هو لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر.
وكان يقال لأ بيه ربيع المقترين لجوده وسخائه. وقتلته بنو أسد في الحرب التي كانت بينهم وبين قومهم وقومه.
وعمه أبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة، سمي بذلك لقول أوس بن حجر فيه:
فلا عب أطراف الأسنة عامر
|
|
فراح له حظ الكتيبة أجمـع
|
وأم لبيد تامرة بنت زنباع العبسية، إحدى بنات جذيمة بن رواحة.
ولبيد أحد شعراء الجاهلية المعدودين فيها والمخضرمين ممن أدرك الإسلام، وهو من أشراف الشعراء المجيدين الفرسان القاء المعمرين، يقال إنه عمر مائة وخمساً وأربعين سنة.
أخبرني بخبره في عمره أحمد بن عبد العزيزي الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة عن عبد الله بن محمد بن حكيم. وأخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد، عن علي بن الصباح، عن ابن الكلبي، وعن علي بن المسور عن الأصمعي، وعن رجالٍ ذكرهم، منهم أبو اليقظان وابن دأب، وابن جعدبة، والوقاصي.
أن لبيد بن ربيعة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بني كلاب بعد وفاة أخيه أربد وعامر بن الطفيل، فأسلم وهاجر وحسن إسلامه، ونزل الكوفة أيام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فأقام بها. ومات بها هناك في آخر خلافة معاوية، فكان عمره مائةً وخمساً وأربعين سنة، منها تسعون سنةً في الجاهلية، وبقيتها في الإسلام.
قال عمر بن شبة في خبره: فحدثني عبد الله بن محمد بن حكيم أن لبيداً قال حين بلغ سبعاً وسبعين سنة:
قامت تشكى إلي النفس مجهشةً
|
|
وقد حملتك سبعاً بعد سبعينـا
|
فإن تزادي ثلاثاً تبلغـي أمـلاً
|
|
وفي الثلاث وفاء للثمانـينـا
|
فلما بلغ التسعين قال:
كأني وقد جاوزت عشرين حجةً
|
|
خلعت بها عن منكبـي ردائيا
|
فلما بلغ مائةً وعشراً قال:
أليس في مائةٍ قد عاشها رجل
|
|
وفي تكامل عشرٍ بعدها عمر
|
فلما جاوزها قال:
ولقد سئمت من الحاة وطولها
|
|
وسؤال هذا الناس كيف لبيد
|
غلب الرجال وكان غير مغلبٍ
|
|
دهر طـويل دائم مـمـدود
|
يوماً أرى يأتي علـي ولـيلة
|
|
وكلاهما بعد المضاء يعـود
|
وأراه يأتي مثل يوم لـقـيتـه
|
|
لم ينتقص وضعفت وهو يزيد
|
أخبرني محمد بن دريد قال حدثنا أبو حاتم السجستاني قال حدثنا الأصمعي قال: وفد عامل بن مالكٍ ملاعب الأسنة، وكان يكنى أبا البراء، في رهطٍ من بني جعفر، ومعه لبيد بن ربيعة، ومالك بن جعفر، وعامر بن مالكٍ عم لبيد، على النعمان، فوجدوا عنده الربيع بن زيادٍ العبسي وأمه فاطمة بنت الخرشب، وكان الربيع نديماً للنعمان مع رجلٍ من تجار الشام يقال له زرجون بن توفيل ، وكان حريفاً للنعمان يبايعه ، وكان أديباً حسن الحديث والندام، فاستخفه النعمان، وكان إذا أراد أن يخلو على شرابه بعث إليه وإلى النطاسي: متطبب كان له، وإلى الربيع بن زياد فخلا بهم، فلما قدم الجعفريون كانوا يحضرون النعمان لحاجتهم، فإذا خرجوا من عنده خلا به الربيع فطعن فيهم وذكر معايبهم، وكانت بنو جعفر له أعداء ، فلم يزل بالنعمان حتى صده عنهم، فدخلوا عليه يوماً فرأوا منه جفاءً، وقد كان يكرمهم ويقربهم، فخرجوا غضاباً ولبيد متخلف في رحالهم يحفظ متعاعهم، ويغدوا بإبلهم كل صباحٍ يرعاها، فأتاهم ذات ليلةٍ وهم يتذكرون أمر الربيع، فسألهم عنه فكتموه، فقال: والله لا حفظت لكم متاعاً، ولا سرحت لكم بعيراً أو تخبروني فيم أنتم؟ وكانت أم لبيدٍ يتيمةً في حجر الربيع، فقالوا: خالك قد غلبنا على الملك وصد عنا وجهه. فقال لبيد: هل تقدرون على أن تجمعوا بيني وبينه فأزجره عنكم بقول ممض لا يلتفت إليه النعمان أبداً؟ فقالوا: وهل عندك شيء؟ قال: نعم.
