شعرت بالاحباط , عندما اخبرني مصلح الساعات ان ساعة جدي مجرد خردة , ولا تتوفر مواد احتياطية لتصليحها , ونصحني بشراء ساعة جديدة , فقد تغير الزمان , لكن جدي يصر على التصلاح واكد لي انه لا يرغب بشراء ساعة جديدة , وضعتها في جيبي وانصرفت .
مررت في سوق مزدحم , انبهرت كثيرا بمصابيح المتاجر زاهية الالوان , وشغلني كثيرا تدافع الناس على الرصيف , فشعرت بحركة داخل جيبي , ظننت انها نتيجة طبيعية لتماس المارة , فنظرت الى جيبي نظرة خاطفة , رأيت كفا بسبابة من غير ابهام قد انتشلت ساعة جدي , فبادرت ان امسك صاحبها , فلم افلح , لقدانسل مسرعا مختفيا بين الناس , ولم استطع الجري خلفه , توقفت عن مطاردته , وقلت في نفسي , لعل الشرطة تعرف لصا بهذه المواصفات , قصدت اقرب مركزا للشرطة , فأخبرت الضابط :
كان لديه سبابة .. ولم يكن في كفه ابهام .
هل تمكنت من مشاهدة خنصره ؟
كلا .. فقد كانت حركته خاطفة ! .
لابد ان يكون ذلك اللص الشهير ذو الخنصر والسبابة ! .
هل تعرفونه ؟ .
نحن نلاحقه منذ مدة طويلة ... ولم نستطع القاء القبض لرشاقته وخفة حركته ! .
ابتسم الضابط ووعدني بأنه سيلقي القبض عليه , لكنه لم يضمن استعادة الساعة , كون اللص قد باعها من فوره , عادة لا يبقي اللص ما يسرق , بل يبادر الى بيعه في اقرب فرصة سانحة .
كيف سأخبر جدي ؟ , سينزعج ويوبخني , في هذه الاثناء , رنّ هاتفي النقال , لقد كان اخي :
يجب ان تعود الى البيت حالا ! .
ماذا هناك ؟ .
لقد توفي جدي ! .
صدمني هذا الخبر , فلم اعرف ماذا اقول , لكني تلعثمت وقلت :
الحمدلله ! .
ماذا تقول ؟ .
لا شيء ... لا شيء اني قادم .
تأملت الموقف , عندما فقدت الساعة , توفي جدي , وكأن حياة جدي كانت مرتبطة بتلك الساعة , لم يسرق اللص الساعة فقط , بل قتل جدي ايضا , فاصبح الموضوع موضوع ثأر وانتقام ! .
عدت الى الشارع فيما بعد , لعلي ألمح اللص في مكان ما , بينما كنت اتجول سمعت ضجة في مكان قريب , وسمعت صراخا ( امسكوا اللص ذو الخنصر والسبابة ! ) , فركضت نحو مصدر الصوت , لكن اللص كان قد اختفى , وأحبط الملاحقون له , كما احبطت انا في تلك ليلة ! .
وقفت في زواية من زوايا الشارع , اجيل نظري هنا وهناك , وكنت اتسائل ان كان الشرطة لم يفلحوا بالقبض عليه هل يمكنني انا فعل ذلك ؟ , تأملت سيارة الشرطة , التي ركنت في الجهة المقابلة , تمعنت النظر في رجال الشرطة , مع كل تلك الاحمال التي يحملونها , من شأنها الإبطاء من حركتهم , كيف سيتسنى لهم ملاحقة لص بهذه الرشاقة ! , وكيف سيمكنني انا فعل ذلك ؟ ! , حيث لا رشاقة لدي , ولا خبرة للتعامل مع المجرمين ! .
ذات يوم , بينما كنت اقف في زاوية من زوايا ذلك الشارع , قررت ان اكمن له في مكان ما , لكن كيف سأتعرف عليه ولم ارى وجهه ؟ , طالما وانه لا يملك سوى خنصر وسبابة في كفه الايمن , فسوف يخفي كفه عن الانظار , اذا فلأبدأ من كل من يدفن كفه الايمن في جيبه , او يخفيه بأي وسيلة كانت .
لاحظت شابا في مقتبل العمر , يخفي كفه الأيمن في جيب البنطلون , سرت خلفه , من غير ان اترك له مجالا للشك , تنقل بين شوارع كثيرة , حتى أجهدتني ملاحقته , واخيرا , توقف واخرج كفه الايمن سليما تماما , فأخرج علبة سجائر , استخرج منها سيجارة حشرها بين شفتيه , واشعلها بولاعته , تقدمت نحوه مقهقها وقلت له :
لقد اتعبتني ! .
