ذكرنا في موضوع سابق.. بعض الملامح التي لابد من وضعها في الاعتبار.. ونحن نتأسى ونقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم.. ولتحقيق ذلك الاقتداء واقترابه من الكمال.
وتجيء ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم هذا العام (1402هـ 1982م) قريباً من مطلع السنة الميلادية وفي نفس اليوم الذي يحتفل فيه النصارى الشرقيون بما يزعمون أنه يوم ميلاد المسيح عليه السلام )7 يناير، كانون الثاني).
ونحن مع تحفظنا في قبول هذا الموعد أو غيره من المواعيد المتضاربة ومع اعتراضنا على كثير مما يمارسون في أعياد الميلاد مما لا يليق بمقام الأنبياء وذكرياتهم الجليلة، وعلى كثير من العقائد الباطلة التي نقضها القرآن والسنة.. ولكنا لا نشك أن سيدنا عيسى عليه السلام أخ لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.. في النبوة والرسالة.. وجدير كذلك بالتقدير والاحترام.
ولكننا نقول أيضاً: إن ذكريات الأنبياء لا يُحتفى بها بما يناقض تعاليمهم، بل هي مناسبات طيبة.. وفرص تغتنم، لإظهار الشكر لله تعالى على نعمة الهداية على أيديهم.. وتجديد العهد للاقتداء بهديهم.. وتذكير الناس بنهجهم لاتباعه والعودة إليه.
ولاشك أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم هو النعمة العظيمة والرحمة المهداة للبشرية قاطبة كما قال الله تعالى:
(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
وكما قال عليه الصلاة والسلام:
(إنما أنا رحمة مهداة).
ومن أهم مقاصد الاحتفال بذكرياته عليه الصلاة والسلام. التذكير بنهجه وهديه لاتباعه، وإن اتباعه هو دليل محبة الله تعالى:
(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم).
ملامح الأسوة الحسنة:
ولقد حددنا في مقال سابق بعض الخطوط التي لابد للمسلم أن يراعيها وهو يتمثل الاقتداء بأسوته الحسنة: سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ولابد لتحديد ملامح الأسوة الحسنة من تتبع معالمها في السيرة العطرة، للتعرف منها على الشخصية الفذة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة أخلاقه وصفاته وأعماله وتصرفاته، ويلخص ذلك قول الله تعالى فيه:
(وإنك لعلى خُلق عظيم).
وأمره المسلمين بالاقتداء به، وجعله لهم الأسوة الحسنة والمثل الأعلى، وقول السيدة عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(كان خُلُقه القرآن).
ففي القرآن والسنة والسيرة العطرة ملامح الأسوة الحسنة، وخطوطها وحدودها.
التربية النبوية في الجيل الأول:
أما التربية النبوية في الجيل الأول فتبدو واضحة في سيرة الصحابة الكرام وتاريخهم، وقد رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على عينه وشهد لهم بأنهم خير القرون على الإطلاق.
وقد أثمرت فيهم التربية النبوية الكريمة أيما إثمار.. ولذا فليس بدعاً أن يفتحوا الأمصار، وأن ينبهر الناس بأخلاقهم الكريمة فيدخلوا في دين الله أفواجاً، وارتقى جيل الصحابة الكرام كرسيَّ الأستاذية للتاريخ وللبشرية من بعدهم.. وعمروا الأرض وأرسوا العدل والحق ونشروا الإسلام وزرعوا بذور الحضارة الإسلامية الباسقة التي أظلَّ دوحُها معظمَ رقعة المعمور من الدنيا في القرون التالية.
ولذا فالاقتداء بهم، واحترامهم، وتقديرهم جميعاً واجب، وإلقاء الأضواء على طيب أخلاقهم وفضائلهم يوضح آثار التربية النبوية الفذة فيهم.. وكل انتقاص منهم إنما هو انتقاص من أستاذهم الأكبر عليه الصلاة والسلام، واتهام لمنهجه القويم وصراطه المستقيم.