قالوا: فإنا نبلوك. قال: وما ذاك؟ قالوا: تشتم هذه البقلة - وقدامهم بقلة دقيقة القضبان، قليلة الورق، لاصقة بالأرض، تدعى التربة - فقال: هذه التربة التي لا تذكي ناراً ولا تؤهل داراً، ولا وتسر جاراً، عودها ضئيل، وفرعها كليل، وخيرها قليل، أقبح البقول مرعى، وأقصرها فرعاً، وأشدها شاسع، وآكلها جائع، والمقيم عليها قانع، فالقوا بي أخا عبس، أرده عنكم بتعس، وأتركه من أمره في لبس. قالوا: نصبح ونرى فيك رأينا فقال عامر: انظروا إلى غلامكم هذا - يعني لبيداً - فإن رأيتموه نائماً فليس أمره بشيء، إنما هو يتكلم بما جاء على لسانه، وإن رأيتموه ساهراً فهو صاحبه. فرمقوه فوجدوه وقد ركب رحلاً وهو يكدم وسطه حتى أصبح، فقالوا: أنت والله صاحبه. فعمدوا إليه فحلقوا رأسه وتركوا ذؤابته، وألبسوه حلة ثم غدا معهم وأدخلوه على النعمان، فوجدوه يتغدى ومعه الربيع بن زيادٍ، وهما يأكلان لا ثلث لهما، والدار والمجالس مملوءة من الوفود، فلما فرغ من الغداء أذن للجعفريين فدخلوا عليه، وقد كان أمرهم تقارب، فذكروا الذي قدموا له من حاجتهم، فاعترض الربيع بن زياد في كلامهم، فقال لبيد في ذلك:
أكل يومٍ هامتـي مـقـزعـه
|
|
يا رب هيجاهي خير من دعه
|
نحن بني أم البـنـين الأربـعة
|
|
سيوف حزوجفان مـتـرعـه
|
نحن خيار عامر بن صعصـعة
|
|
الضاربون الهام تحت الخيضعة
|
والمطمعون الجفنة المدعدعـه
|
|
مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معـه
|
إن استه من برص ملـمـعـه
|
|
وإنه يدخل فيهـا إصـبـعـه
|
يدخلها حتى يواري أشجـعـه
|
|
كأنه يطلـب شـيئاً ضـيعـه
|
فرفع النعمان يده من الطعام وقال: خبثت والله علي طعامي يا غلام؛ وما رأيت كاليوم. فأثبل الربيع على النعمان فقال: كذب والله ابن الفاعلة ، ولقد فعلت بأمه كذا. فقال له لبيد: مثلك فعل ذلك بربيبة أهلة والقريبة من أهله، وإن أمي من نساءٍ لم يكن فواعل ما ذكرت. وقضى النعمان حوائج الجعفريين، ومضى من وقته وصرفهم، ومضى الربيع بن زياد إلى منزله من وقته، فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه، وأمره بالا نصراف إلى أهله، فكتب إليه الربيع: إني قد عرفت أنه قد وقع في صدرك ما قال لبيد، وإني لست بارحاً حتى تبعث إلي من يجردني فيعلم من حضرك من الناس أني لست كما قال لبيد. فأرسل إليه: إنك لست صانعاً بانتفائك مما قال لبيد شيئاً، ولا قادراً على رد ما زلت به الألسن، فالحق بأهلك. فلحق بأهله ثم أرسل إلى النعمان بأبيات شعر قالها، وهي:
لئن رحلت جمال لا إلـى سـعةٍ
|
|
ما مثلها سعة عرضاً ولا طـولا
|
بحيث لو وردت لخم بأجمعـهـا
|
|
لم يعدلوا ريشةً من ريش سمويلا
|
ترعى الروائم أحرار البقول بهـا
|
|
لا مثل رعيكم ملحاً وغـسـويلا
|
فاثبت بأرضك بعدي واخل متكئاً
|
|
مع النطاسي طوراً وابن توفيلا
|
فأجابه النعمان بقوله:
شرد برحلك عـنـي حـيث شـئت ولا
|
|
تكثر علـي ودع عـنـك الأبـاطـيلا
|
فقد ذكرت بـشـيءٍ لـسـت نـاسـيه
|
|
ما جاورت مصر أهل الشام والـنـيلا
|
فما انتفاؤك منه بـعـد مـا جـزعـت
|
|
هوج المطي به نحو ابـن سـمـويلا
|
قد قـيل ذلـك إن حـقـا وإن كـذبـاً
|
|
فما اعـتـذارك مـن قـول إذا قـيلا
|
فالحق بـحـيث رأيت الأرض واسـعةً
|
|
فانشر بها الطرف إن عرضاً وإن طولا
|
قال: وقال لبيد يهجو الربيع بن زياد - ويزعمون أنها مصنوعة. قال:
ربيع لا يسقك نحوي سـائق
|
|
فتطلب الأ ذحال والحقـائق
|
ويعلم المعيا به والـسـابـق
|
|
ما أنت إن ضم عليك المازق
|
إلا كشيءٍ عاقـه الـعـوائق
|
|
إنك حاسٍ حـسـوةً فـذائق
|
لا بد أن يغمز منك العـاتـق
|
|
غمزاً ترى أنك منـه ذارق
|
إنك شيخ خـائن مـنـافـق
|
|
بالمخزيات ظاهر مطابـق
|
كان يخفي بعض شعره ثم أظهره وكان لبيد يقول الشعر ويقول: لا تظهروه، حتى قال:
وذكر ما صنع الربيع بن زياد، وضمرة بن ضمرة . ومن حضرهم من وجوه الناس، فقال لهم لبيد حينئذٍ: أظهروها.
قال الأصمعي في تفسير قوله: الخيضعة، أصله الخضعة بغير ياء، يعني الجلبة والأصوات، فزاد فيها الياء. وقال في قوله بالمخزيات ظاهر مطابق: يقال طابق الدابة، إذا وضع يديه ثم رفعهما فوضع مكانهما رجليه، وكذلك إذا كان يطأ في شوك. والمأزق: المضيق. والنازق: الخفيف.
نسخت من كتاب مروي عن أبي الحكم قال: حدثني العلاء بن عبد الله الموقع قال: اجتمع عند الوليد بن عقبة سماره وهو أمير الكوفة وفيهم لبيد، فسأل لبيداً عما كان بينه وبين الربيع بن زيادٍ عند النعمان، فقال له لبيد: هذا كان من أمر الجاهلية وقد جاء الله بالإسلام. فقال له: عزمت عليك - وكانوا يرون لعزمة الأمير حقا - فجعل يحدثهم، فحسده رجل من غني فقال: ما علمنا بهذا. قال: أجل با أبن أخي، لم يدرك أبوك مثل ذلك، وكان أبوك ممن لم يشهد تلك المشاهد فيحدثك.
