداتها وتقول:
في أعماق كل بذرةٍ ونواةٍ شجرة.. وبين جذوعنا اليابسة خضرة ماتعة.. وربيعٌ رائق.. ونضرة مشرقة.. فأعِنَّا يا فالق الحبّ والنوى على أن يشرق من أعماقنا ربيع الشجر.. وخضرة الورق.. ونضرة الفَنَنِ.. اسقِنا ـ يا ربَّنا ـ ماء رحمتك.. مُدَّنا بدفءِ عنايتك.. غَذِّنا بلطف رعايتك.. يا مقلّبَ القلوب.. يا ملين القلوب.. أَلِنْ قلبَ الأرض لنا.. وفجّرْ عيون الرحمة في حَجَرها وصَخَرها.. واملأْ كفَّ التراب غذاءً.. واغمره حناناً.. واجعله مفعماً بحبنا والرفق بنا.. حتى نتحول شجراً.. ونثمر ثمراً، ونحقق ما خلقتنا لأجله.. وفطرتنا بسببه.." [2].
ولا يبلغ الدعاء ذروة الإخلاص إلاّ إذا انقلب إلى مناجاة خفية بين العبد وبارئه، وهي أعلى ما يمكن أنْ يرقى إليه الروح، ويسموَ إليه الفؤاد. وصاحب المناجاة لا يبتغي من ورائها أجراً، فأجرُ المناجاةِ، المناجاةُ نفسها، ومردودها يقين المناجي بأنه جليس الله وكليمه، وبأنّ قلبه المسكين الذي ظلَّ يبحث عن مأوى يُؤْوي إليه يجد الآن المأوى والسكن والسكينة بين يدي الله تعالى، وأنه تعالى أقرب إليه من حبل الوريد، يسمع مناجاته، ويشهد سِرَّهُ، ويعلم ما خفي من أغوار نفسه.
وهو بعد ذلك لن يعود من مناجاته صِفْرَ اليدين من عطايا الحق وألطافه، هذه العطايا والألطاف التي تمنحُ وجُوْدَهُ معنىً، وتعطي لحياته قيمةً، وتنقذه من الشعور بالدونية، وأنه ليس أكثر من لُقيةٍ مهملة في بيداء الوجود لا يعيره أحد اهتماماً أو التفاتاً، لكنه اليوم موضع التفات ربِّ الوجود، وموضع نظره وعنايته،  فَيُحِسُّ أنَّ شيئاً ما يتحرك بالحياة في مَواتِ ذاته، وأنّ إيمانه العتيق بدأ يتجّدد، ويزيد قوةً وبصيرةً، وأنه يُعَادُ صُنْعُهُ مرةً أخرى على عين الله وفي كنفه ورعايته.
وقلب المناجي الذي تتنـزلُ عليه ألطاف الله ورحماته، ليس كائناً منعزلاً عن بقية أجزاء النفس. فسموّ العقل، وعلو الفكر، وطهارة البدن، تدين كلها لهذه الألطاف الإلهية التي يُفيْضُ به قلبُ المناجي على بقية أجزاء النفس. وهكذا يكون الإنسان الربَّاني الذي ألمحَ إليه القرآن الكريم، والسنّة النبوية الشريفة، ووصفه أقطاب الإيمان في كل زمان ومكان.
وبالإضافة إلى عمل المناجاة في بناء النفس المؤمنة المطمئنة، فهي كذلك واحدة من عظيم الآيات التي دلَّ بها الله تعالى على وجوده سبحانه، فكما أنَّ ضوء الشمس الذي يغمر الأجواء الطلقة خارج غرفنا لا يتسّلل إلى هذه الغرف لإنارتها ما لم نفتح له النوافذ والأبواب، فكذلك ولا مشاحة في المثال ـ ولله المثل الأعلى والأقدس ـ فإن نور الله تعالى لا ينفذ إلينا ما لم نفتح منافذ الروح والقلب على العوالم الإلهية ما وراء عالم الحسّ والشهادة، ليغمرنا نوره، وليتعزّز إيماننا، ويتحول علمنا اليقين بوجوده إلى حقّ يقينّي يكاد يكون ملموساً نوره بأنامل الروح، ومشاهداً ببصيرة القلب، وهذا هو ما تمنحنا إياه المناجاة من خفايا أسرار الدعاء والتضرع.
وفي المثنوي العربي النوري [3]يقول النورسي: "لله درُّ العِلّة والذلّةِ ما أحلاها وهي مُرَّة إذْ هي التي تذيقك لذة المناجاة والتضرع والدعاء، عن ابن سمعون: كل كلام خلا من الذكر فهو لغو، وكل سكوت خلا عن الفكرة فهو سهو، وكل نظر خلا من العبرة فهو لهو".[4]
وفي الصفحات القادمة يستعرض لنا "النورسي" أنواع الأدعية والمناجاة وكما يأتي:
1ـ دعاء بلسان الاستعداد،
2ـ دعاء بلسان الأسباب،
3ـ دعاء بلسان الفطرة،
4ـ دعاء فعلي
5ـ دعاء قولي.
[1]  قراءات في فكر النورسي ـ النوافذـ ترجمة إحسان قاسم الصالحي ـ عرض وتعليق كاتب هذه السطور ص 11ـ12ـ مطبعة الزهراء الحديثة – الموصل – العراق ـ1985
[2]  المصدر نفسه ص 19ـ20
[3]  ص 314
[4]  ابن سمعون الزاهد البغدادي(300-387هـ) وهو أبو الحسين محمد بن احمد بن إسماعيل ( أو سمعون) كان يلقب الناطق بالحكمة، مولده ووفاته ببغداد، علت شهرته، حتى قيل " أوعظ من ابن سمعون". انظر إحياء علوم الدين، كتاب التفكر.
 

بقلم أديب إبراهيم الدباغ


المراجع

odabasham.net

التصانيف

شعر  شعراء   الآداب