الرسول القائد في المجتمع الإسلامي:
ولاشك أن استقراء السيرة النبوية وملاحظة علاقات الرسول صلى الله عليه وسلم بأصحابه في السلم والحرب وسائر الشؤون يجعل المتتبع لذلك يستجلي القيادة الحكيمة المتقنة التي جعلت الأصحاب الكرام يبادرون إلى أمر قائدهم عليه الصلاة والسلام ويمتثلون لإشارته كما شهد بذلك عروة بن مسعود الثقفي، الذي أشرنا إليه سابقاً، ونورده الآن كاملاً.. فقد ورد في زاد المعاد وغيره أن عروة قال لأصحابه بعد رجوعه من الحديبية:
(أي قوم، والله لقد وفدتُ على الملوك: على كسرى وقيصر والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً.. إذا أمرهم ابتدروا لأمره.. وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحدّون إليه النظر تعظيماً له).
هذا هو الأسوة.. وهؤلاء هم تلامذته، فأكرم بها من مدرسة، ومن أستاذية وتلمذة..
أما في الحرب، فقد كانوا يهبّون معه، حيث انتدبهم، كما قال له سيدنا سعد بن معاذ رضي الله عنه في بدر:
(لو استعرضتَ بنا هذا البحر فخضتَه لخضناه معك.. ما تخلَّف منا رجل واحد.. وما أمرتَ فيه من أمر فأمرُنا تبعٌ لأمرك.. فوالله لئن سرتَ حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرنَّ معك).
ونُسب مثل هذا للمقداد بن الأسود رضي الله عنه، ولم يكن غيرهما أقلَّ حماساً منهما لخوض المعركة التي فرضت عليهم فجأة، ولم يكونوا قد استعدوا لمثل حجمها لا نفسياً ولا مادياً.. وكانت أول تجربة قتالية في تاريخ الدولة الإسلامية، ومع ذلك أطاعوا وتلاحموا وقاتلوا ببسالة، فانتصروا، فما بالك بموقف أولئك الجند الميامين فيما تلا بدراً الكبرى من معارك.
لقد كانوا طوع أمر النبي صلى الله عليه وسلم، يعرضون أنفسهم للسهام والسلاح حماية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما فعل أبو دجانة في أُحد حيث جعل ظهره ترساً تقع فيه السهام حماية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. وكانوا يفدونه بأنفسهم وأمهاتهم قولاً وعملاً.. فداؤه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا عليه الصلاة والسلام.
وقد كان صلى الله عليه وسلم، مثال القائد البطل، حيث روى عنه أشجع الصحابة الإمام علي رضي الله عنه قوله:
(كنا إذا حمي الوطيس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يكون أقربنا إلى العدو).
وحين أدبر الأكثرون في حنين، لم يتراجع خطوة واحدة، ولا في معركة من المعارك تراجع أبداً.. وحري بقائد عظيم كرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبجند أفذاذ أبطال مطيعين مخلصين كأصحابه رضي الله عنهم.. أن ينتصروا ذلك النصر المؤزر، وأن يفتحوا كل فتح مبين.
وما أحرى أجيالنا الحالية أن تترسم خطاهم وتسير على هداهم، عسى أن تحقق بعض ما حققوا.
فقه الدعوة في السيرة النبوية:
وكسائر الموضوعات السابقة واللاحقة.. مدار البحث فيها لابد أن يكون في السيرة النبوية دراسة وتعمقاً وملاحظة واستنباطاً للفوائد والفرائد..
ولعل الحكمة كانت هي مفتاح أسلوب الدعوة.. والحكمة باب واسع للدعاة إلى الله، تتبعها الموعظة الحسنة.. فإذا كان لابد من جدال.. فليكن بالتي هي أحسن، ولاشك أن ما يصلح لقوم قد لا يصلح لآخرين، وأن المماري للمراء وحده، والمعادي حقداً وكبراً وعناداً لا يصلح معه جدال، وهنا يكون جداله قتاله، وموعظته إيقافه عند حده، والحكمة عدم إضاعة الوقت معه، كما هو الحال مع اليهود والمشركين وأعداء الإسلام الحاقدين ماضياً وحاضراً، ولاشك أن أعظم أسلوب للعودة، هو أسلوب القدوة الشخصية، أي الأسوة الحسنة الذي هو مدار البحث، والذي كان أهم وسيلة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته ولأصحابه من بعده، حيث كان حالهم ترجمة لمقالهم.. وهذا كان أهم سر في انتشار الإسلام بتلك السرعة، والسهولة والعمق والصدق مع عدم الإجبار مطلقاً، مما أدهش المؤرخين –غير المسلمين- لأنهم لا ينظرون إلا بعين واحدة، عين المادة فقط.