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثني العمري قال: حدثني الهيثم عن ابن عياش عن محمد بن المنتشر قال: لم يسمع من لبيد فخره في الإسلام غير يوم واحد، فإنه كان في رحبة غني مستلقياً على ظهره قد سجى نفسه بثوبه، إذا أقبل شاب من غني فقال: قبح الله طفيلاً حيث يقول:
جزى الله عنا جعفراً حيث أشرفت
|
|
بنا نعلنا في الواطـين فـزلـت
|
أبوا أن يملونـا ولـو أن أمـنـا
|
|
تلاقي الذي يلقون منا لـمـلـت
|
فذو المال موفور وكل معصـبٍ
|
|
إلى حجرات أدفـأت وأظـلـت
|
وقالت هلموا الدار حتى تبـينـوا
|
|
وتنجلي الغماء عمـا تـجـلـت
|
ليت شعري ما الذي رأى من بني جعفرٍ حيث يقول هذا فيهم؟ قال: فكشف لبيد الثوب عن وجهه وقال: يا ابن أخي، إنك أدركت الناس وقد جعلت لهم شرطة يرعون بعضهم عن بعض، ودار رزق تخرج الخادم بجرابها فتأتي برزق أهلها، وبيت مال يأخذون منه أعطيتهم، ولو أدركت طفيلاً يوم يقول هذا لم تلمه. ثم استلقى وهو يقول: أستغفر الله. فلم يزل يقول: أستغفر الله؛ حتى قام.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا محمد بن حكيم، عن خالد بن سعيد قال: قال مر لبيد بالكوفة على مجلس بني نهد وهو يتوكأ على محجن له فبعثوا إليه رسولاً يسأله عن أشعر العرب، فسأله فقال: الملك الضليل ذو القروح. فرجع فأخبرهم فقالوا: هذا امرؤ القيس. ثم رجع إليه فسأله: ثم من؟ فقال له: الغلام المقتول من بني بكر. فرجع فأخبرهم فقالوا: هذا طرفة. ثم رجع فسأله ثم من؟ قال: ثم صاحب المحجن، يعنى نفسه أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني أبو عبيدة قال: لم يقل لبيد في الإسلام إلا سلام واحداً، وهو:
الحمد لله إذا لم ياتني أجـلـي
|
|
حتى لبست من الإسلام سربالا
|
أخبرني أحمد قال: أخبرني عمي قال: حدثني محمد بن عباد بن حبيب المهلبي قال: حدثنا نصر بن دأب عن دواد بن أبي هند عن الشعبي قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة: أن استنشد من قبلك من شعراء مصرك ما قالوا في الإسلام. فأرسل إلى الأغلب الراجز العجلي، فقال له: أنشدني. فقال:
أرجزاً تريد أم قصـيدا
|
|
لقد طلبت هيناً موجودا
|
ثم أرسل إلى لبيدٍ فقال: أنشدني. فقال: إن شئت ما عفي عنه - يعني الجاهلية - فقال: لا، أنشدني ما قلت في الإسلام. فانطلق فكتب سورة البقرة في صحيفةٍ ثم أتى بها وقال: أيدلني الله هذه في الإسلام مكان الشعر.
فكتب بذلك المغيرة إلى عمر، فنقص من عطاء الأغلب خمسمائةٍ وجعلها في عطاء لبيد، فكان عطاؤه ألفين وخمسمائة، فكتب الأغلب: يا أمير المؤمنين أتنقص عطائي أن أطعتك؟! فرد عليه خمسائة وأقر عطاء لبيد على ألفين وخمسمائة.
قال أبو زيد: وأراد معاوية أن ينقصه من عطائه لما ولي الخلافة، وقال: هذان الفودان- يعني الألفين - فما بال العلاوة؟ يعني الخمسمائة. فقال له لبيد: إنما أنا هامة اليوم أو غد، فأعرني اسمها ، فلعلي لا أقبضها أبداً فتبقى لك العلاوة والفودان . فرق له وترك عطاءه على حاله، فمات ولم يقبضه.