انا ! ... كيف ؟ .
كنت ابحث عن شخص يحمل ولاعة .. واخيرا وجدتك ..
ابتسم ليّ واصرّ ان يشعل سيجارتي , شكرته وانصرف ! .
في اليوم التالي , لمحت حدثا قد علق يده اليمنى بخيط حول رقبته , وقد لفّ كفه الايمن بضمادات طبية , يمعن النظر في المارة , ويدير رأسه في كل الاتجاهات , فقررت ان ألاحقه , بحذر سرت خلفه , حتى شاهدته يقترب من سيدة حملت حقيبتها الصغيرة على كتفها , وكانت مفتوحة , اقترب منها اكثر واكثر , بحذر خلع نصف الضمادات من كفه الايمن وبحركة غريبة , خلص يده من الخيط الذي يتدلى من على عنقه , وتخلص من كل الضمادات , فأذا في كفه خنصر وسبابة فقط , انه هو اللص الذي ابحث عنه ! , كنت قريبا منه ما يكفي ان امسكه بأحكام , وقبل ان يدس خنصره وسبابته في الحقيبة , فاجأته وامسكت به , نظر اليّ وضحك ضحكة كأني اعرفها , وقال ليّ :
اووووه استاذي ! .
من استاذك يا لص ! .
الم تعرفني ؟ ... يبدو انك قد نسيتني ! .
كرر تلك الضحكة التي يبدو اني قد سمعتها من قبل وكرهتها , أمعنت النظر في وجهه , فلم يبدو غريبا عليّ .
هذا انا مراد ! ... ذلك التلميذ الشاطر في درس اللغة العربية ! .
يبدو مألوفا ليّ , لكني لا زلت فاقدا التركيز , خوفا من ان يفلت من يدي بخدعة ما , لكنه اردف قائلا :
التلميذ مراد الذي كان يصحح لك ... حيث كنت دائما تخطأ في قواعد اللغة العربية .. فأضحك ويضحك التلاميذ ... وتستشيط غضبا عليّ ! .
اووووووه هذا انت ! .
لقد تذكرت , انه ذلك التلميذ الذكي , حيث كنت كثيرا ما اخطأ في قواعد اللغة العربية ويصحح ليّ , فيضحك ويضحك التلاميذ , فيغلي الدم في عروقي , ويجف حلقي , حيث كنت أسوأ مدرس لغة عربية في العالم ! , فكرت في قتله عدة مرات , لو لا اني لا املك الجرأة , وتذكرت انه قد تعرض لحادث , فأمتنع من الحضور للمدرسة , فصليت صلاة الشكر عدة مرات !! , لأن الله خلصني منه , فقلت له سائلا :
ماذا حدث لك ؟ ... ولماذا تسرق ؟ .
كما تعرف استاذ ! ... ان ابي قد توفي في ذلك الحادث المشئوم عليّ , السعيد عليك , واصيبت والدتي بالعجز , وبتر كفي الايسر , ولم يبق من كفي الايمن سوى الخنصر والسبابة كما ترى ! .
لقد كنت سعيدا لتركك المدرسة .. لكني لست سعيدا بما حدث لك ! .
اما اخوتي فلازالوا صغارا .. فأضطررت للبحث عن عمل , لم اجد عملا كوني لا املك كفوفا سليمة .. لذا دربت نفسي جيدا على السرقة بخنصر وسبابة , كي اجلب الدواء لامي والطعام لاخوتي ! .
تفكير غير سليم ! .
ماذا ستفعل الان ؟ ... هل سوف تسلمني للشرطة ؟ ! .
احترت في امري , هل أسلمه للشرطة وانتقم منه ؟ , فطالما فكرت بالانتقام , من ذلك التلميذ الذي جعل مني أضحوكة يوما ما , لكن من سوف يتولى رعاية عائلته ؟ , تلك العائلة التي تعيش في ظلام ما وراء كواليس المجتمع , ام أطلقه , فأكون كمن أطلق جرثومة تعيث فسادا وخرابا في المدينة , لست ادري ايهما افضل ! .
استاذ ! ... لقد سمعت انك تركت المدرسة ايضا ! .
نعم .
لماذا ؟ .
بدأ الدم يغلي في عروقي , وتورم وجنتاي من الغضب , فأجبته صارخا في وجهه :
بسببك !!!! .
المراجع
odabasham.net
التصانيف
ادب قصص مجتمع قصة