المنهج الإلهي.. والمنهج البشري:
ولاشك أنه لا مجال للمقارنة بين المنهاجين، ومع ذلك فقد سطرت مؤلفات عديدة في كل من المنهاجين وحيداً، وكذلك في المقارنة بينهما من ناحية معينة كالتشريع الجنائي أو الاقتصاد، أو القانون المدني أو غير ذلك.. ولاشك أن الإسلام ومنهجه كان دائماً هو الأعلى:
(أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون؟).
(وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به).
وحسبنا –للمقارنة- أن نستعرض الواقع الجاهلي المعاصر، أو واقع الجاهلية الأولى، لنرى مدى سوئه، وضآلته، وتخلفه، وتخبطه، بجانب عصر النبوة والراشدين.. أي الدولة الإسلامية الأولى.. فالمقارنة الواقعية العملية أكبر دليل وبرهان لقوم يعقلون.
وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم: دروس وعبر:
فكما تستفاد دروس كثيرة من سيرته صلى الله عليه وسلم ومن حياته، كذلك هناك دروس كثيرة وعبر جمة يمكن استنباطها من وفاته عليه الصلاة والسلام، فكل مصيبة بعده جلل –أي بسيطة- كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقد كانت وفاته مصاباً ليس فوقه مصاب أذهل كثيرين من أكثر المسلمين حباً له.. ومن أرجحهم عقلاً، وأقواهم في الحق كعمر رضي الله عنه، ومع ذلك فقد برزت شخصية أبي بكر رضي الله عنه ولم يحجب ألمه الشديد رأيه السديد الذي عالج الموقف بحكمة.
لاشك أن في وفاته صلى الله عليه وسلم تأكيداً لبشريته، ولعظمته، ولوجوب الاستمرار في السير على نهجه وفي أهمية القيام بأمر الخلافة والحكم.. مما جعل الصحابة يتداعون لحسم هذا الأمر قبل دفنه عليه الصلاة والسلام لئلا ينفرط عقد الأمة، ويضيع أمرها حيث تبقى من دون راع.
وهذا يؤكد أهمية الخلافة والإمامة والحكم في الإسلام.
وفي إنقاذ أبي بكر رضي الله عنه لبعث أسامة، دروس وعبر.
وفي حركة الردة ومقاومتها والرد عليها كذلك دروس وعبر كثيرة.
وغير ذلك من الأمور المتعلقة بوفاته عليه الصلاة والسلام يمكن استنباط العبر الوفيرة منها.
جهاد الأمس وجهاد اليوم:
الجهاد ماض إلى يوم القيامة، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، كما ورد في بعض الآثار.. ولكن شتان ما بين جهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وتابعيهم وأهل القرون الأولى، وبين جهاد هذه الأيام، الذي يتلخص معظمه في الكلام..
ولعل نتائج كل من الجهادين منسجمة مع حجم كل منهما، فالجهاد المخلص بكل قوة ممكنة، مع وحدة الصف وتحديد الهدف والصدق والإخلاص لله ينتج نصراً مؤزراً وفتحاًُ مبيناً، ونشراً لدين الله، ورفعاً للواء الحق في ربوع المعمورة.
وجهاد الكلام الذي لا يتبع أكثره عمل- لا ينتج إلا الهزائم تلو الهزائم، والتراجعات تلو التنازلات، والاستسلام والعجز والخزي.
فكيف لمتفرقين متنازعين فاشلين متنكرين –عملياً- لتاريخهم ودينهم وتراثهم وأجدادهم، مهملين في الإعداد، مجاملين لقوى الكفر والضلال، متواطئين ضد الإسلام والمسلمين في كثير من الأحيان، كيف لهم أن يحققوا ما حقق الأجداد من أمجاد؟
إن النتيجة في كلا الحالين طبيعية غير مستغربة.