وقال عمر بن شبة في خبره الذي ذكره عن عبد الله بن محمد بن حكيم. وأخبرني به إبراهيم بن أيوب عن عبد الله بن مسلم قالا: كان لبيد من جوداء العرب ، وكان قد آلى في الجاهلية أن لا تهب صبا إلآ أطعم، وكان له جفنتان يغدو بهما ويروح في كل يوم على مسجد قومه فيطعمهم، فهبت الصبا يوماً والوليد بن عقبة على الكوفة، فصعد الوليد المنبر فخطب الناس ثم قال: إن أخاكم لبيد بن ربيعة قد نذر في الجاهلية ألا تهب صباً إلا أطعم، وهذا يوم من أيامه، وقد هبت صباً فأعينوه، وأنا أول من فعل. ثم نزل عن المنبر فأرسل إليه بمائة بكرة، وكتب إليه بأبياتٍ قالها:
أرى الجزار يشحذ شفرتـيه
|
|
إذا هبت رياح أبي عقـيل
|
أشم الأنف أصيد عـامـري
|
|
طويل الباع كالسيف الصقيل
|
وفى ابن الجعفري بحلفتـيه
|
|
على العلات والمال القلـيل
|
بنحر الكوم إذ سحبت علـيه
|
|
ذيول صباً تجاوب بالأصيل
|
فلما بلغت أبياته لبيداً قال لآبنته: أجيبيه، فلعمري لقد عشت برهةً وما أعيا بجواب شاعر. فقالت ابنته:
إذا هبت رياح أبي عـقـيلٍ
|
|
دعونا عند هبتهـا الـولـيدا
|
أشم الأنف أروع عبشـمـيا
|
|
أعان على مروءته لـبـيدا
|
بأمثال الهضاب كأن ركـبـاً
|
|
عليها من بني حام قـعـودا
|
أبا وهبٍ جزاك اللـه خـيراً
|
|
نحرناها فأطعمنا الـثـريدا
|
فعد إن الكريم لـه مـعـاد
|
|
وظني يا ابن أروى أن تعودا
|
فقال لها لبيد: أحسنت لولا أنك استطعمته. فقالت: إن الملوك لا يستحيا من مسألتهم. فقال: وأنت يا بنية في هذه أشعر.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال: حدثني القاسم بن يعلي عن المفضل الضبي قال: قدم الفرزدق فمر بمسجد بني أقيصر، وعليه رجل ينشد قول لبيد:
وجلا السيول عن الطلول كأنها
|
|
زبر تجد متونها أقـلامـهـا
|
فسجد الفرزدق فقيل له: ما هذا يا أبا فراس؟ فقال: أنتم تعرفون سجدة القرآن، وأنا أعرف سجدة الشعر.
أخبرنا أحمد بن عبد الله بن عمار قال: حدثنا يعقوب الثقفي، وابن عياش، وسمعر بن كدام، كلهم عن عبد الملك بن عمير قال: أخبرني من أرسله القراء الأشراف - قال الهيثم: فقلت لابن عياش: من القراء الأشراف؟ قال: سليمان بن صرد الخزاعي، والمسيب بن نجبة الفزاري ، وخالد بن عرفطة الزهري، ومسروق بن الأجدع الهمداني، وهانئ بن عروة المرادي - إلى ربيعة وهو في المسجد، وفي يده محجن فقلت: يا أبا عقيل، إخوانك يقرونك السلام ويقولون: أي العرب أشعر؟ قال: الملك الضليل ذو القروح. فردوني إليه وقالوا: ومن ذو القروح؟ قال: امرؤ القيس. فأعدوني إليه وقالوا: ثم من؟ قال: الغلام ابن ثمان عشرة سنة. فردوني إليه فقلت: ومن هو؟ فقال: طرفة. فردوني إليه فقلت: ثم من؟ قال: صاح المحجن حيث يقول:
إن تقوى ربنا خير نـفـل
|
|
وبإذن الله ريثي وعجـل
|
أحمد الـلـه ولا نـد لـه
|
|
بيديه الخير ما شاء فعـل
|
من هداه سبل الخير اهندى
|
|
ناعم البال ومن شاء أضل
|
يعني نفسه. ثم قال: أستغفر الله.
أخبرني إسماعيل بن يونس الشعبي قال: حدثنا عمر بن شبة عن ابن البواب قال: جلس المعتصم يوماً للشراب، فعناه عض المغنين قوله:
وبنو العباس لا بأتون لا
|
|
وعلى ألسنهم خفت نعم
|
زينت أحلامهم أحسابها
|
|
وكذاك الحلم زين للكرم
|
فقال: ما أعرف هذا الشعر، فلمن هو؟ قيل: للبيد. فقال: وما للبيد وبني العباس؟ قال المغني: إينما قال:
فجعلته وبنو العباس. فاستحسن فعله ووصله.
وكان يعجب بشعر لبيد فقال: من منكم يروي قوله:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع
|
فقال بعض الجلساء: أنا . فقال: أنشدنيها. فأنشد:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالـع
|
|
وتبقى الجبال بعدنا والمصانـع
|
وقد كنت في أكناف جار مضنةٍ
|
|
ففارقني جار بـأريد نـافـع
|
فبكى المعتصم حتى جرت دموعه، وترحم على المأمون، وقال: هكذا كان رحمة الله عليه! ثم اندفع وهو ينشد باقيها ويقول:
فلا جزع إن فرق الدهر بـينـنـا
|
|
فكل امرىء يوماً له الدهر فاجـع
|
وما الناس إلا كالـديار وأهـلـهـا
|
|
بها يوم حلوها وبـعـد بـلا قـع
|
ويمضون أرسالاً ونخلف بعـدهـم
|
|
كما ضم إحدى الراحتين الأصابـع
|
وما المرء إلا كالشهـاب وضـوئه
|
|
يحور رماداً بعد إذ هـو سـاطـع
|
وما البر إلا مضمرات من التـقـى
|
|
ومـا الـمـال إلا عـاريات ودائع
|
أليس ورائي إن تراخت مـنـيتـي
|
|
لزوم العصا تحنى عليها الأصابـع
|
أخبر أخبار القرون التي مـضـت
|
|
أدب كأني كلمـا قـمـت راكـع
|
فأصبحت مثل السيف أخلق جفـنـه
|
|
تقادم عهد القين والنصل قـاطـع
|
فلا تبعدن إن الـمـنـية مـوعـد
|
|
علينا فدانٍ للـطـلـوع وطـالـع
|
أعـاذل مـا يدريك إلا تـظـنــياً
|
|
إذا رحل الفتيان من هـو راجـع
|
أتجزع مما أحدث الدهر بالـفـتـى
|
|
وأي كريم لم تصـبـه الـقـوارع
|
لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى
|
|
ولا زاجرات الطير ما الله صانـع
|
قال: فعجبنا والله من حسن ألفاظه، وصحة إنشاده، وجودة اختياره.
أخبرني الحسين بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه. وحدثنا محمد بن جرير الطبري قال: حدثنا محمد بن حميد الرازي قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق قال : كان عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة، فتفكر يوماً في نفسه فقال: والله ما ينبغي لمسلمٍ أن يكون آمناً في جوار كافر ورسول الله صلى الله عليه وسلم خائف. فجاء إلى الوليد بن المغيرة فقال له: أحب أن تبرأ من جواري. قال: لعله رابك ريب. قال: لا، ولكن أحب أن تفعل. فقال: فاذهب بنا حتى أبرأ منك حيث أجرتك . فخرج معه إلى المسجد الحرام فلما وقف على جماعة قريش قال لهم: هذا ابن مظعونٍ قد كنت أجرته ثم سألني أن أبرأ منه، أكذاك يا عثمان؟ قال: نعم. قال: اشهدوا أني منه بريء.