إلا أنه ظل هناك بقع مضيئة وسط هذا الظلام الدامس/ منها ذبالة من أمل، كجهاد الأفغانيين المسلمين ضد الدببة الروس وأذنابهم..
وجهاد المسلمين الفلبينيين ضد القوى الصليبية الاستيطانية الحاقدة..
وجهاد مسلمي قطاني (جنوب تايلند) ضد قوات التاي البوذية الظالمة.. وجهاد غير هؤلاء، هنا وهناك بمختلف الوسائل ضد مختلف قوى الكفر والطغيان وأساليبه الشرسة المتنوعة التي تستلزم أساليب مثلها في التنوع، وعلى مستواها في الإحكام والتخطيط.
(إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً فمهل الكافرين أمهلهم رويداً).
(وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال).
(فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام).
فعسى أن تعود راية الجهاد الإسلامي الحق المخلص في كل الميادين ليتحقق النصر بإذن الله ويفرح المؤمنون بنصر الله.. هذا إذا نصروه وتخلوا عن محاربته بالربا ومبارزته بالمعاصي:
(إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم).
ملامح الهدي النبوي في السياسة والاقتصاد:
وهذا باب واسع من أبواب الهدي النبوي كذلك يمكن استنباط قواعده وخطوطه من الكتاب والسنة والسيرة العطرة.
وقد كان البعض ينكر وجود مثل هذه الأمور في الإسلام، ويريد عزل الإسلام عن الحياة والواقع، بحجج مختلفة، يحاول أن يمنطقها ويذوقها ويضرب لها الأمثال أحياناً. فإذا جوبه بآية أو وقائع بهت وأسقط في يديه..
ذلك أن التشريع الإسلامي واقعي، أي شُرع لمعالجة الواقع البشري، وهذا يظهر في أمرين:
1 – نزول الآيات كان غالباً لأسباب وحسب وقائع حقيقية كانت تحدث فينزل القرآن لمعالجتها، ولكن بلفظ عام بحيث ينسحب حكمها على كل مثيلاتها من القضايا إلى يوم الدين.. ومن هنا قال علماء الأصول:
(العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب).
2 – إن الإسلام طبق عملياً في واقع المجتمع النبوي والراشدي –على الأقل- يعني أنه ليس (يوتوبيا مثالية) كجمهورية أفلاطون التي كانت مجرد خيالات لا تقوم لواقع، وكشيوعية ماركس البلشفية، التي ما إن اصطدمت بالواقع حتى أحدثت من المشاكل والمذابح والمظالم أضعاف ما قدمت للقضاء عليه.. وما لبث أن تراجعت واستمر تراجعها عاماً بعد عام حتى تبخرت أو كادت.. ولم يبق منها إلا الاسم فقط.
إن الهدي النبوي، كان حياة متكاملة، طبق في دولة المدينة، وركزت الأسس السياسية للدولة الإسلامية قائمة على قاعدتين رئيسيتين: العدل والشورى، وطرح الإسلام نظريته الاقتصادية بوضوح، وطبقها ببساطة، وظلت –بمرانتها- وعموم نصوصها ووسائل الاستنباط المختلفة، صالحة لمعالجة الأوضاع الاقتصادية السيئة التي تئن منها البشرية.. مما دفع أحد المفكرين الغربيين المعاصرين (الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي) أن ينادي بالإسلام حلاً لمشاكل كل البشرية المعاصرة.. ناقضاً –بالبرهان- زيف نظامي الرأسمالية المتسيّبة، والشيوعية المنغلقة.
ولا شك في أن ما ألف من كتب كغيره خلال العقود الأخيرة في بسط نظريات الإسلام السياسية والاقتصادية وغيرها.. مقنع لمن أراد أن يعرف الحق بتجرد.. غير متعصب لرأي ولا حاقد على الإسلام، وستظل البشرية في شقائها وضلالها إلى أن تستعمل البلسم المحمدي الإسلامي، وتسترشد بالهدي النبوي في السياسة والاقتصاد وسائر شؤون الحياة الدنيا والآخرة، ولا يصلح آخر هذه الأمّة إلا بما صلح به أولها، والله المستعان.
المراجع
odabasham.net
التصانيف
شعر شعراء الآداب