قال: وجماعة يتحدثون من قريش معهم لبيد بن ربيعة ينشدهم، فجلس عثمان مع القوم فأنشدهم لبيد:
ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل
|
فقال له عثمان: صدقت. فقال لبيد:
فقال عثمان: كذبت. فلم يدر القوم ما عنى. فأشار بعضهم إلى لبيد أن يعيد، فأعاد فصدقه في النصف الأول وكذبه في الآخر، لأن نعيم الجنة لا يزول. فقال لبيد: يا معشر قريش، ما كان مثل هذا يكون في مجالسكم. فقالم أبي بن خلف أو ابنه فلطم وجه عثمان، فقال له قائل: لقد كنت في منعةٍ من هذا بالأمس. فقال له: ما أحوج عيني هذه الصحيحة إلى أن يصيبها ما أصاب الأخرى في الله.
أخبرني محمد بن الزبان قال: حدثنا أحمد بن الهيثم قال: حدثني العمري عن الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش قال: كتب عبد الملك إلى الحجاج يأمره بإشحاص الشعبي إليه، فأشخصه فألزمه ولده، وأمر بتخريجهم ومذاكرتهم، قال: فدعاني يوماً في علته التي مات فيها فغص بلقعةٍ وأنا بين يديه، فتساند طويلاً ثم قال: أصبحت كما قال الشاعر:
كأني وقد جاوزت سبعـين حـجة
|
|
خلعت بها عنـي عـذار لـجـام
|
إذا ما رآني الناس قالوا ألـم يكـن
|
|
شديد محال البطش غـير كـهـام
|
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى
|
|
وكيف يمن يرمـى ولـيس بـرام
|
ولو أنني أرمى بـسـهـم رأيتـه
|
|
ولكنني أرمـي بـغـير سـهـام
|
فقال الشعبي: فقالت: إنا لله، استلم الرجل والله للموت! فقلت: أصلحك الله، ولكن مثلك ما قال لبيد:
باتت تشكى إلي الموت مجهشةً
|
|
وقد حملتك سبعاً بعد سبعينـا
|
فإن تزادي ثلاثاً تبلغـي أمـلاً
|
|
وفي الثلاث وفاء للثمانـينـا
|
فعاش إلى أن بلغ تسعين سنة فقال :
كأني وقد جاوزت تسعين حجةً
|
|
خلعت بها عن منكبـي ردائيا
|
فعاش إلى أن بلغ مائة وعشر سنين فقال:
أليس في مائةٍ قد عاشها رجل
|
|
وفي تكامل عشرٍ بعدها عمر
|
فعاش إلى أن بلغ مائةً وعشرين سنة فقال:
ولقد سئمت من الحياة وطولها
|
|
وسؤال هذا الناس كيف لبـيد
|
غلب الرجال وكان غير مغلبٍ
|
|
دهـر جـديد دائم مـمـدود
|
يوم أرى يأتي عـلـيه ولـيلة
|
|
وكلاهما بعد المضاء يعـود
|
ففرح وساتبشر وقال: ما أرى بأساً، وقد وجدت خفاً . وأمر لي بأربعة الآف درهم، فقبضتها وخرجت، فما بلغت الباب حتى سمعت الواعية عليه.
وغنى في هذه الأبيات التي أولها:
عمر الوادي خفيف رملٍ مطلقٍ بالوسطى عن عمرو.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثنا هارون بن مسلم عن العمري عن الهيثم بن عدي عن حمادٍ الراوية قال: نظر النابغة الذبياني إلى لبيد بن ربيعة وهو صبي، مع أعمامه على باب النعمان بن المنذر، فسأل عنه فنسب له، فقال له: يا غلام، إن عينيك لعينا شاعرٍ، أفتقرض من الشعر شيئاً؟ قال: نعم يا عم. قال: فأنشدني شيئاً مما قلته. فأنشده قوله:
ألم تربع على الدمن الخوالي
|
فقال له: يا غلام، أنت أشعر بني عامر، زدني يا بني. فأنشده:
فضرب بيديه إلى جنبيه وقال: أذهب فأنت أشعر من قيس كلها، أو قال: هوزان كلها.
وأخبرني بهذا الخبر عمي قال: حدثنا العمري عن لقيط عن أبيه، وحماد الرواية عن عبد الله بن قتادة المحاربي قال: كنت مع النابغة بباب النعمان بن المنذر، فقال لي النابغة: هل رأيت لبيد بن ربيعة فيمن حضر؟ قلت: نعم قال: أيهم أشعر؟ قلت: الفتى الذي رأيت من حاله كيت وكيت. فقال: اجلس بنا حتى يخرج إلينا. قال: فجلسنا فلما خرج قال له النابغة: إلي يا ابن أخي. فأتاه فقال: إنشدني. فأنشده قوله:
ألم تلمم على الدمن الخوالي
|
|
لسلمى بالمذانب فالقفـال
|
فقال له النابغة: أنت أشعر بني عامر، زدني. فأنشده:
طلل لخولة بالرسيس قديم
|
|
فبعاقلٍ فلأنعمين رسوم
|
فقال له: أنت أشعر هوازن، زدني. فأنشده قوله:
عفت الديار محلها فمقامها
|
|
بمنى تأبد غولها فرجامها
|
فقال له النابغة: اذهب فأنت أشعر العرب.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني عبد الله بن محمد بن حكيم، عن خالد بن سعيد، أن لبيداً لما حضرته الوفاة قال لابن أخيه ولم يكن له ولد ذكر: يا بني، إن أباك لم يمت ولكنه فني. فإذا طعموا فقل لهم فليحضروا جنازة أخيهم. ثم أنشد قوله:
وإذا دفنت أباك فـاج
|
|
عل فوقه خشباً وطنيا
|
وسقائفا صـمـا روا
|
|
سيها يسددن الغصونا
|
ليقين حر الوجه سـف
|
|
ساف التراب ولن يقينا
|
قال: وهذه الأبيات من قصيدةٍ طويلة.
وقد ذكر يونس أن لابن سريجٍ لحناً في أبياتٍ من قصيدة لبيدٍ هذه، ولم يجنسه.
أبني هل أبـصـرت أع
|
|
مامي بني أم البـنـينـا
|
وأبي الـذي كـان الأرا
|
|
مل في الشتاء له قطينـا
|
وأبا شـريك والـمـنـا
|
|
زل في المضيق إذا لقينا
|
ما إن رأيت ولا سـمـع
|
|
ت بمثلهم في العالمينـا
|
فبقيت بـعـدهـم وكـن
|
|
ت بطول صحبتهم ضنينا
|
دعني وما ملكـت يمـي
|
|
ني إن سددت بها الشؤونا
|
وافعل بمالـك مـا بـدا
|
|
لك مستعاناً أو معـينـا
|
قال: وقال لابنتيه حين احتضر ، وفيه غناء:
تمنى ابنتاي أن يعيش أبـوهـمـا
|
|
وهل أنا إلا من ربيعة أو مضـر
|
فإن حان يوماً أن يموت أبوكـمـا
|
|
فلا تخمشا وجها ولا تحلقا شعـر
|
وقولا هو المرء الذي لا حلـيفـه
|
|
أضاع، ولا خان الصديق ولا غدر
|
إلى الحولثم اسم السلام عليكـمـا
|
|
ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتـذر
|
في هذه الأبيات هزج خفيف مطلق في مجرى الوسطى. وذكر الهشامي إنه لإسحاق. وذكر أحمد بن يحيى أنه لإبراهيم.
قال: فكانت ابنتاه تلبسان ثيابهما في كل يوم، ثم تأتيان مجلس بني جعفر بن كلاب فترثيانه ولا تعولان، فأقاما على ذلك حولاً ثم انصرفتا.
سألناه الجزيل فما تـأبـى
|
|
فأعطى فوق منيتنا وزادا
|
وأحسن ثم أحسن ثم عدنـا
|
|
فأحسن ثم عدت له فعادا
|
مراراً ما دنوت إلـيه إلا
|
|
تبسم ضاحكاً وثنى الوسادا
|
الشعر لزياد الأعجم، والغناء لشارية، خفيف رمل بالبنصر مطلق.